التواضع لله من صفات الأنبياء والصالحين

عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الأمر بالتواضع 2/ فوائد التواضع 3/ التواضع خلق الأنبياء والصالحين 4/ من الأمور المعينة على التواضع 5/ التواضع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم 6/ دعوة العلماء والدعاة والقضاة والمسؤولين وعامة الناس للتواضع

اقتباس

تذكَّرْ رحيلك من الدنيا، ومهما طال عمرك فلا بد من مفارقتها، إذاً فلا بد من تواضُعٍ لله، وعملٍ صالح؛ ذكِّر نفسك سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق وأفضلهم، لِيَكُنْ نِبراساً لك في حياتك، اِصحَب الفقراء والمساكين وتواضع لهم لعل الله ..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين. 

أمَّا بعد: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.

عباد الله: التواضع خلقٌ حميدٌ، وخصلةٌ كريمةٌ ينال بها العبد بعد رضا الله رضا الناس عنه، فالمتواضع يحبه الناس ويألفونه ويطمئنون إليه، والتواضع حقيقته ترك التعالي والتكبر على عباد الله، والمسلم حقاً يحب إخوانه المسلمين، وينظر إليهم نظرة الاحترام والتقدير، وإن تفاوتت المنازل من غنىً إلى فقر، أو ضعف أو علم أو غير ذلك، هو ينظر إليهم مهما كانت الفوارق في الجاه أو في المنزلة أو في المكانة الاجتماعية، كل هذه الأمور لا تُذهب التواضع عنه، بل تؤصل التواضع في نفسه.

أيها المسلم: والتواضع خلق كريم ينال به العبد محبة الله، ثم كسب القلوب إليه، وقد أمر الله بالتواضع في كتابه، وأمر به نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ اسمع الله يقول في كتابه العزيز مخاطباً نبيه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:88]، وقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:215]، وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان:63]، وقال جل وعلا: (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً* كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء:37-38].

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"، ومعنى الفخر الكبر والتعاظم، ومعنى البغي الظلم، والعدوان؛ فالظلم والعدوان نتيجة الغرور والكبر والتعاظم في النفس.

أيها المسلم: ولهذا التواضع فوائده العظيمة، فمن فوائده محبة الله لذلك المتواضع، يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه) [المائدة:54]، قال العلماءُ إن الله لم يمدح الذل إلا في موضعين: ذل المسلم مع إخوانه المؤمنين بأَلَّا يتعالى ولا يتعاظم عليهم، وذل الأولاد مع الأبوين، قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:24]، أي تواضع لهما.

ومن فوائد التواضع أنه رفعةٌ للمؤمن، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ومن تواضع لله رفعه"، وأن هذا التواضع من أسباب دخول الجنة: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].

أيها المسلم: إن التواضع خلق أنبياء الله ورسله كما بين الله ذلك في كتابه، فهذا موسى كليم الرحمن أحد أولي العزم من الرسل يذكر الله عنه موقفه من تلك الفتاتين اللتين أرادتا السقيا فعجزتا، قال -جل وعلا-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا) [القصص:23-24]، فسقى لهما وأعانهما على سقيهما فارتاحتا من انتظار من هو أقوى منهن.

ثم هو -عليه السلام- لما خطب من صاحب مدين ابنته جعل مهر ابنته أن يرعى غنم مدين ثماني أو عشر سنين، كل ذلك من التواضع الذي يتخلق به -عليه السلام-.

وقال الله عن نبيه داود: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء:80]، ويقول الله عن عيسى في قوله: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) [مريم:30]، فتواضع لله بأنه عبد لله، والعبد خاضع لمالكه وسيده.

أيها المسلم: ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم، سيد الأولين والآخرين، أفضل خلق الله على الإطلاق، وأفضل من مشت قدماه على الأرض، محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- التواضع خلقه وصفته في حضره وسفره، والتواضع خلقه مع أصحابه ومع أعدائه، والتواضع خلقه مع الأغنياء والفقراء، مع الصغار والكبار.

التواضع خلقه -صلى الله عليه وسلم-، كان رقيق القلب، رؤوفاً بأمته، حريصاً عليهم، ساعٍ في تأليفهم، فأحبوه المحبة الصادقة فوق محبة المال والأهل والولد؛ يقول له أحد أصحابه: يا رسول الله! إني أحبك، فكلما ذكرتك لم تقر عيني حتى أنظر إليك، ولكنني أفكر بعد موتي وعلو منزلتك ماذا سأفعل؟ فأنزل الله: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) [النساء:69].

والله يقول له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران:159]، والله يذكّره نعمته: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.

تواضعه ظاهر في كل أخلاقه، ركب الحمار وأردف عليه، والعرب في كبرياء نفوسهم لا يرون ذلك لذوي الزعامة والشأن منهم؛ أجاب دعوة الداعي الذي دعاه إلى إهالة سنِخة وخبز من شعير فأجاب، يغشى الأنصار في بيوتهم فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم، صلوات الله وسلامه عليه، توقظه الأَمَة حتى يقضي حاجتها، صلوات الله وسلامه عليه.

كلَّمه رجل يوم فتح مكة، فلما كلَّمَه أصاب ذلك الرجل رعدة احتراماً وتقديراً لرسول الله، فقال: "هَوِّنْ عَلَيْكَ! إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" صلوات الله وسلامه عليه، تُسأل عائشة: ماذا كان حاله في بيته؟ قالت: كان يشسع نعله، ويرقِّع ثوبه، وكان في حاجة أهله، فإذا أذَّن المؤذن خرج إلى الصلاة، صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.

أيها المسلم: يعينك على التواضع أمور، فتذكَّرْ نفسَكَ ومصدر تكوينِك: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) [القيامة:37]، تذكَّر فقرك إلى الله وكمال غنى الله عنك وأنك فقير إلى الله بذاتك مهما عظُم مالك وجاهك: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15]، تذكر ضعفك وعجزك والأمراض والأسقام عليك وأنت لا تستطيع أن تدفع عن نفسك ضرَّا ولا تحقق لها نفعاً إلا بتوفيق الله، عرضة للأسقام والبلاء والهموم والأحزان، فتواضع لذي العزة والجلال.

أخي المسلم: تذكَّرْ عظمة الله وكمال أسماءه وصفاته وكمال علمه واطلاعه عليك وكمال عظمته وكبرياءه فتواضع له فذاك زيادة في مقامك.

أيها المسلم: تذكَّرْ رحيلك من الدنيا، ومهما طال عمرك فلا بد من مفارقتها، إذاً فلا بد من تواضُعٍ لله، وعملٍ صالح؛ ذكِّر نفسك سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق وأفضلهم، لِيَكُنْ نِبراساً لك في حياتك، اِصحَب الفقراء والمساكين وتواضع لهم لعل الله أن يزيد ذلك في درجاتك، كن متواضعاً في أمورك كلها لتكون من المتقين، ولا يستحوذ عليك الشيطان فيصور التواضع ذلاً وضعفاً وعجزاً، بل هو عز وكرم وشرف لك إذا قصدت بذلك وجه الله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أما بعدُ: فيا أيُّها الناسُ: اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.

عباد الله: التواضع خلق المسلمين، يقول الله عن أصحاب نبيه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، هكذا المسلمون: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة:71].

أخي المسلم: تواضَعْ لله، تواضَعْ لذي العزة والجلال، تواضع لله في قلبك، وليعلم الله منك ذلك، وخوفك من الله، وتعظيمك لله: (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء:172].

تواضعك لله يدعوك للالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، وألا تعارض أوامره بهواك ورأيك؛ بل تكون خاضعاً مستجيباً لله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأنفال:20-21].

تواضَعْ لِنَبِيِّكَ -صلى الله عليه وسلم-، فعظِّمْ سُنَّتَه، وأَحْيِ سنته، وادع إلى العمل بها، واستدل به في أقواله وأفعاله، ولْيَكُنْ قوله عندك مقدماً على قول أي إنسان كائناً من كان، سنته معظمة عندك، عندما تسمعها تعمل بها وتطبقها وتراها الحق والهدي والرشاد.

أيها المسلم: تواضع للأم الكبيرة، وتواضع للأب الكبير، وأحْسِنْ صحبتهما، واختم حياتهما ببرك وإحسانك، فعسى دعوة صالحة تصعد إلى الله فتسعد بها في دنياك وآخرتك.

أيها الأب الكريم: تواضع للأولاد والبنات بالتربية الصالحة، والتوجيه القيم، وليعلموا منك خلق التواضع ليتخلقوا به في أنفسهم.

أيها العالم الجليل: تواضع لله، يا من منحك الله العلم والمعرفة، تواضع لله، وَلْيَكُنْ علمك سبباً لتواضعك، وسبباً للِين جانبك، واحذر أن يكون علمُكَ سبَبَاً لغرورك وتيهك وكبريائك وتعاليك على عباد الله.

أيها العالم الكريم" تواضع لعباد الله، علِّم الجاهل، واهْدِ الضالَّ، وبصِّرْ الإنسان، واهده طريقاً مستقيماً؛ عندما يرد لك السؤال فاستقبل سؤال السائل ولا تحملنه على كمال عقلك وعلمك فترد سؤاله ولا تستجيب له، اسمع سؤاله، وافهم خطابه، وأصغِ إليه، علِّمْه إن كان جاهلا، واهده إن كان ضالاً، لجأ إليك لأنك ذو علم، وصاحب العلم لديه البصيرة، ولديه الحل للمشاكل، ولديه إصلاح النفوس بتوفيق من الله وإحسان.

محمد -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم كان يستقبل أسئلة الجاهلين فيعلمهم ويرشدهم ويهديهم إلى الخير، ويتواضع لهم، ما كان يقابل سؤالهم بالتكبر عليهم، أو يقول أنت جاهل لا تفهم وأنت وأنت، لا، اقبل سؤاله، وحل مشكلته، وليرجع منك رحبَ الصدر مستأنساً، وجد عالماً ذا علم وحلم وبصيرة، وحرص على إصلاح الفرد والجماعة.

يأتيه الرجل فيقول: يا رسول الله! هلكتُ وأهلكت، قال: "ما شأنك؟"، قال: وقعت على امرأتي في رمضان. هل كان يقول له يا عاصِ ويا جاهل ويا مغفل؟ قال: "أعتق رقبة"، قال لا أجد سوى رقبتي هذه. قال: "صم شهرين متتابعين"، قال وهل أوقعني فيما وقعت فيه؟ قال: "أطْعِم ستين مسكينا"، قال لا أجد. فأُتِيَ النبي بعرق من تمر فقال: "خذ هذا وتصدَّقْ به"، قال: أعَلَى أفقر مني؟ فوالله ما في المدينة أهل بيت أفقر من أهل بيتي! قال: "خذه وأطعمه أهلك"، فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم-.

هكذا كان يعلِّم الجاهل، هكذا كان يرشده، هكذا كان يبصِّره، يأتيه المسيء في صلاته فيصلي ويسلم عليه فيقول: "ارجع فصَلِّ فإنك لم تصلِّ" ثلاث مرات، ثم يقول: والذي بعثك بالحق نبياً! ما أحسن غير هذا. فعَلَّمَهُ الصلاة كاملة، والطمأنينة فيها، وأرشده إليها. هكذا كان حاله مع الجاهلين يُعَلِّمُ وَيُرْشِدُ وَيُبَصِّرُ.

أيها العالم: لا تظن أن كلاً عنده من العقل والذكاء مثل ما عندك، لا، استقبل هذا الجاهل وعلِّمْه واهده الطريق المستقيم، وليرجع منك وقد تزود علماً وهدى.

أيها الداعي إلى الله، أيها الآمر بالمعروف، أيها الناهي عن المنكر: ليكن التواضع خلق لنا، ندعو إلى الله على علم وبصيرة، لا نغلق أبواب الرجاء أمام المخالفين، ولا نيئِّسهم من رحمة الله، ولا نقنِّطهم من روح الله، بل نفتح لهم أبواب الرجاء، ونرغبهم في الخير، نحذرهم من الشر، وندعوهم إلى الخير، ولا نُيَئِّس الناس، ولا نقول هلك الناس وضلوا، لا، ادع إلى الله بالعلم والبصيرة، ومُرْ بالمعروف، وانْهَ عن المنكر بعلم وبصيرة، إياك أن تحتقر العاصي! إياك أن تجور عليه بالكلام السيئ! إياك أن تخاطبه بالخطاب السيئ! زلت به القدم، وأغواه الشيطان، فهو اليوم يحتاج إلى من يأخذ بيده، وإلى من يبصره، وإلى من يرشده إلى الطريق، لا إلى من يؤنبه ويعنفه ويبعده عن الخير.

في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم إذ هو أفضل خلق الله على الإطلاق، إمام الدعاة والهداة، يأتيه ماعز ويقول: يا رسول الله! زنيت، فأَقِمْ الحدَّ عليَّ فيعرض النبي عنه، ويأتيه من جميع الجهات ويقول: "أبك جنون؟"، قال: لا، أتيت حراماً ما فيه حلال، فلما اعترف أربع مرات أمر برجمه، فلما أحس بقذف الحجارة هرب فتبعوه فأجهزوا عليه، قال: "لو تركتموه يأتيني يتوب إلى الله وإلى رسوله"، ثم قال: "لقد رأيته يتقلب في أنهار الجنة"، صلوات الله وسلامه عليه.

هكذا كان يعامل الجهَلة، وهكذا كان يعامل العصاة، فالعاصي عصا وزلت قدمه، فهل نعاتبه ونوبخه ونحتقره ونلقي عليه الكلمات القاسية؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- حدَّ رجلاً بالخمر، فقال رجل: لعَنَهُ الله! ما أكثر ما يؤتى به! قال: "لا تعين الشيطان عليه، ألا تعلم أنه يحب الله ورسوله؟".

هكذا -أيها الإخوة-، إن الداعي إلى الله، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، إنما مهمته تبصير الحق، وفتح أبواب الخير، والرجاء لمن خالف وعصى: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].

أيها الداعي إلى الله: لتكن دعوتك دعوة صادقة خالصة متوازنة، تدعو إلى الخير، وتحذِّر من الشر، ولا تملأ القلوب حقداً وبعداً، وإنما امْلَأْها فرَحاً وسروراً، فعسى الله أن يأتي بالخير.

أيها المسؤول في إدارته: اتق الله، وتواضع مع عباد الله، اقْبل كل ما أتاك فيه صاحب الحاجة، وارحم صاحب الحاجة، ولا تقل هذا إنسان لا يفهم، وهذا إنسان جاهل، لا، هو صاحب حاجة يرى أنه على حق، ويرى أن مطلبه حق؛ لكن إذا قابله ذلك المسؤول المتواضع استطاع أن يقنعه فيبين له خطأه من صوابه، وإن استطاع نفَعه بما لا يخالف الأصول الشرعية، فلا بد من تواضع ليجد هذا المحتاج بغيته عندك.

أيها المسلم: إن التواضع خلق المسلمين في أحوالهم كلها، فلنتواضع لله تواضعاً يدعونا إلى الدعوة إلى الخير، والتحذير من الشر.

أيها القاضي الكريم: أنت في قضائك يأتيك الخصوم على اختلاف اتجاهاتهم وطبائعهم وأخلاقهم، وأنت في منصب القضاء والعدل، فانظر لهم نظرة الرحمة والإحسان، كلاً يدعي الحق لنفسه، المـــُدَّعِي يدعي الحق، والمـــُدَّعَى عليه يدعي أنه المحق، فلا بد من سماع الطرفين بتواضع ورفق بهم حتى تستطيع أن تقنع الخصم المخالف بما وفقك الله به من هذا التواضع والخلق الكريم، فيرجع وقد اقتنع أن الحق عليه، وهكذا يكون قضاة المسلمين في تواضع وحسن ورفق، وتقبُّلٍ لكل المشاكل. فرفقاً بالناس على اختلاف طبائعهم وأخلاقهم، ولْنكن -إخواني أهل- تواضع فيما بيننا.

أيها المسلم: تواضع للفقير والمسكين، ولا يستخفنك الشيطان تقول هذا عامل، هذا جاهل، هذا حِرفي، لا يا أخي، كلنا عباد الله، أغنياؤنا وفقراؤنا، رؤساؤنا ومرؤوسونا، كلنا عباد الله سواء، أكرمُنا عند الله أتقانا لله، وأعظمنا أكثرنا تعظيماً لله، فالله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أموالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فكم من شخص تستخف به وتنظر إليه بعين الاحتقار وهو أكرم عند الله منك ومن ملايين! (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) [الحجرات:11].

لا تتكبر على أحد لأجل مرضه، أو لضعف جاهه، أو ضعف منزلته، اعلم أن الذي أهَّلك قادر على أن يؤهله، فتواضع لله، واحذر أن يسلب الله عنك نعمته لتكبرك وطغيانك وغطرستك، فتواضع لعباد الله، هكذا يكون المسلمون في أعمالهم كلها. وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال، إنه على كل شيء قدير.

واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالةٌ؛ وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذّ شذَّ في النار.

وصَلُّوا -رَحِمَكُم اللهُ- على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك، من بلغ الرسالة، ونصح الأمة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، فصلوا وسلِّموا عليه.

اللهم صَلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمة المهديين، أهل الإيمان والتواضع لله: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانك، يا أرحمَ الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُرْ عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتنا ووُلاةَ أمرِنا؛ اللهم وفِّقْهُم لما فيه صلاح الإسلامِ والمُسلمين.

اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللهم أمِدَّه بعونك وتوفيقك وتأييدك، وكن له عوناً في كل ما أهَمَّه، واجعله بركة على أمته وعلى المسلمين أجمعين، إنك على شيء قدير.

اللهم شُدَّ عضُده بولي عهده سلطان بن عبد العزيز ووفقه لصالح الأقوال والأعمال، اللهم وفق النائب الثاني نايف بن عبد العزيز لكل خير، وسدِّدْه في أقواله وأعماله، إنك على كل شيء قدير؛ اللهم وفِّق المسلمين لاجتماع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، اللهم طَهِّرْ مجتمعاتهم من الفتن والانحراف والضلال والانقسام، واجعلهم على بصيرة في أمورهم ليحذروا مكايد عدوهم.

اللهم اجمع قلوبهم، وخلِّصْهم من هذه الفتن، ما ظهر منها وما بطن، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]، (ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِن الخَاسِرِينَ) [الأعراف:23] (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكرْكم، واشكروه على عُموم نعمه يزدْكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

 

 

 

المرفقات

لله من صفات الأنبياء والصالحين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات