التواصي بالصبر والاحتساب في الكروب والنكبات

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ناصر أوليائه، وخاذل أعدائه، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شان، نحمده عددَ خَلقِه وكلماتِه، وملءَ أرضِه وسماواتِه، ونتوجَّه إليه أن يمنَّ علينا برحمته، اللهمَّ نوِّر قلوبَنا بالإيمان، وارفع مقامَنا عندَكَ إلى درجة الإحسان، وارزقنا نورًا نهتدي به، ورحمةً تنشرها، ورزقًا تبسطه، وضرًّا تكشفه، وبلاءً ترفعه، وفتنةً تصرفها، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تُوجِب من المخاوف أمنًا، وتُسَهِّل من الأمور ما كان حَزْنًا، -سبحانه- جعل للأولياء من لدنه سلطانًا نصيرًا، وحازوا نعيمًا وملكا كبيرًا، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا محمدًا رسول الله، أشجع الناس وأقواهم قلبًا، وأكثرهم صبرًا، حضَر المواقفَ الصعبةَ، وفرَّ منه الأبطالُ غيرَ مرةٍ، بقي ثابتًا مُقبِلًا، لم يفرَّ قطُّ، قوي عزيز كريم حليم، في رأفة ورحمة؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107]، في عزة وكرامة، وقوة وشجاعة، صلى الله عليه، وعلى آل بيته، وعلى عمه حمزة، سيد الشهداء، والعباس سيد الناس، وجعفر الذي له جناحان يطير بهما في الجنة.

 

اللهمَّ ارض عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، وأتقياء المؤمنين، وصل على من نهض بالعدل في بلاده، هاديًا لعبادك، القائم بأمرك، والمنصور بنصرك.

 

أمَّا بعدُ، فيا عباد الله، يا أهلنا في أرضنا المقدَّسة: لقد منَّ الله عليكم بتأييده، وخصَّكم بتوحيده، وقيَّض لكم مَنْ أَلْفَاكُم ضُلَّالًا لا تهتدون، وعُميًا لا تبصرون، فقد فشت فيكم المعاصي واستهوتكم الأباطيل، فهداكم الله، وأعزكم وجمعكم بعد الفُرْقة، ورفع عنكم سلطان المارقين، بما كسبت أيديهم، من الظلم، من هؤلاء الظالمين، فجددوا لله خالص نياتكم، وأروا المولى -تبارك وتعالى- من الشكر ما يزكي به سعيكم، واحذروا الفُرْقة، وكونوا يدًا واحدة، فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس وأسرعوا إلى طاعتكم، وإن لم تفعلوا شملكم الذل واحتقرتكم العامَّة.

 

أيها المؤمنون: نحن في زمن الابتلاء والفتنة؛ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 2-3]، ابتلي الأنبياء والصالحون، ناح نوح، وقتل زكريا، وذبح يحيى، وألقي يوسف في غيابات الجب، وألقي إبراهيم في النار وهو خليل الله!

 

أتدرون لم اتخذ الله إبراهيم خليلًا؟ اتخذه خليلًا لَمَّا أعلَن كلمةَ التوحيد وكسر الأصنام وقدَّم مالَه إلى الضيفان، واستسلم لأمر الرحمن، وضحَّى بولده في القُربان، ونفسَه إلى النيران، وقلبَه للرحمن، فماذا كانت النتيجة؟ (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 69-70].

 

انظروا إلى سلفكم، أدخل الإمام أحمد إلى السجن، وضرب بالسياط، وأكرمه المولى، -تبارك وتعالى- لصبره وتقواه على بلواه، لقد نصر الله -عز وجل- برجلين؛ بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة.

 

اعتبروا بمن كان قبلكم، أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها؟! أين الذي كانوا يعطون الغلبة؟! قد تضعضع أركانهم، حين أخنى بهم الدهر، وأصبحوا في ظلمات القبور، لقد ابتليتم بفقدان فلذات أكبادكم فصبرتم، غلبتم بتقواكم هواكم، وبصبركم الشهوات، أولادكم في مجاورة الرحمن، لقد هدمت المساكن أمام أعينكم، فعرفتم أن الدنيا ليست بدار قرار، فصبرتم وقلتم: إنَّا لله وإن إليه راجعون.

 

شبابنا في السجون تحملوا العبء الكبير، نالوا الرضا والرضوان، ونحن نتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- أن يذهب عنهم وحشة الفراق، ببركة صاحب البراق، وكرم المهيمن الرزاق.

 

والحمد لله على اجتماع القلوب، وتواصل الأرواح، وسلامة الصدر، وخلو الضمائن من أخباث وأنجاس الغل والأحقاد، وذلك غاية المطلوب، ونهاية المرهوب.

 

أيها المؤمنون: إنَّ الحادثَ الجللَ، الذي نشاهده اليوم والذي أصاب أهلنا أسال الدموع، وأوحش الربوع، فالدموع عليه باكية، والقلوب من شدة الأسى ذائبة، وبُدُور العلم خاسفة، الْمَشاهِد تنفطر منها القلوبُ، ولا أحدَ يستطيع أن يتحمَّل، فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُبَرِّد مصيبتَنا بجميل الصبر، وتذكر أيها المؤمن إذا كان الله معكَ فلا تبالِ من نكبات الأيام والليالي، وتوكَّلْ على صاحب الأمر، الذي إذا قال للشيء كن فيكون، واكتفِ بصاحب اللُّطف الخفيّ، وقل: حسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ.

 

من لم يغلب الحزن بالصبر طال غمه، الصبور يدرك أحمد الأمور، واعلم أيها المسلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العُسْر يُسِرًّا، وتذكر أن الله يبتلي العبد وهو يحبه؛ ليسمع تضرعه.

 

انتشر الأذى في هذا الزمان، فالأحوال فسدت، ومراسم الأشياء تغيرت وتبدلت، واكتفى غالب الناس بالأقوال، وعم البلاء في كل شيء، وظهر من بعض الناس أخلاق الذئاب، ومن تبعهم من الفسقة والظلمة، فلا يرقون لشاكٍ، ولا يرحمون عبرة باكٍ، يتيموا الأولاد، وأظهروا في الأرض الفساد، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه، فيا لله ويا للمسلمين، يا لطيف الألطاف نجنا مما نخاف، وارحمنا برحمتك يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ رب إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، ورب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ومنزل التوراة والإنجيل، والزبور والقرآن، ادرأ عَنَّا شرهم يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ نور قلوبنا بأنوار اليقين، والطف بنا وبأوليائك يا رب العالمين.

 

وتذكروا -يا عباد الله- أن العاقبة للمتقين، فمن صبر في أيام البلاء فهو من الصادقين، ومن بطر فهو من الكاذبين؛ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يُوسُفَ: 18]، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يُوسُفَ: 83].

 

من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، قول لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسعة وتسعين داء، أيسرها الهم، ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، ‌فَإِنَّ ‌اللَّهَ -عز وجل- ‌يُحِبُّ ‌أَنْ ‌يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَجِ من الله -تعالى-"، سحابة وسوف تنقشع وآخر الهم أول الفرج، فاستعن بالله واصبر، وأكثر من الاستغفار، فإن الله وعد الصابرين خيرًا.

 

عزم الله لنا ولكم بالصبر على البلاء، والشكر على النعماء، ولا أشمت بنا ولا بكم الأعداء، توجهوا إلى الله بقلوب سليمة، وخذوا الكتاب بقوة، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله مجيبَ الدعوات، وراحم العَبَرات، وكاشف الكربات، وغافر الزلات، بفضله اهتدى المهتدون، وبرحمته نجا العاصون، اللهمَّ يا كثير الخير، يا دائم المعروف، يا رب، ارحم الشيخ الكبير، نشكو إليك ما لقينا من ودنا وعدونا، أما ودنا فباعونا، وأمَّا عدونا فحبسونا، اللهُمَّ اجعل لنا فرجًا ومخرجًا.

 

ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ المفرج عن كل مكروب، ونشهد أن نبينا محمدًا رسول الله، أرسله المولى -تبارك وتعالى- بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

 

اللهُمَّ صلِّ على نبينا عبدك ونبيك، وخيرتك من خلقك وصفيك، وعلى آله مصابيح الدجى، وأئمة الْهُدَى، وأن تفرج عَنَّا وعن إخواننا فرجًا عاجلًا قريبًا يا ربَّ العالمينَ، يا كاشف الكرب، يا غافر الذنب، يا الله يا رب، انشر رحمتك علينا يا ربَّ العالمينَ.

 

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: الأوضاع صعبة، والمعيشة ضيقة، والأحوال قاسية، لقد هلَك الناسُ، وكَثُرَ القتلُ، وعمَّ الظلمُ، وغلت الأسعار، وهدمت الديار، واختلت الأموال، واسودت الدنيا، وخربت المنابر، وتحدَّث السفهاءُ، وانتشر النفاقُ والرياءُ، وارتفع صوتُ الشيطانِ في كل مكان، فوالله ما سمع الخلائقُ بأيام أكثر شدةً من هذه الأيام؛ عورات بادية، وأعين باكية، حسرات تشبه حسرات القيامة، أحوالنا صعبة، اهتز لها زمزم والحطيم، ومادت جبال مكة وما حولها من هذا الهول العظيم؛ إن لله يومًا يخسر فيه المبطلون.

 

وتذكروا أيها الصابرون أن السعادة الكاملة، والبركة الشاملة، والرحمة النازلة لمن يقول: لا إله إلا الله، سبحانك إني كنت من الظالمين.

 

وأنتم أيها المسؤولون: سوف تندمون على ما فرطتم في جنب الله، وعلى تقاعسكم؛ لقد قال الرجل الحكيم يومًا: احفظ إخوانك تذل أعداءك، فأين أنتم من غمرات الموت وشدائد الهول يوم القيامة، من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله -تعالى- مكتوب بين عينيه: "آيس من رحمة الله".

 

عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌أَنْصُرُهُ ‌مَظْلُومًا، ‌فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ؛ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ".

 

اللهمَّ يا كافي، يا محيط، سبحانك ما أعظم شانك، وأعز سلطانك، تحصنا بالله، وبأسماء الله، احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، ارحمنا بقدرتك علينا، فلا نهلك وأنت ثقتنا ورجاؤنا.

 

اللهمَّ تقبَّلْ شهداءنا، وشافِ جرحانا، اللهُمَّ رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافي، وعاف أنت المعافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما ولا ألمًا.

 

اللهمَّ ارحمنا برحمتك الواسعة، واجمعنا بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهمَّ اشفنا بشفائك، وداونا بدوائك، وعافنا من بلائك، يا كافي، يا وافي، ارفع عَنَّا كل تعب شديد، واكفنا من الحد والحديد، والمرض الشديد، والجيش العديد، اجعل لنا نورًا من نورك، وعزا من عزك، ونصرًا من نصرك، وبهاء من بهائك، وعطاء من عطائك، وحراسة من حراستك، وتأييدا من تأييدك، يا ذا الجلال والإكرام، والمواهب العظام، نسألك أن تكفينا شر كل ذي شر، إنك أنت ربنا، لا إله إلا أنت سبحانك، إنَّا كنا من الظالمين، سبحانك ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، قولوا جميعًا: "والحمد لله رب العالمين".

 

وأنتَ يا مقيمَ الصلاةِ أقمِ الصلاةَ؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].