عناصر الخطبة
1/ التوفيق للأعمال الصالحة نعمةٌ كُبرى 2/ من علامات قبول الحج 3/ أعظمُ مقاصِد الحجِّ 4/ من صور الشركِ العظيم المُنافي لتوحيد الله 5/ جهود المملكة في تنظيم موسم الحج 6/ الإيثار بالقرب جائز 7/ التحذير من الحج بغير إذن وتصريح 8/ الانحراف الفكري من أخطر ما يقعُ فيه الشباب 9/ خطورة الجرأة على التكفير واستحلال الدماء 10/ التذكير بقضية المسجد الأقصى.اقتباس
الحجُّ مدرسةٌ تعمُرُ القلوبَ والجوارِح بإفراد الله - سبحانه وتعالى -، إفرادُه بالعبادة خشيةً وإجلالاً، مهابةً ودعاءً، محبَّةً ورجاءً، توكُّلاً واعتمادًا، إنابةً وتسليمًا، توحيدًا نقيًّا تخرجُ به النفوسُ من الخُرافات والأوهام. الحجُّ أعظمُ الدروس المُربِّية لتعظيم الخالق - سبحانه -، وتحقيق كمال الذلّ له - عزَ شأنُه -، وتحقيق غاية المحبَّة له - سبحانه -؛ ليسلمَ العبدُ من أصول الشرك ووسائله، وأسبابه وذرائِعه..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأرض والسماوات، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ المخلوقات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، وعلى آله وأصحابِه أهل الطاعات والقُرُبات.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى، واعلَموا أن الفوزَ والسعادةَ والنجاةَ في طاعة المولَى.
معاشر المسلمين: نحمدُ الله - جل وعلا - بما منَّ علينا من مواسِم الخيرات، ووفَّق فيها الصالحين لإعمارها بالطاعات.
حُجَّاج بيت الله:
هنيئًا لكم على نعمة إتمام النُّسُك.. تقبَّل الله منكم وحفِظَكم، ورعاكم وردَّكم إلى أهلِكم سالِمين غانِمين، وها أنتم في مدينةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فحيَّاكم الله طِبتُم مقامًا، وسعِدتُم ليلاً ونهارًا.
عباد الله:
إن التوفيقَ للأعمال الصالحة نعمةٌ كُبرى تستوجِبُ مزيدَ الشكر للمولَى - جل وعلا -، شُكرًا يفرِضُ على العبد المُداومةَ على التقوى، والمُصابَرَة على طاعة المولَى، والاستِباقَ إلى الخير والهُدى، والثباتَ على توحيد الله - جل وعلا -، والمُتابعَةَ لسُنَّة المُصطفى - عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم -.
قيل للحسن البصري: ما الحجُّ المبرور؟ قال: "أن تعود زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة".
وذكر ابن رجبٍ - رحمه الله -: أن رجلاً بعد أن حجَّ دعَته نفسُه إلى معصية الله، فسمِع هاتفًا يقول له: يا هذا! ألم تحُجّ؟!
إن العباد واجبُهم الاستقامةُ على الطريق المُستقيم، والعملُ بطاعة الخالق العظيم في كل وقتٍ وحين، الله - جل وعلا - يقول لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) [هود: 112]، ويقول له - جلَّ شأنُه - وهو خطابٌ لأمته -: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت: 6].
المُسلمُ حياتُه كلُّها يجبُ أن تكون موسِمًا للطاعات، والمُسارعة إلى نَيل رضا ربِّ الأرض والسماوات، كما قال الله - جل وعلا - لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
ويقول - صلى الله عليه وسلم - في وصيَّته: "قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم".
إخوة الإسلام:
أعظمُ مقاصِد الحجِّ: تربيةُ النفوس على الغاية العُظمى، وتثبيتُها في القلوب، ألا وهي: تحقيقُ توحيد الله - جل وعلا -؛ ليكون المُسلمُ مُوحِّدًا لله - عزَّ شأنُه -، مُوحِّدًا ظاهرًا وباطنًا، قولاً وعملاً وسلوكًا، مُوحِّدًا لله - سبحانه -، لا ينكسِرُ ولا يخضعُ إلا لله - سبحانه -، ولا يذلُّ ولا يخنَع إلا له - عزَّ شأنُه -.
الحجُّ مدرسةٌ تعمُرُ القلوبَ والجوارِح بإفراد الله - سبحانه وتعالى -، إفرادُه بالعبادة خشيةً وإجلالاً، مهابةً ودعاءً، محبَّةً ورجاءً، توكُّلاً واعتمادًا، إنابةً وتسليمًا، توحيدًا نقيًّا تخرجُ به النفوسُ من الخُرافات والأوهام.
الحجُّ أعظمُ الدروس المُربِّية لتعظيم الخالق - سبحانه -، وتحقيق كمال الذلّ له - عزَ شأنُه -، وتحقيق غاية المحبَّة له - سبحانه -؛ ليسلمَ العبدُ من أصول الشرك ووسائله، وأسبابه وذرائِعه، ولهذا ذكرَ الله - جل وعلا - في ثنايا آيات الحجِّ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31].
المُوحِّدُ المُؤمنُ لا يطلُبُ المددَ والغوثَ عند الشدائِد إلا من الله - جل وعلا -، لا يلجأُ عند المضائِق إلا لله القادِر، ليقينِه بأنه لا يدفعُ الضررَ ويجلِبُ النفعَ إلا ربُّه - عز وجل -، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].
إن من الشركِ العظيم المُنافي لتوحيد الله - جل وعلا -: دعاءُ غير الله؛ كالاستغاثة بالأموات، والتعلُّق بالأولياء والصالحين ودعائهم، والنذر لهم، أو التعبُّد لهم بالطواف على قبورهم، أو اعتقاد أنهم يعلَمون الغيبَ، أو أنهم يكشفون ضرًّا أو يجلِبُون دفعًا من دون الله - جل وعلا -، مما لا يملِكُه إلا الخالقُ القادر.
ومن ذلك أيضًا: التصديقُ بالسحر والسحرة والمُشعوِذين، والاعتقادُ في الكُهَّان والمُنجِّمين.
الله - جل وعلا - يُريد منَّا أن نعتقِد قولَه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام: 17]، فلا نتوجَّه ولا ندعُو إلا ربَّنا - سبحانه وتعالى -.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يدعُو لله نِدًّا دخل النار" (رواه البخاري).
معاشر المسلمين:
لقد آلَمَ كلَّ مُسلم حادثُ التدافُع في مِنى، ولكن الحمدُ لله على قضائِه وقدَره، وغفرَ الله - جل وعلا - لمن ماتَ، وجعلَهم في عِداد الشهداء، وبحكمة الله قدَّر لهم حُسن الخاتمة؛ فمن مات على شيءٍ بُعث عليه. فأحسنَ الله عزاءَ أهليهم وذوِيهم، وعوَّضهم خيرًا، وأحسنَ لهم المثوبةَ والأجرَ، وعجَّل الله بمنِّه وكرمِه شفاءَ المُصابين.
وإن خادم الحرمين الشريفين - جزاه الله خيرًا - أولَى هذا الأمرَ وغيرَه جُلَّ اهتمامه، وأمرَ بالتحقيق العادل لمعرفة إن كان هناك سبب ليُحاسَب مُقصِّر، ويُعاقَب مُتسبِّب، إن كان ثمَّة مُتسبِّب.
إخوة الإسلام:
ولكن هذا الحدَث لن يُعكِّر الجهودَ العظيمة والأعمال الكبيرة، والخدمات الجبَّارة التي تبذُلُها حكومةُ خادم الحرمين الشريفين، في خدمة الحُجَّاج والمُعتمِرين، والسعي لتقديم كل غالٍ ورخيصٍ في مشروعات إعمار الحرمين الشريفين والمشاعِر المُقدَّسة، والتي لا يُعرفُ لها مثيلٌ. وهذا واجبٌ من واجبات الحكومة لا منَّة في ذلك إلا لله - جل وعلا -، ولكن من لا يشكُر الناسَ لا يشكُر الله.
وخادمُ الحرمين ونائباه يُشرِفون بأشخاصهم على كل الجهود التي لا تقِفُ عند حدٍّ في كل سنةٍ عن مُراجعة الخِطط، وبذل المزيد فيما يخدمُ مصالِح الحجِّ؛ بل يعتبِرون من أعظم الواجِبات عليهم. فجزاهم الله خيرًا.
الدولةُ السعودية منذ نشأتها على يد الإمامين محمد بن سعود والإمام محمد بن عبد الوهاب، وهي قائمةٌ على التوحيد، وعلى تطبيق الإسلام وخدمة قضاياه، وقد توالَت هذه الحكومة إلى وقتِنا هذا، وعلى رأسِها خادمُ الحرمين الشريفين، تُديرُ الحجَّ ومواسِمَ العُمرة طيلَة العام، بكل اقتِدارٍ وافتِخارٍ، يشهدُ بذلك الواقعُ الملمُوس الذي لا يُنكِرُه إلا مطمُوسُ البصيرة، من حاقدٍ أو حاسدٍ على تلك النعمة التي أولاها الله - جل وعلا - لوُلاتها، والله يختارُ من يشاء.
نعم، الكمالُ لله وحده، ولكن من يُشكِّك أو يقدَح في حرصِ هذه الحكومة على سلامة الحُجَّاج وراحتهم، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تطوير المشاعِر المُقدَّسة، وتسخير كل الإمكانات المُتاحة، من بشريةٍ وماليةٍ وأمنيةٍ وتقنيةٍ وطبيةٍ، وكل ذلك يعرِفُه العدوُّ المُنصِف قبل المُحبِّ العادل.
من يُشكِّك في ذلك فهو مُكابِر سُفسطائيٌّ يُنكِرُ ضوءَ الشمس في رابِعة النهار، وليس هذا شأنُ المُسلم؛ فالمُسلم شكورٌ حميد.
نقولُ بلسان كل مُسلم: جزاك الله خيرًا يا خادم الحرمين الشريفين، وجزى الله وليَّ عهدك، ووليَّ وليَّ عهده، وشكرَ الله لكم، وسِيروا على بركة الله، وبنعمةٍ من الله أن وفَّقكم لهذه الأمانة العظيمة، وأجزلَ الله مثوبتَكم، وباركَ في جهودكم. ولن يجِد الشانِئُ إلا حسرةً وخسارة.
هذه نعمةٌ عليكم - يا قادة هذه البلاد -، نعمةٌ كُبرى باختيار الله هذه الدولة للقيام على الحرمين، ثم قيامُها على تطبيق الإسلام وتوحيد الله - جل وعلا -، وتطبيق شريعة الله وإتمام سُنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن هنا، فالشكرُ موصولٌ لأمير الحجِّ أمير منطقة مكة المُكرَّمة على جهوده المُتتابعة، التي شهِدَها الناسُ في الإعلام، أحسن الله له الجزاءَ، ووفَّقه للمزيد والعطاء.
وشكرَ الله لجميع القطاعات الحُكومية، والتي سهّرت وتسهَر على خدمة ضيوف الرحمن، لاسيَّما الرجال الأوفياء رجال الأمن على جهودهم المُتواصِلة لحفظِ الأمن والأمان، والاطمئنان والاستِقرار في خِضمِّ أزمانٍ تعيشُ فتنًا كُبرى لا تخفَى على عاقلٍ.
والشكرُ موصولٌ لكافَّة الكوادِر الطبية الذين أبلَوا بلاءً حسنًا، جزى الله الجميع خيرَ الجزاء، وبارك فيهم، وحفِظَهم وأسعدَهم دُنيا وأخرى.
إخوة الإسلام:
إن وليَّ الأمر في هذه البلاد وهو يقومُ بمسؤوليته المُلقاة على عاتقِه في القيام بمصالِح الحجِّ المُتعدِّدة، ومع ضخامَة عدد حُجَّاج بيت الله من سائر الأقطار، فإن المصالِح الشرعيَّة دعَت إلى بعض التنظيمات التي اقتضَتها ضرورةُ درء المفاسِد والشرور، من التزاحُم الضخم جرَّاء الأعداد المهُولة، ومن خلال تلك النُّظُم التي تعود على راحة الحَجيج، ليقضُوا فرضَهم ويُؤدُّوا واجبَهم، والتي إنما بُنِيَت بعد فتاوى من أهل العلم.
فإنه حينئذٍ لا يليقُ بالمُسلم أن يتحايَلَ على هذه الأنظمة، أو يضرِبَ بهذا عرض الحائِط لغرض حبِّ الخير من أداء نافلة الحجِّ.
نقولُ ومن منبر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: ونحن إنما نبتغي الخيرَ للمُسلمين جميعًا، ومن باب ما أوجبَ الله على طلبة العلم، نقولُ: لا يليقُ بالمُسلم أن يتحايَلَ على هذه الأنظمة أو يضرِب بها عرضَ الحائِط لغرض حبِّ الخير من أداء نافلة الحجِّ.
فمقاصِد الشريعة، وقواعدها العامة، وأصولُها الكبرى تُوجِبُ على المُسلمين خاصةً في مثلِ هذه الأزمان، تُوجِبُ عليهم التعاوُن على البرِّ والتقوى.
ومن ذلك: فتحُ المجال للأعداد العظيمة ممن لم يسبِق لهم أن أدَّوا فرضَهم، وذلك حقٌّ من حقوق الأُخوَّة الإيمانية، وفرضٌ من فُروض المحبَّة العقائدية؛ قال - سبحانه -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُ لنفسه».
والشريعةُ المُحمديةُ يجبُ أن تُؤخذ صورةً كاملةً من جميع أوامرها، ومن جميع توجيهاتها. وحينئذٍ فلا ينبغي أن يتَّجه بعضٌ من المُسلمين بحُسن قصدٍ إلى مُخالفة إجماع أهل العصر بضرورة تحديد العدد في الحجِّ، والتنظيم الذي يُمكنُ معه تحقيقُ المصالِح ودرءُ المفاسِد.
كيف يليقُ بالمُسلم مُخالفةَ أوامر وليِّ الأمر فيما لا يترتَّب عليه تركُ واجبٍ أوجبَه الله عليك، ولا مُخالفةُ أمرٍ شرعيٍّ، بل إنما أمرَ وليُّ الأمر بذلك لمصالِح عُظمى للمُسلمين.
كيف يليقُ بالمُسلم أن يقعَ في مُخالفةٍ شرعيةٍ من ترك الإحرام من الميقات، ليأتي بنفلٍ ما أُلزِم به شرعًا، ليحتالَ على النظام؟!
بل إن من رحمةِ الله - جل وعلا - بعباده: أن من علِم الله منه صدقَ النيَّة لأداء نفل الحجِّ، ولم يُمكِّنه التنظيم من ذلك، ففضلُ الله واسع، ويحصلُ بالنية الأجرُ والمثوبة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن بالمدينة لرجالاً ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم، حبسَهم المرض"، وفي روايةٍ: "إلا شارَكوكم في الأجر" (رواه مسلم).
وفي حديث أنس قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن أقوامًا خلفَنا بالمدينة ما سلَكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حبسَهم العُذر" (رواه البخاري).
وهل هناك - أيها الفُضلاء - .. وهل هناك - يا مُحبِّي الخير - عُذرٌ أعظمَ من عُذر محبَّة التوسِعة على المُسلمين، والرحمة بالمُؤمنين حتى لا يحصل من التزاحُم ما لا يُحمد عُقباه؟!
يقول ابن القيم - رادًّا على قاعدةٍ يستدلُّ بها البعضُ -: "قولُ من قال من الفُقهاء: لا يجوزُ الإيثارُ بالقُرب، لا يصحُّ"؛ أي: لا يصحُّ هذا القول، "وقد آثرَت عائشةُ الصدِّيقةُ - رضي الله عنها وعن أبيها -، آثرَت الفاروق عُمر - رضي الله عنه - بدفنه في بيتها بجوار الحبيبِ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - ..".
إلى أن قال: "وهل هذا إلا كرمٌ وسخاءٌ وإيثارٌ على النفس بما هو أعظمُ محبوباتها؛ تفريجًا لأخيه المُسلم، وتعظيمًا لقدره .."، إلى أن قال: "فيكونُ المُؤثِرُ بها ممن تاجَرَ فبذلَ قُربةً وأخذَ أضعافَها".
ثم نقلَ عن الصحابة عدمَ الكراهة في هذا الموضوع، ثم قال: "ولا يمنعُ هذا كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا مكارِمُ أخلاق". اهـ كلامُه.
وحينئذٍ فكيف بمن يُؤثِرُ للامتِناع عن حجِّ النفل بقصد توسِعته على من يُؤدِّي الفرضَ خاصةً في مثل هذه الأزمان، التي يعظُمُ فيها الزحام. فالإيثارُ بالقُربة هنا لمصلحةٍ عُظمى تعُمُّ الأمة، وتُسهِّلُ عليها أداءَ فريضة الحجِّ.
والمُوفَّق من وفَّقه الله.
أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أحمدُ ربي وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فمن اتقاه أسعدَه ووقاه، وفازَ ونجا دُنيا وأُخرى.
أيها المُسلمون:
إن التكالُب على أمة الإسلام وديارها أمرٌ وصفُه لا يخطُرُ ببال، ولا يُمكن أن يُحيطَ بمُخطَّطات الأعداء عاجلُ مقال، وخاصةً دولة الحرمين الشريفين، تُحاكُ ضدَّها وضدَّ استقرارها من الحاقِدين ما يعجزُ عن وصفِه اللسانُ في مثل هذا المقام المُوجَز.
فيا شبابَ المُسلمين:
إن من نُذُر الخطر: ما تزخَرُ به وسائل الاتصال من سيل المعلومات التي لا يتميَّزُ فيها حقٌّ وباطل، ولا صدقٌ وكذب. معلوماتٌ ومُخطَّطاتٌ يشتدُّ بها الهُجوم على هذه البلاد ومُكتسباتها وقياداتها وشعبها، والأصلُ: أنه حقدٌ في منظومة الحِقد على الإسلام وعلى أهله.
وإن العاقلَ الذي يخشَى على دينِه ودُنياه هو من يأخذُ الحذَرَ، وينأَى بنفسه عن أسبابِ الفتن، خاصةً من شابٍّ يتقبَلُ ما يقرأُ بجهلٍ وانخِداعٍ وقلَّة تجربةٍ وخبرة، مما يدفعُ إلى المهالِك والمخاطِر التي لا تُستدركُ عواقبُها الخطِر.
فالحذَرَ الحذَرَ، والسعيدُ من اعتبَر. حافِظوا - أيها الشباب - على بلادكم وعقيدتكم .. حافِظوا على أمن هذه البلاد واستِقرارها، وخيراتها ومُكتسباتها، الله - جل وعلا - يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفُرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنَين أبعَد، ومن أرادَ بُحبُوحة الجنة فليلزَم الجماعة".
وليعلَم شبابُنا - حفِظَهم الله من الفتن - أن هناك مُخطَّطات من أعداء الإسلام تتلوَّن بأساليب شتَّى، وصُورٍ لا تُحصَى، لتصِلَ بهم إلى مُفارقَة جماعتهم، والخروج بهم على مُجتمعهم وبُلدانهم ووُلاة أمورهم، فيقعُوا حينئذٍ فيما لا يُحمد دُنيا وأُخرى.
إن أخطرَ ما يقعُ فيه الشباب: أن ينحرِفَ فِكرُه، ويظنُّ أنه على حقٍّ، فيتَّجه من هذا الفِكر لتكفير المُسلمين، ويُرتّب على ذلك من العواقِب ما لا يُستدرَك، والعياذُ بالله.
قال الغزالي: "والذي ينبغي: الاحتِرازُ من التكفير ما وجد إليه سبيلاً؛ فإن استِباحة الدماء والأموال من المُصلِّين إلى القبلة، المُصرِّحين بالشهادتين خطأٌ، والخطأُ في ترك ألف كافرٍ في الحياة أهوَنُ من الخطأ في سفك محجَمةٍ من دم مُسلم".
وقال الشيخُ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب - بعد كلامٍ مُحقَّقٍ في خُطورة التكفير -: "فإن إخراجَ رجُلٍ من المُسلمين، أو إدخالَه من أعظم أمور الدين، وقد استزلَّ الشيطانُ أكثرَ الناس في هذه المسألة".
وهذه الأقوالُ إنما جاءَت مُنبثِقةً من المدرسة النبوية التي يحكِيها ابنُ عُمر حينما يقول، اسمَعوا لهذا القول، اسمَعوه بصدقٍ وإخلاصٍ، وتفكُّرٍ وتأمُّل: "إن من ورَطَات الأُمور التي لا مخرجَ منها لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلِّه" (رواه البخاري).
إن من المصائِب العُظمى التي تفاجأَ بها أهلُ هذه البلاد وغيرُهم: تلك الحادثة التي صدرَت من شبابٍ مُسلمٍ بلغَ بها الإجرام أشدَّه وأقبحَه من التهاوُن بسفك الدماء، والأخلاق، والمروءة، والقرابَة.
فيا شبابَ الإسلام:
اتقوا الله - سبحانه -، اسمَعوا لهذا الحديث العظيم، من منبر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي وقفَ عليه أفضلُ الخلق أجمعين محمد - عليه أفضلُ الصلاة والتسليم -، اسمَعوا لهذا الحديث الذي حذَّر فيه - عليه الصلاة والسلام - أمتَه من تلك الأحوال السيئة، والأفعال الآثِمة التي أوقعَ الأعداءُ شبابَنا فيها:
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّثُنا أن بين يدَي الساعة الهَرْج، قيل: وما الهَرجُ؟ قال: "الكذب والقتل"، قالوا: أكثر مما نقتُل الآن؟ - أي: في الحرب مع الكفار -، قال: "إنه ليس بقتلِكم الكفار" - أي: المُحاربين -، "ولكنه قتلُ بعضكم بعضًا، حتى يقتُل الرجلُ جارَه، ويقتُل أخاه، ويقتُل عمَّه، ويقتُل ابنَ عمِّه"، قالوا: سبحان الله! ومعنى عقولُنا يا رسول الله؟! قال: "إنه تُنزعُ عقولُ عامة ذاكم الزمان، ويُخلفُ لها هباءٌ من الناس يحسبُون أنهم على شيءٍ وليسُوا على شيءٍ"؛ والحديثُ صحيحٌ عند أهل العلم.
وفي حديثٍ رواه مُسلم، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده؛ ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أي شيءٍ قتَلَ، ولا يدري المقتُول على أي شيءٍ قُتِل".
نسأل الله السلامة والعافية.
روى ابن أبي شيبة، عن مسروق قال: قدِمنا على عُمر، قال: "كيف عيشُكم؟"، قلتُ: أخصبُ قومٍ من قومٍ يخافون الدجال. قال: "وما قبل الدجال أخوفُ عليكم؛ الهَرْجُ!"، قلتُ: ما الهَرْجُ؟ قال: "القتلُ، حتى إن الرجلُ يقتلُ أباه".
فيا أيها المسلمون في كل مكان، من شبابٍ وغيرهم! اتقوا الله - جل وعلا - في دماء المُسلمين .. اتقوا الله في قتل الأنفُس المعصُومة ولو كان كافرًا مُعاهَدًا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتلَ مُعاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنة".
فكيف بالمُصلِّين الذين يشهَدون ألا إله إلا الله، ويشهَدون أن محمدًا رسول الله، ويُصلُّون إلى القِبلة، ويذبَحون ذبيحَتَنا، ويُصلُّون صلاتَنا. كيف بك - أيها المُسلم - حين تقِفُ بين يدَي الله - جل وعلا -، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُسامة - وقد تأوَّل وهو في حربٍ بينهم وبين المُشركين -، يقول: "كيف بك يا أُسامة إذا جاءَت "لا إله إلا الله" تُحاجُّ عن صاحبِها؟!".
السلامةُ إنما هي في لُزوم العلم الشرعي، واتباع الجماعة، ونبذ الفُرقة.
فيا معاشر المُؤمنين:
اتقوا الله والتزِموا بالقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، والعلماء الربانيِّين.
معاشر المُسلمين:
وفي خِضَمِّ مآسِي المُسلمين المُتعدِّدة مع تلك الثورات التي أوقدَت من الفتن ما اللهُ به عليم، حسبُنا الله ونِعم الوكيل. فلم تنسَ ولن تنسَى الأمةُ الإسلاميةُ بجميع أجيالها قضيَّتَهم الكُبرى "احتلال مسرَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، فستبقَى القضيةُ الإسلاميةُ التي لا تقبلُ تنازُلاً ولا نسيانًا.
إن على المُسلمين أن يعُوا أن هذه القضية هي قضيَّتُهم الأُولى، هي قضيَّةٌ عقائديَّةٌ، قضيَّةٌ دينية، تمسُّ دينَهم ونبيَّهم وكتابَهم وثالث مُقدَّساتهم، فضلاً عن ديارهم وأهلِيهم، فلا خلاصَ حينئذٍ إلا بالرجوع إلى الله - جل وعلا - والتقَوِّي به، والتسلُّح بسلاح الإيمان والعقيدة الصحيحة التي دخلَ بها عُمر الفاروقُ وتسلَّم بها القُدسَ في عزَّةٍ لا تحمِلُ قسوةً ولا قتلاً، إنما تحمِلُ رحمةً ورأفةً وسعادةً لبني الإنسان.
فنقولُ للمُسلمين خاصَّةً أهل فلسطين: اعتصِموا بالله وحدَه، اصبِروا على الحق، صابِروا على الإسلام، رابِطوا، ثِقُوا بالله - جل وعلا -، اجتمِعوا على البرِّ والتقوى، دعُوا عنكم التفرُّق والتنازُع والتشرذُم الحاصِل الذي لا يرضاه الله، ولا ترتضّيه سُنَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
حينئذٍ وعدُ الله حقٌّ، وميعادُه صادقٌ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضُرُّهم من خذلَهم ولا من خالفَهم، حتى يأتي أمرُ الله - تبارك وتعالى –".
ثم إن اللهَ - جل وعلا - أمرَنا بما تزكُو به نفوسُنا، ألا وهو: الإكثارُ من الصلاةِ والتسليمِ على النبيِّ الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن آل البيت، وعن الصحابةِ أجمعين، ومن سارَ على نَهجهم إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوال المُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوال المُسلمين، اللهم أنقِذنا من الذلِّ والهوَان، اللهم أنقِذنا من الذلِّ والهوَان بطاعتِك يا رحمن، اللهم أنقِذنا من الذلِّ والهوَان بطاعتِك يا رحمن.
اللهم اجمع كلمةَ المُسلمين على الحقِّ، اللهم اجمع كلمةَ المُسلمين على الحقِّ، اللهم اجمَعهم على السنَّة، اللهم اجمَعهم على الكتاب والسنَّة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بمن طغَى واعتدَى على المُسلمين، اللهم عليك بمن طغَى واعتدَى على المُسلمين، اللهم من أراد المُسلمين بسُوءٍ فأشغِله في نفسه، اللهم من أراد المُسلمين بسُوءٍ فأشغِله في نفسه، اللهم من أراد المُسلمين بسُوءٍ فأشغِله في نفسه.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين، اللهم وفِّقه بتوفيقِك، اللهم أيِّده بتأييدك، اللهم انصُره بالحق، اللهم انصُره بالحق، اللهم أعِزَّه بدينِك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ونائبَيه، اللهم وفِّقهما لكل خيرٍ، وجميع وُلاة أمور المُسلمين.
اللهم أطفِئ الفتن عن المُسلمين، اللهم أطفِئ الفتن عن المُسلمين، اللهم اعصِم دماءَ المُسلمين في اليمن، وفي سوريا، وفي كل مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اعصِم دماءَ المُسلمين، اللهم اعصِم دماءَ المُسلمين، اللهم احفَظها واحفَظ أموالَهم وأعراضَهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم رُدَّنا إليك ردًّا جميلاً، اللهم رُدَّنا جميعًا إليك ردًّا جميلاً يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفَظ رجال أمننا، اللهم احفَظ رجال أمننا، اللهم انصُرهم بنصرِك، اللهم أيِّدهم بتأييدك، اللهم قوِّ عزائمَهم، اللهم اجزِهم خيرًا، اللهم اجزِهم خيرًا، اللهم بارِك في أعمالهم، وفي أعمارهم، وفي ذَراريهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم رُدَّ الحُجَّاج والمُعتمِرين إلى أهلِيهم سالِمين غانِمين مُوفَّقين، اللهم ارضَ عنَّا وعنهم بمنِّك وكرمِك، اللهم ارضَ عنَّا وعنهم بمنِّك وكرمِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا ذا الجلال والإكرام إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم