عناصر الخطبة
1/ مسابقة الصحابة وتنافسهم في الخيرات 2/ شكاية فقراء المهاجرين من سبق الأغنياء لهم في أبواب الخير 3/ التسابق بين أبي بكر وعمر في الصالحات 4/ من صور تنافس الصحابة في الخير 5/ الحث على مسابقة الأخيار إلى ميدان العمل الصالح.اقتباس
لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسارعون إلى الطاعات، ويتسابقون إلى القربات، لينالوا رُتَبًا عسكرية، أو يُمْنَحُوا ترقيات وظيفية.. ذلك الجيل كان يعيش حالة سباق في الإنفاق، في الجهاد، في الدعوة، في طلب العلم، في الإحسان إلى الناس، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الصيام، في قيام الليل، في جميع أبواب الخير.. أما نحن فما قَعَدَ بنا في هذه الأزمان إلا أنا تصوّرنا أن هذه الأبواب من الخير أحمال ثقيلة يوّد كل منا لو أن غيره كفاه، أو أن غيره أراحه مئونة حمله.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله باسط العَطاء، مُجيب الدعاء، أحمده سبحانه على السّراء والضّراء، حمداً يملأ الأرض والسماء، وما بينهما مما يشاء .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الديان، ذو الجود والإحسان، يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، خير من تضرع إلى الله في الشدة، وأرشد إلى صالح الدعوات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يتضرعون إلى ربهم في سائر الأوقات ويسارعون في الخيرات .
أما بعد أيها الإخوة الكرام: أتى الفقراء في يوم من الأيام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكون إليه من الأغنياء، عجباً، الفقراء يشتكون من الأغنياء، لماذا؟ لماذا يشتكي الفقراء من الأغنياء؟ هل ظلموهم حقوقهم؟، كلا وحاشاهم، هل قصّروا في الإحسان إليهم؟ كلا وحاشاهم هل منعوهم صدقاتهم؟ كلا وحاشاهم، إذن ما هي شكاتهم، وما خبرهم، مع الأغنياء، حتى أصبح في نفوسهم هم وغم،
استمع إلى الشكاة، فإنها عجب من العجب، قالوا: "يا رسول الله! ذهب الأغنياء بالأجور والدرجات العلى؛ يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ولكن لهم فضول أموال ليست لنا، فيتصدقون ولا نتصدق، ويجاهدون بأموالهم ولا نجاهد، يا رسول الله: سبقنا الأغنياء وقعدنا".
هذا هو الهمّ، وهذه هي الشكاية، وهذه هي القضية التي تمزقت بها قلوب الفقراء، لم تحترق قلوبهم ولم يهتموّا لأن بيوت الأغنياء أعلى من بيوتهم، ولا لأن مطاعمهم ألذ من مطاعمهم، ولكن اهتمّوا واغتموا لما رأوا المسابقة في الخيرات، واستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الشكاة فكان بها حفياً، فقال: "ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله! فقال: "تسبِّحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين".
وفرح الفقراء بهذه الهبة، فكانوا إليها مسارعين، وقاموا إليها مبادرين؛ فكانوا دُبر كل صلاة لهم دَوِيٌّ بالتسبيح والتحميد والتكبير.
وتلفت الأغنياء إلى الفقراء، فرأوهم ولهم بالذكر دَوِيٌّ ولَهَجٌ، فسارعوا إلى هذا الذكر فذكروا، ونظر الفقراء فإذا الأغنياء قد سابقوهم في هذه الطاعة، فرجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "يا رسول الله، سمع إخواننا بما قلت لنا ففعلوا كما نفعل"؟
الله أكبر –أيها المسلمون– إن هؤلاء الأغنياء ليسوا قاعدين عن المسابقة، إنهم لم تلههم أموالهم ولا غناهم عن المسارعة إلى الخير، ولم يشعروا في يوم من الأيام أنهم في غنى عن التقرب إلى الله، ولما قال الفقراء للرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "ذلك فضل يؤتيه من يشاء" (متفق عليه) .
الله أكبر!! إنهم (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90]، لقد كان همّ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- متوجهاً إلى القربات، إلى الطاعات، فهناك كان السباق والمنافسة، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]؛ لم تكن هممهم ترضي بالدون، ولم تكن نفوسهم تقنع باليسير من الطاعة .
مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدار أبي بكر وعمر في هزيع من الليل، ثم خرج معهما إلى المسجد فلما دخلوه فإذا عبد الله بن مسعود قائم يرتِّل القرآن، فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع إلى قراءته، فلما فرغ من قراءته قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يقرأ القرآن رطباً كما أُنزِلَ فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد" -رضي الله عنه-.
ثم إذا بابن مسعود يرفع يديه إلى السماء ويبتهل إلى الله بالدعاء، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع إلى دعائه ويقول: "سل، تُعطه، سل تُعطه، سل تُعطه" (رواه أحمد).
ثم خرج أبو بكر وعمر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجع كلّ منهم إلى داره فأوى عمر -رضي الله عنه- إلى فراشه وهو يقول: "لأبكرّن الغداة إلى ابن مسعود فأبشره بمكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه، وما قال فيه وله".
إن عمر -أيها الأحبة في الله- يدرك أن تبشير المسلم طاعة لا ينبغي أن تفوته، وفي الفجر بكّر عمر إلى ابن مسعود وقال: "أما إن أبا بكر قد سبقك إليَّ فبشرني" (رواه أحمد).
وانظر إلى صفحة أخرى مضيئة، يقصها عمر -رضي الله عنه-، فيقول: "أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بالصدقة، وكان عندي سَعَة من المال، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، فذهبت فجئت بنصف مالي فدفعته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك يا عمر؟"، قال: يا رسول الله، أبقيت لهم مثله".
أيها الإخوة الكرام: إن عمر -رضي الله عنه- يقول: "اليوم أسبق أبا بكر"، ولقد كانت مسابقة أبي بكر همّاً في نفس عمر، طالما شمّر إليه، وثابر عليه، فلما آتاه الله هذه الفرصة، أخذ من ماله للصدقة فأجزل، ودفع فأوسع، أتى بنصف ماله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هان على عمرَ مالُه حتى عمد إلى نصفه فأنفقه في سبيل الله.
ثم أتى أبو بكر -رضي الله عنه- بمالٍ كثير ودفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر واقف مكانه، يرى العطاء ويسمع الحوار، وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟"، قال: "يا رسول الله، أبقيت لهم الله ورسوله، أما المال فقد أتيت به جميعاً" (رواه الترمذي) .
لم يأت بنصفه، ولا بثلثه ولا بربعه، وإنما أتى به كله، وهذا المال الذي أتى به أبو بكر هو ماله العين الذهب والفضة، ولكن لا يزال عنده دوابّ وأراضي ينفق منها على عياله، لكنه أتى بماله الحاضر كله، فهو في سباق قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21]، فما كان من عمر -رضي الله عنه- إلا أن قال: "لا جرَم، لا سابقت أبا بكر أبداً" (رواه الترمذي) .
ثم انظر إلى صورة أخرى من صور التنافس الحارّ، يوم يعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيفه صلتاً ويقول: "من يأخذ هذا السيف"، وكان في معركة أُحُد، فتشرئبّ الأعناق، وتمتدّ الأكفّ، ويتسابق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على ماذا؟، إنهم يسابقون على المنية أن يذوقوها، وعلى الروح أن يبذلوها، حتى أخذه أبو دجانة -رضي الله عنه-.
لقد كان ذلك الجيل ينظر إلى فرص الخير على أنها فرصة تسنح وسرعان ما تُغلَق، ونفحات تهبّ، ثم ما أسرع أن تتعدى الكسالى أصحاب الهمم الضعيفة، ثم يأخذه أبو دجانة فيقاتل به الكفار ويقوم بحقه، (رواه مسلم) .
ومن صور تنافس الصحابة في الخير: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر يوماً أن من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقام عكاشة بن محصن -رضي الله عنه- سريعاً يبادر الموقف والفرصة قبل أن تفوت ويقول: "يا رسول الله! ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم"، ففاز بها عكاشة، ثمّ أغلق الباب على من بعده، ويقال لمن بعده: "سبقك بها عكاشة" (متفق عليه) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أما بعد:
أيها الإخوة في الله: لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسارعون إلى الطاعات، ويتسابقون إلى القربات، لينالوا رُتَبًا عسكرية، أو يُمْنَحُوا ترقيات وظيفية،
لم يكونوا يتسابقون ليعلقوا على رقابهم ميداليات ذهبية أو فضية، وإنما الأمر كما قال ربنا: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ذلك الجيل هو الذي صنع المعجزات، صنعها لأنه كان يعيش حالة سباق في الإنفاق، في الجهاد، في الدعوة، في طلب العلم، في الإحسان إلى الناس، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الصيام، في قيام الليل، في جميع أبواب الخير..
أما نحن فما قعد بنا في هذه الأزمان إلا أنا تصوّرنا أن هذه الأبواب من الخير أحمال ثقيلة يوّد كل منا لو أن غيره كفاه، أو أن غيره أراحه مئونة حمله.
إذا احتاج مكان ما إلى دعاة ثمّ نفر اثنان أو ثلاثة إليه قال غيرهم: الحمد لله، فقد كُفينا،
أمّا أولئك فكان أحدهم يدافع عبرته تَحسُّراً إذا سُبِق إلى طاعة من الطاعات.
أيها الإخوة الكرام: إن كنا نسمع أو نرى من يندفع إلى فعل الخيرات، ثمّ لا نجد في نفوسنا حركة أو رغبة في أن نكون مثلهم، فإن ذلك يدلّ على أن بنا داءً لا يشفينا منه إلا رب العالمين الذي يحول بين المرء وقلبه.
إنك حين ترى نفسك لا تهشّ إلى مسابقة الأخيار إلى ميدان العمل الصالح، لا تبادر إلى الفوز برضوان الرب -تبارك وتعالى-، إذا رأيت نفسك فإذا أنت لا تبالي أن يفوتك مشروع من مشاريع البرّ والتقوى فحَرِيٌّ أن تراجع نفسك، إذا رأيت نفسك فإذا أنت لا تبالي أن يفوتك يوم لم تصلّ الضحى أو الوتر، أو تتلو شيئاً من القرآن.
إذا كان حالك كذلك فحريٌ أن تبحث في ماضيك عن ذنب أو معصية فربما كانت هي السبب، ربما كانت هي السبب في قعود الهمّة، وتذكر أولئك الذين كره الله انبعاثهم فماذا فعل بهم؟! (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة: 46]، وإذا رأيت الرجل ينافسك في أمر الدنيا فنافسه أنت في أمر الآخرة.
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى كل خير، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً .
اللهم أصلح أنفسنا ونساءنا وأولادنا وبناتنا .اللهم أصلح شباب المسلمين، وانفع بهم البلاد والعباد والدين.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن جميع صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون .
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم