التوسل بدعاء الحي

الشيخ د علي بن عبدالعزيز بن علي الشبل

2023-10-13 - 1445/03/28 2024-05-13 - 1445/11/05
عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة 2/موقف من عام الرمادة 3/ التوسل المشروع بدعاء الرجل الحي الصالح في حياته 4/تحريم دعاء الميت وسؤاله 5/توجه المؤمن بالدعاء والرجاء إلى الله وحده.

اقتباس

من العجب أن من النَّاس من يلتفت إِلَى الأسباب القريبة، إِلَى الأسباب الظاهرة، فيعلِّق قلبه ورجاءه بها، ويغفل عن مسبِّب الأسباب -سُبْحَانَهُ-، فَإِمَّا ألَّا يعلِّق رجاءه بالله، أو أنه يتعلَّق بالله، لكن برجاءٍ ضعيف، وبثقةٍ يسيرة، وَهذَا لا يليق بك...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحَمْدُ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شهادةً نرجو بها النَّجَاة والفلاح يوم لقائه.

 

 وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح لهذِه الأُمَّة، فما مات حَتَّى أكمل الله -جَلَّ وَعَلَا- به الدين والملَّة، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، ومن سار عَلَى نهجهم، واقتفى أثرهم إِلَى يوم الدين، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

 أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فـ: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]؛ فإنَّ الوصية بتقوى الله هي الوصية الجامعة النافعة لمن أخذ بها، وهي وصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].

 

عباد الله: ثبت في الصحيح أن الصَّحَابَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- في خلافة عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أصابهم جدبٌ عظيم، في عام سُمِّي بـ"عام الرَّمَادة"؛ حيث أضحت الأرض فيها كالرماد، من قلة المطر والقطر من السماء، فشكوا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- ذلك إِلَى أمير المؤمنين، أبي حفصٍ عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فخرج بهم إِلَى المصلى يستسقي بهم؛ أي: يطلب من الله -جَلَّ وَعَلَا- السقيا، بإنزال المطر والقطر والحياة عَلَى الأرض.

 

فَقَالَ مِمَّا قَالَ: "اللهمَّ إنَّا كنا نستسقيك بنبينا فتسقينا"؛ يعني: في حياة النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، إذا أصابهم جدبٌ أو قحطٌ أو تأخرٌ في نزول الغيث؛ فزعوا إِلَى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، ليدعو الله -جَلَّ وَعَلَا- لهم بالاستسقاء وإنزال المطر.

 

قَالَ: "اللهمَّ إنا كنا نستسقيك بنبينا فتسقينا، وإنا نستسقيك بعم نَبِيِّنَا فاسقنا، قُم يا عبَّاس"، وهو العباس بن عبد المطلب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وهو عم النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وكان حاضرًا معهم في تلك الحادثة، في عام الرَّمادة، "قُم يا عبَّاس، فادعُ الله لنا"، فقام العباس بن عبد المطلب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فرفع يديه يدعو الله -جَلَّ وَعَلَا- بالاستسقاء وإنزال المطر، ورفع المسلمون من الصَّحَابَة أيديهم مؤمنين عَلَى دعائه، حَتَّى أنزل الله -جَلَّ وَعَلَا- عليهم غيثه ومطره.

 

في هذَا الحديث -يا عباد الله- دلائل عظيمة، وحِكَم جليلة؛ فمنها: أنهم -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كان من شأنهم، بل ومن إقرار النَّبِيّ لهم، بل ومن إقرار الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم بذلك: أنهم إذا أصابتهم النوائب في حياة رسول الله، كانوا يفزعون إِلَى رسول الله ليدعو الله -عز وجل- لهم بكشف الضر وإنزال الغيث؛ وَهذَا -يا عباد الله- من التَّوَسُّل المشروع بدعاء الرجل الحي الصالح في حياته، لا بعد موته وفي غيبته، فكان الله -عَزَّ وَجَلَّ- يجيب دعاءهم.

 

ففي غزوة بدر من أعظم أسباب انتصار المسلمين عَلَى المشركين هو لجؤه -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ودعاؤه الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يهلك هذِه الفئة، وهم المشركون، قَالَ: "اللهم إنْ تهلك هذِه الفئة"، يعني: أصحابه، "لا تُعبد في الأرض".

 

وقد سبق لنا حديث أنس بن مالك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لمَّا استسقى لهم النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَى منبره في يوم جمعة، فأجاب الله -جَلَّ وَعَلَا- استسقاءه، فمُطِرُوا سبتًا.

 

"اللهم إنا كنا نستسقيك بنبينا فتسقينا، وإنا نستسقيك بعم نَبِيِّنَا"؛ لِمَ ذهب عمر إِلَى الاستسقاء بعم رسول الله، وهو بِلَا شَكَّ أقل شأنًا وقدرًا من جنابه -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؟ ما فعل ذلك بالانتقال إِلَى المفضول وترك الفاضل إِلَّا لما استقر في علمهم بإجماعهم أنه لا يجوز أن يستسقوا برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه قد مات، وقد انتهى ما بينه وبين عباد الله، بارتفاعه إِلَى الرفيق الأعلى بموته -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.

 

 فدلَّ ذلك -يا عباد الله- أنه لا يجوز طلب الْدُّعَاء من الميت، مهما علا شأنه، ومهما كان قدره، فلا أحد أجلّ قدرًا ولا أعلى شأنًا من نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فلم يكن الصَّحَابَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كلهم ليتركوا هذَا، ويذهبوا إِلَى الاستسقاء بعمه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، إِلَّا لعلمهم أنه لا يجوز لهم، بل ويحرم عليهم جِدًّا أن يطلبوا منه الْدُّعَاء بعدما مات، وَإِنَّمَا توجهوا لعمه لمكانة العم من الرجل؛ فإنَّ "عمّ الرجل صنو أبيه"؛ كذا قَالَ -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

 

 وبه نعلم -يا عباد الله- أن طلب الدعوات والإغاثات وتفريج الكربات من الأموات مهما كان شأنهم: أنَّ هذَا الفعل حرامٌ ولا يجوز، بل هو شركٌ بالله -جَلَّ وَعَلَا-، لمَّا توجه بِالدَّعْوَةِ وباللجأ واللياذة إِلَى الله غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مع جواز ذلك في حياة هذَا العبد الصالح، كالوالدين مثلاً، وكالعالم، وكرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وصحابته -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- في حياتهم لا بعد موتهم.

 

وفي توجه العباس إِلَى الله -جَلَّ وَعَلَا- بِالْدُّعَاءِ وتأمين الصَّحَابَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- عَلَى دعائه لما قام في علمهم: أن كاشف الضر هو الله، وأنَّ المغيث هو الله، وأن المنزِل للغيث هو الله، لا إِلَى غيره من الأسباب، لا بدخول فصلٍ وخروجه، لا بخروج فصل، أو بدخول الوسم، أو بالمنخفضات الجوية، أو بحركة الخرائط الجوية من القمر الفلاني وغيره: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى: 28].

 

 نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمْدُ للهِ عَلَى إحسانه، والشكر له عَلَى توفيقه وامتنانه، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إعظامًا لشانه، وأشهد أن نَبِيَّنا مُحَمَّدًا عبده ورسوله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ومن سلف من إخوانه، وسار عَلَى نهجهم، واقتفى أثرهم وأحبهم وذَبَّ عنهم إِلَى يوم رضوانه، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: فاتقوا الله -جَلَّ وَعَلَا-، واصدقوا بلجوئكم إليه، ودعائكم إيَّاه، فإنه -جَلَّ وَعَلَا- هو النَّافِع الضار، وهو الَّذِي يغيث عباده، وهو الَّذِي يفرج كروبهم، وهو الَّذِي يحب أن يلح عليه عبده بِالْدُّعَاءِ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].

 

 من العجب -يا عباد الله- أن من النَّاس من يلتفت إِلَى الأسباب القريبة، إِلَى الأسباب الظاهرة، فيعلِّق قلبه ورجاءه بها، ويغفل عن مسبِّب الأسباب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فَإِمَّا ألَّا يعلِّق رجاءه بالله، أو أنه يتعلَّق بالله، لكن برجاءٍ ضعيف، وبثقةٍ يسيرة، وَهذَا لا يليق بك أَيُّهَا المؤمن، الَّذِي آمنت بالله ربًّا، وآمنت به معبودًا وإلهًا، يجب أن يكون تعلُّقك به أكمل من تعلُّقٍ بأي شيء؛ لأنه -سُبْحَانَهُ- الَّذِي بيده الأمور، وهو ربك ومعبودك.

 

ثُمَّ اعلموا -رحمني الله وَإِيَّاكُمْ- أن أصدق الحديث كلام الله، وَخِيرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَى الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.

 

 اللَّهُمَّ عزًّا تعزُّ به أولياءك، وذِلاً تذلُّ به أعداءك، اللَّهُمَّ أبرم لهذِه الأُمَّة أمر رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللَّهُمَّ آمنَّا والمسلمين في أوطاننا، اللَّهُمَّ أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولاياتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

 

اللَّهُمَّ ارحمنا برحمتك الَّتِي وسعت كل شيء، نستغفرك اللَّهُمَّ إنك كنت غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، نستغفر الله العظيم، نستغفر الله العظيم من ذنوبنا، ونستغر الله العظيم من شر سفهائنا، ونستغفر الله العظيم الَّذِي لا إله هو الحي القيوم ونتوب إليه.

 

 اللهم أغثنا، اللهم ارحم هؤلاء الشيوخ الرُّكَّع، وهؤلاء البهائم الرُّتَّع، وهؤلاء الأطفال الرُّضَّع، ولا غنى لنا عن فضلك يا رب العالمين.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

اللَّهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، أحيائهم وأمواتهم يا رب العالمين.

 

سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

 

المرفقات

التوسل بدعاء الحي.doc

التوسل بدعاء الحي.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات