التمسك بالحق عند الخصومات

محمد بن عبد الله الإمام

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أهمية التمسك بالحق والبقاء عليه والرجوع إليه 2/ خطورة المخاصمة في الباطل والإصرار عليه 3/ الحاكم والقاضي يقضي بين الناس بالظاهر 4/ وجوب قبول الحق عند الخصومات والنزاعات.

اقتباس

ألا وإني في موقفي هذا ألفت أنظار السامعين، ومن سيسمع إلى أهمية التمسك بالحق والبقاء عليه والرجوع إليه، والبحث عنه عند الخصومات والنزاعات، الخصومات والنزاعات ما أكثرها في أوساط المسلمين، وما أعظم أضرارها! وما أشد أخطارها على المسلمين، فكم جلبت الخصومات والنزاعات لكثير من المتخاصمين والمتنازعين من غوائل ومن عواقب وخيمة ومن أحوال ذميمة! فيا معشر المسلمين المطلوب التفقه في هذه المسألة، ألا وهو التمسك بالحق عند الخصام والنزاع لا يتحول المسلم ولا المسلمة عن ذلك؛ لأننا عبيد لله -عز وجل- في كل وقت وفي كل آن، ولأن الله مطلع علينا لا يخفى عليه شيء من أمرنا...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

ألا وإني في موقفي هذا ألفت أنظار السامعين، ومن سيسمع إلى أهمية التمسك بالحق والبقاء عليه والرجوع إليه، والبحث عنه عند الخصومات والنزاعات، الخصومات والنزاعات ما أكثرها في أوساط المسلمين، وما أعظم أضرارها! وما أشد أخطارها على المسلمين، فكم جلبت الخصومات والنزاعات لكثير من المتخاصمين والمتنازعين من غوائل ومن عواقب وخيمة ومن أحوال ذميمة!

 

فيا معشر المسلمين المطلوب التفقه في هذه المسألة، ألا وهو التمسك بالحق عند الخصام والنزاع لا يتحول المسلم ولا المسلمة عن ذلك؛ لأننا عبيد لله -عز وجل- في كل وقت وفي كل آن، ولأن الله مطلع علينا لا يخفى عليه شيء من أمرنا، فلتبق العبودية لله سبحانه، وليبقى الأدب مع الله والصدق مع الله وحب الخير والعدل، وأداء الأمانة والرحمة، والمحافظة على الأمن والاستقرار إلى غير ذلك، ففي البقاء على الحق عند الخصومات والنزاعات والمطالبة به وكفى والسير عليه، فهذا فيه الشفا وفيه منافع لا يحصيها إلا الله -عز وجل-.

 

أخرج أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لا يزل في سخط الله حتى ينزع".

 

الحديث يحذر المسلمين من أن يخاصموا في باطل ما دمت تعلم أن هذا باطل لا يجوز لك أن تخاصم فيه، وأن تدخل نفسك في باطل وأنت في عافية من الله، وأنت مع الحق وكفى بذلك شرفًا وخيرًا.

 

فالمسلم الموفَّق والمسلم الصادق والمسلم المراقِب لله -عز وجل- والمحب للسلامة والبعيد عن الفتنة لا يقبل الخصومة في باطل لا من أجل نفسه ولا من أجل غيره بل ينصح ويذكر من يسلك هذا المسلك.

 

هذا هو البقاء على الحق والتمسك بالحق عند الخصومات والنزاعات، وعند الدعوة إلى الخصوم والنزاع يتمسك بالحق ويرضى به ويبقى عليه، وهذا من عظيم توفيق الله لمن يشاء من العباد.

 

ثم إنه لا بد أن تحصل الخصومات والنزاعات هذا أمر لا بد منه، فحياة الناس لا تسلم من هذا، وليس الخطر في وقوع الخصام بين فلان وفلان، وحصول نزاع بين فلان وفلان بين الزوج وزوجته والجار وجاره والأخ وأخيه والأب وولده وبين الحاكم والمحكوم، ليس الخطر هنا؛ إذ إن هذا يحصل، ولكن الخطر العظيم أن المتخاصمين أو المخاصمين يذهبون مذاهب شتى بالفتنة ومذاهب تخرجهم عما ينبغي عليهم، ويجب عليهم من البقاء على أمور تنتهي الخصومة ويسد باب الفتنة، وتصلح الأحوال، وتعود إلى السداد والرشاد.

 

فالذهاب إلى ما يغضب الله ويسخطه عند الخصومة، هذا خطره عظيم على المسلم، فالمسلم إذا جرى بينه وبين أخيه خصومة في أمر، فالمطلوب منه أن يحفظ ما يجب عليه أن يحفظا من الأمانة، ومن العدل ومن الصدق ومن التحري للحق، ومن الوقوف مع الحق فقط دون التوجه إلى غير ذلك، فما أكثر ما تكون الخصومة مبنية إما من الطرفين أو أحد الطرفين على أمر يخالف شرع الله -سبحانه وتعالى-.

 

أخرج البخاري ومسلم من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-، وقد جاء من حديث أبي هريرة في خارج الصحيحين أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- اختصم إليه رجلان، فقال لهما: "إنكم تختصمون إليَّ, ولعل بعضكم ألحن بحجته من صاحبه, فمن قضيت له شيئًا من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه, فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليذرها".

 

الرسول يبيِّن لهم أنه يحكم بحسب ما يسمع من الخصمين، وقد يكون أحد الخصمين قادرًا على الحيلة في الكلام، وعلى التزييف والتزين للباطل والخطأ والظلم ويقول الآخر عاجزًا أن يطلع حقيقة الأمر، ويبرأ ساحته، قال عليه الصلاة والسلام: "فمن قضيت له بحق أخيه المسلم فإنما هي قطعة من نار".

 

انظروا إلى خطر أن الشخص يخاصم في ظلم وفي بغي، وفي كذب، وينتصر إلى هذه الطرق ويصل إلى ما ادعاه وإلى ما أراده بما؟ بطرق حرمها الله -عز وجل- قال: "إنما هي قطعة من نار فليأخذها"، وقد جاء عند الدارقطني وعند الطحاوي وغيرهما أن الرجلين لما سمعا قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما هي قطعة من نار"، بكيا خوفًا من النار، المسلم يقف عند حدود الله خوفًا من عذاب الله ليس ذلاً ولا جبنًا، لكنه يخشى الله ويراقب الله، ينظر إلى العواقب في الآخرة إلى حاله يوم لقاء الله كيف سيكون؟ ماذا سيقول؟ بماذا سيحتج إذا احتج هنا بباطل هل سيقبل منه في ذلك اليوم؟!

 

قال فبكيا، فلما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- حسن حالهما؛ أنهما قد انزجرا واتعظا بموعظته -عليه الصلاة والسلام- قال: "أما إذا كنتما كذلك، فاقتسما فيما بينكما"، وكانت الخصومة بينهما على ميراث، قال: "فاقتسما وتوخيا الحق وتحللا"، أي كل واحد يحلل صاحبه مما يخشى من وقوع شيء، فكلٌ يقول لصاحبه: أنا مسامحك إن كان بقي لي شيء.

 

هذا الحديث العظيم استدل به العلماء -رحمهم الله تعالى- على أن الحاكم والقاضي بين الناس إنما يقضي بالظاهر، ولا يقضي بعلمه، ولا يعلم ما في النوايا وما في النفوس والقلوب.

 

كذلك أيضًا هذا الحديث دعا من يدخل بين الناس ليفض النزاعات، ويصلح بين المتخاصمين والمتنازعين أنه ينصح لهم، ويحذر من التواطؤ على شيء يغضب الله؛ على حيل على تزوير، على أيمان فاجرة، على شهود مزورة، يحذر من هذا حتى يرجى للمتخاصمين أن يصلا إلى قبول الصلح، وإلى أن تنتهي فتنتهما.

 

والذي يدخل في القضايا بين الناس، ويحكم بين الناس يحتاج إلى إخلاص لله، ويحتاج إلى نية طيبة، وهي أن يريد الإصلاح للناس لا أن يريد بقاء الخلاف والنزاع والخصومة والتشاحن بين الناس، فمن كانت نيته طيبة ومبتغاه عند الله -عز وجل-؛ فقد  قال الله في كتابه الكريم: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].

 

الله اللهَ يا معشر المصلحين بين الناس من ملوك ورؤساء وزراء ومدراء، وهكذا من آباء ومدرسين وعلماء إلى غير ذلك فليتحر الحق، ومن جهة ثانية فلتكن النوايا طيبة ومحبة للخير والسداد والرشاد.

 

وأيضًا أخرج الإمام أحمد وغيره عن عدي بن عدي قال: اختصم رجلان إلى رسول الله أحدهما من حضرموت والآخر من كندة، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن هذا أخذ أرضًا كانت لأبي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: للحضرمي ألك بينة؟ قال ليس لي بينة، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: إذًا يحلف لك، قال يا رسول الله! إنه فاجر سيحلف ويذهب بمالي -أي سيحلف وهو كاذب في ذلك-، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من حلف على يمينه هو فيه فاجر لقي الله وهو عليه غضبان"، ثم تلا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77].

 

بعد أن سمع صاحب كندة التي توجهت اليمين إليه سمع هذه الموعظة البليغة قال: "يا رسول الله ما لي إن أنا تركت له أرضه؟"، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لك الجنة"، قال: "أشهدك يا رسول الله أني قد تركت أرضه كلها له".

 

فهذا نفعه الموعظة التي سمعها، ما أحوج المسلمين إلى التفقه في الدين، وإلى سماع المواعظ والزواجر والتعليمات وإلى الأخذ بالعبر، وإلى مراقبة الله -سبحانه وتعالى-، فترك له الأرض، وعادت الأمور إلى نصابها.

 

ما أحسن الحق! وما أحسن الصدق! وما أحسن العدل! وما أحسن المراقبة لله والخوف من الله!

 

احذر يا عبد الله أن تطيع هواك، وأن تخضع لعدوك الشيطان؛ فإن الشيطان له مداخل خطيرة، وله مكر كبير بالمتخاصمين والمتنازعين والمختلفين في أن يفسدهم أيما إفساد، وفي أن يباعد بينهم أيمنا مباعدة، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في الجزيرة، ولكن بالتحريش فيما بينهم" (أخرجه مسلم وغيره).

 

كذلك أيضًا جاء عن فضيل بن غزوان -رحمه الله- أن رجل قال له: "إن فلانًا يقع فيك"، أي: يتكلم فيك بطعن، وكلام فيه قدح، فقال فضيل بن غزوان -رحمه الله-: "لأغيظن من أمره، الله يغفر لي وله" فقال: "ومن أمره؟" قال: "أمره الشيطان بذلك"، فأغاظه الشيطان فقال: يغفر الله لي وله.

 

المسلم لا ينسى أن الخلافات والنزاعات أن من ورائها في كثير من الأحيان الشيطان، إذا كانت بجهل، إذا كانت بها هوى إذا كانت بها تعدي وظلم، فمن ورائها الشيطان بل قد يكون المخاصم في أول الأمر مصيبًا، ثم يأتيه الشيطان، ويزين له حتى يقع في المحذور فيتنبه لهذا الأمر.

 

معاشر المسلمين: إن قبول الحق عند الخصومات والنزاعات لأمر واجب وفرض لازم ليس تفضلاً من أحد على أحد، قال الله في كتابه الكريم: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].

 

أتدرون ما سبب نزول هذه الآية؟ سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الزبير بن العوام اختصم هو ورجل من الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراج من الحرة -وهي المسقى-، فلما جاء إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- وسمع منهما فقال الرسول حاكما بينهما: "يا زبير اسقِ، ثم أرسل الماء إلى جارك" ؛ لأن أرض الزبير كانت أقرب إلى الماء من أرض الأنصاري.

 

هذا الجار يريد الماء ليكون له قبل الزبير، هكذا الشيطان يزين للشخص أن يطالب بشيء ليس له، المهم الرسول حكم بهذا الحكم، الرجل قال: "أن كان ابن عمتك يا رسول الله" أي حكمت له من باب تقديم القرابة على غير القريب فأنزل الله (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65].

 

فالمسلم إذا اختصم مع فلان أو فلان المطلوب منه أن يقبل الحق ولو كان مُرًّا، أن يقبل الحق عليه كما يقبله له، هذه قضية في غاية الأهمية، فبعض المسلمين هداهم الله إذا كان الحق له فهو يقبله، وينشرح صدره لذلك، ويطمئن قلبه لذلك، ويمدح الحق ويمدح الدين ويمدح ويمدح، فإذا كان الحق عليه حصل عليه تغير عن هذا، والمطلوب أنه يفرح بالحق عليه لأنه يبتلى بذلك، فإن كان صاحب حق فسيفرح بالحق؛ لأن الله أرحم به ولأن الله ابتلاه بهذا الحق فقبله ورضي به فأكرم وأنعم بهذا أن تقبل الحق فيحصل لك القبول عند الله.

 

لا تظن أن الشخص الذي يرد الحق هو الذكي، وهو الذي يمدح عليه الشخص، بل يذم عليه الشخص أيما ذم، ما دام أنه يفعل ذلك ويصرّ على ذلك.

 

عباد الله : فقلنا عند الخصومات تحرى الحق اسأل ما الحق في هذه المسألة، ارجع إلى أهل العلم، واسألهم الخصومة بيني وبين فلان كذا لمن الحق فيها، وكن صادقًا في سؤالك وصادقًا في بحثك عن الحق، وراضيًا بالحق، سواء لك أو عليك.

 

لن تقوم عبوديتنا لربنا إلا بهذا، أن نقبل الحق علينا كما نقبله لنا، هذا إذا أردت أن تحقق العبودية لله، وأن تنجو من غوائل الهوى، ومن استذلالات الشيطان للإنسان.

 

احذروا عباد الله..

كذلك أيضًا من باب الأمثلة ما أخرجه أبو داود وعبدالرزاق وأحمد وغيرهما من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فِي رَجُلٍ طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رِجْلِهِ –أي: قرن بهيمة- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقِدْنِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَعْجَلْ حَتَّى يَبْرَأَ جُرْحُكَ". قَالَ: فَأَبَى الرَّجُلُ إِلَّا أَنْ يَسْتَقِيدَ. فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهُ. قَالَ: فَعَرِجَ الْمُسْتَقِيدُ، وَبَرَأَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ. فَأَتَى الْمُسْتَقِيدُ، إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرِجْتُ وَبَرَأَ صَاحِبِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَمْ آمُرْكَ أَلَّا تَسْتَقِيدَ حَتَّى يَبْرَأَ جُرْحُكَ، فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ وَبَطَلَ جُرْحُكَ".

 

ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، بَعْدَ الرَّجُلِ الَّذِي عَرِجَ؛ "مَنْ كَانَ بِهِ جُرْحٌ، أَنْ لَا يَسْتَقِيدَ حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحَتُهُ. فَإِذَا بَرِئَتْ جِرَاحَتُهُ، اسْتَقَادَ".   

 

فالمطلوب يا عباد الله القبول بما فيه الصلاح والسداد والرشاد في أمورنا جميعًا، فمن يأتي إلى الصلح عنده قضية المطلوب أن يقبل الصلح ما لم يكن في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما حلل الله، فإن كان الصلح ليس فيه هذا فيقبله الشخص، ولو يرى أنه في نظره مظلوم أو يرى أن حقه ما أخذه كاملاً يقبل ذلك، ويخرج من فتنة، ويرضى بالرجوع إلى السلامة فإن الذي يبتلى عند الخصومات والنزاعات يبتلى بشدة الخصومة.

 

هذا خطر عليه عظيم قال -عليه الصلاة والسلام-: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" متفق عليه من حديث عائشة، والمراد بـ"الألد" الشديد في الخصومة إذا اختلف مع فلان ما يريد أن تنتهي الخصومة ولا القضية ولا النزاع يبقى دائمًا يفتح أبوابًا ويأتي بشبهات ويوسع الأمور، ويحاول أن تبقى الفتنة عياذًا بالله، فاحذروا عباد الله من الوقوع في هذه الفتن التي لها أخطار وأضرار عظيمة.

 

استغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:

المطلوب من المسلمين أن يتفقهوا في أمر الخصومات والنزاعات حتى تخفّ مشاكلهم وتقل اختلافاتهم، ويسلموا من العواقب الوخيمة من القتال والتشريد والسجون إلى غير ذلك مما هو حاصل.

 

أكثر الفتن هي ناتجة عن هذا الأمر، وهو نختلف مع فلان، فلان تعدى على فلان، والمعتدى عليه تعدى مرة ثانية أو أخذ حقه وتعدى وتجاوز أو أخذ حقه بطريق يؤدي إلى الفتنة.

 

فيا عباد الله: الأمور تحتاج إلى حكمة، وإلى صبر، وإلى تقوى، ومراقبة لله، وإلى رحمة ببعضنا بعضًا، بعض الناس إذا اختصم مع فلان ورأى أنه سيستطيع أن يسجنه أو يهينه أو يأخذ ماله أو أو.. يفرح بهذا الذي سيتوصل إليه!

 

يا عبد الله: لا تأمن غضب الله، الله أقدر عليك منك على فلان، روى الإمام مسلم من حديث أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: كنتُ أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعتُ صوتاً من خلفي: "اعلم أبا مسعود" فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود"، قال: فألقيتُ السوط من يدي، فقال: "اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً.

 

لا تفرح بالظلم، لا تستهل أمر الظلم، الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".

 

فكن حريصًا على الحق، وعلى العدل والسداد مع جميع الناس، مع أولادك وأهلك وزوجاتك وجيرانك، وإخوانك ومع الكبير والصغير والضعيف واليتيم والمسكين والأرملة.

 

ارض بالسلامة، ارض أن تسلم من عقوبة الله؛ فإن الناس إذا هان عليهم أن يظلموا من يرونه ضعيفًا، ويرون أنهم يقدرون على إيذائه، فإن هذا خطر عظيم عليهم؛ لأن المنتقم منهم هو الله، والذي سينتقم لهذا المظلوم هو الله، وسيأخذ من الظالم ما يأخذ هو الله فاحذروا التعدي والبغي، فلو حصل أن المسلمين تفقهوا في هذه المسألة، ووقفوا عند حدود الله لذهبت كثير من الفتن، وصلحت الأحوال، ولم يبق الظلم ولا البغي منتشرًا، ولا التعدي والمنع للحق حاصلاً، ولم يبقَ في أوساط الناس السجون مليئة والمحاكم مزدحمة.

 

بعض القضايا بسبب حِيل الناس قد تأخذ لها سنين في المحاكم، وما انتهوا من قضية واحدة بسبب الحيل التي عند الناس، وبسبب  التزوير والأيمان الفاجرة وإلى غير ذلك.

 

فاتقوا الله، وراقبوا الله، وحافظوا على ما هو أنفع لكم في أمر دينكم وفي أمر دنياكم، اصبروا يا أخا الإسلام، إذا أصبت بشيء، أوذيت به فاصبر هذا أولاً، ثم ابحث عن حقك بالطرق المأذون بها شرعًا هذا ثانيًا، فلا تتعجل فتفعل ما لا تُحمد عقباه، وكذلك أيضًا لا تسلك مسالك ليست مؤذونًا بها.

 

جاء من حديث عائشة وابن عمر -رضي الله عنهما- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "من طالب حقًّا فليطلبه في عفاف وافٍ أو غير وافٍ"، يطلب حقه لكن بعفاف وليس بطرق محرمة، وليس بأمور مظلمة، وإنما بالطرق التي يرجى له أن ينال حقه.

 

إن نلت حقك اليوم فلله الحمد، وإن صعب اليوم فسيأتي حقك في الغد، وحقك دنيا وأخرى، وإذا قدر الله أنك لم تنل حقك في الدنيا بالطرق النافعة السليمة، فاصبر حتى تناله في الآخرة، ويا فرحتك بنيل حقك هذا في الآخرة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْتَصُّ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".

 

أما ترضى بهذا العطاء الحسنة يوم القيامة أغلى من الدنيا وما فيها، الحسنة يوم القيامة سبب لدخول الجنة إن وجدت وإن افتقدت، فقد يكون هذا من أسباب دخول النار ومن أسباب غضب الجبار، ومن أسباب العذاب والإهانة هناك من قِبل الواحد القهار، ألا ترضى بهذا.

 

فيا عباد الله سدُّوا أبواب الفتن ما استطعتم، واخضعوا للحق ما وجدتم إلى ذلك سبيلاً، وكونوا أصحاب دين، أصحاب حق، أصحاب أمانة، أصحاب صدق، أصحاب عدل، أصحاب رحمة، أصحاب إحسان وبذل الخير إذا أمكن إلى ذلك سبيلاً.

 

ولله در الحسن البصري فقد قال -رحمه الله- فيما صح عنه: "لتصبرن أو لتهلكن"، بعض الناس يبتلى بفتنة من قبل أخيه فلا يصبر فتحدث المشاكل، وتقع من الفتن، ويقع من الأمر ما لم يكن في حسبانه، وربما أصيب بأكثر مما سبق من الفتنة وما كان يظن هذا.

 

"لتصبرن أو لتهلكن"، ولهذا قد جاء عند أبي نعيم بسند جيد عن الإمام عروة بن الزبير من أئمة التابعين قال: "رب كلمة ذل احتملتها فأورثتني عزًّا طويلاً".

 

بعض الناس إذا قد حصل الخطأ عليه من فلان يريد أن يقيم الدنيا وألا يقعدها، تبصَّرْ في أمورك، القضية قضية دين، وقضية يحكم فيها رب العالمين، وقضية مردّها إلى الشريعة وأحكام الشريعة فليس من جاء مشى قضاياه.

 

نسأل الله بمنه وكرمه وفضله وإحسانه أن يعيننا على قبول الحق..

اللهم يسر لنا الحق..

اللهم أعنا على قبول الحق..

 

 

المرفقات

بالحق عند الخصومات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات