عناصر الخطبة
1/ غياب مبدأ التكافل في هذا العصر 2/ معنى التكافل 3/ الحث على التكافل الاجتماعي وبيان فضله 4/ دعوة الإسلام إلى التكافل بين أفراد المجتمع 5/ ثناء الله على من يتصفون بخلق التكافل 6/ قصة الأشعريين 7/ بيان ثواب التكافل في الدنيا والآخرة 8/ من صور التكافل في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- 9/ غياب التكافل الاجتماعي سبب في انتشار الرذائل في المجتمع 10/ التكافل معنى شاملاقتباس
ويتمثل التكافل الاجتماعي في التعاون بين المسلمين وتناصحهم وموالاة بعضهم لبعض، ويتمثل في مساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين بأن يساهم المسلمون في توفير حاجاتهم وتخفيف معاناتهم، ويتمثل أيضًا في مساعدة الأيتام وكفالتهم، وفي مساعدة الأرامل وتوفير احتياجاتهن... إلى غير ذلك، يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
الخطبة الأولى:
أما بعد:
نتكلم اليوم -بإذن الله- عن أمرٍ عظيم من أمور الإسلام، أمر حثّ عليه الله سبحانه في كتابه العزيز وأرشد إليه رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الكثير من أقواله وأفعاله، إنه مبدأ التكافل الاجتماعي، مبدأ تكاتف المسلمين بعضهم مع بعض، مبدأ تفقّد المسلمين بعضهم لبعض، مبدأ إعانة المسلمين بعضهم بعضًا، هذا المبدأ الذي كان من المفترض أن يتعامل به المسلم مع أخيه المسلم مهما ابتعدت بينهما الأجناس والأرحام أصبح -مع الأسف- غائبًا حتى بين من تربطهم الرحم والقرابة؛ فلا يدري بعضهم عن بعض شيئًا، بل قد ترى إنسانًا يكاد يتفجر من الغنى والأموال وأقرب الناس إليه تحت خط الفقر ولا يشعر نحوه بشيء، فالله المستعان.
والتكافل لغة: من الكفل والكفالة، والكفالة معناها الضمان، تقول: تكفلت بالشيء أي: ضمنته، يقول سبحانه: (وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) [النحل: 91]، أي: شهيدًا وضامنًا، ويقول -عز وجل-: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44]، أي: يحضنها، فالكفالة إذًا هي ضمان الشيء وتحمّله.
ويتمثل التكافل الاجتماعي في التعاون بين المسلمين وتناصحهم وموالاة بعضهم لبعض، ويتمثل في مساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين بأن يساهم المسلمون في توفير حاجاتهم وتخفيف معاناتهم، ويتمثل أيضًا في مساعدة الأيتام وكفالتهم، وفي مساعدة الأرامل وتوفير احتياجاتهن... إلى غير ذلك، يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
ولقد أمرنا الله سبحانه في الكثير من آيات كتابه بهذا المبدأ العظيم مبدأ التكافل، وحثنا على الإحسان إلى كل من يحتاج إلى ذلك، يقول سبحانه: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [النساء: 36]، ويقول سبحانه: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَاب) [البقرة: 177]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي توجهنا إلى هذا المبدأ العظيم وهذا الخلق الكريم الذي يحفظ كيان المجتمع وكرامة أفراده.
وحث أيضًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا الأمر المهم، وكان أولَ العاملين به، فهو القائل -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه-: "أنا أولى بكل مسلم من نفسه، من ترك مالاً فلِوَرثته، ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا فإليَّ وعليّ"، وأرشد الأمة -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المبدأ، مبينًا لمكانته العظيمة من دين الله -عز وجل-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له". أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري.
وهذا تحريك لشعور المسلمين وأحاسيسهم حتى يتضامنوا ويتعاونوا على البر والتقوى، وحتى يحس من عنده شيء من فضل الله بمعاناة وشعور من ليس عنده فيعطيه مما عنده، يقول النووي في شرح هذا الحديث: "في هذا الحديث الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج". انتهى.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة". أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. فهذا حثٌّ على أن يقف المسلم بجانب أخيه إذا احتاج إليه، وله في ذلك الجزاء الحسن من رب العالمين.
ولا يكتفي -صلى الله عليه وسلم- بهذا، بل يصور لنا المجتمع الإسلامي الحقيقي المتكافل المتكاتف تصويرًا جميلاً غايةً في التماسك، فيشبهه بالجسد الواحد الذي يربط أعضاءه نسيج واحد، فلا يصاب فيه عضوٌ إلا أحست به سائر الأعضاء وتأثرت بسبب النسيج الذي يربط بينهم، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن النعمان بن بشير: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
فالمسلمون أيضًا لهم نسيج يربط بينهم ويجعلهم يحسون بمعاناة بعضهم، هذا النسيج هو وحدة العقيدة وآصرةُ الأخوة في الله سبحانه، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يجمع بيننا هذا النسيج ثم لا يحس بعضنا بمعاناة بعض، ولا يسعى بعضنا إلى مساعدة بعض، لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في أنفسنا خلل والعياذ بالله.
ولقد أثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على من يتصفون بخلق التكافل ويحققون مبدأه ويحرصون عليه، أثنى عليهم -صلى الله عليه وسلم- واعتبر نفسه منهم وهم منه، وهؤلاء هم الأشعريون قوم أبي موسى الأشعري الصحابي الجليل -رضي الله عنه-، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الشيخان عن أبي موسى: "إن الأشعريين إذا أرملوا -أي: إذا قارب زادهم على النفاد- في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم".
فانظروا إلى هذا التوحد في إحساس هؤلاء القوم ببعضهم، حتى صار من يملك شيئًا يقتسمه مع من لا يملك بكامل الرضا والسماحة، وانظروا إلى الشرف العظيم الذي نالوه بهذا الصنيع، وأي شرف أكبر من أن يقول عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فهم مني وأنا منهم"؟!
هذه -إخوة الإيمان- أهمية هذا الأمر العظيم ومنزلته من ديننا الحنيف، فلا بد أن نعطي هذا الأمر حقّه، ولا بد أن نسعى في أن نكون متكافلين متعاونين في ظل تعاليم ديننا.
أما عن ثواب هذا التكافل -يا عباد الله- فإنه ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، فلقد عدّه رسول الله كالجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله"، فهل نعجز عن تحصيل ثواب هذا الجهاد بمثل هذا العمل الذي قد يكون أيسر على كثير منا من الجهاد بالنفس؟! بل ويرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المبدأ ويشجع عليه حتى يجعل من يقوم بهذا الواجب الإسلامي العظيم رفيقًا له في الجنة، فيقول فيما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا". وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما. فمن ذا الذي يرغب عن مصاحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؟! ومن ذا الذي يزهد في هذا الفضل العظيم؟!
هذا هو التكافل الاجتماعي الذي نادى به الإسلام قبل أن تنادي به النظريات الاجتماعية الوضعية، وحثّ أتباعه عليه، وكان -صلى الله عليه وسلم- قدوةَ الناس في هذا، شاعرًا بمعاناة المسلمين، يعيشها معهم بكل جوارحه، ولم يكن محجوبًا عنهم متعاليًا عليهم، كان يجوع إذا جاعوا، ويأكل إذا أكلوا، بل قد يأكلون ولا يأكل -صلى الله عليه وسلم-، كل ذلك ليعلم الأمة أهمية أن يشعر بعضهم بهموم بعض، وأن يساعد بعضهم بعضًا.
فاسعوا -عباد الله- في هذا السبيل العظيم الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ولا يدفعنكم التكاثر في الأموال والأولاد والتسابق على الاستزادة من متاع الحياة الدنيا إلى نسيان الفقراء واليتامى والأرامل والمعوزين، فقد يكون هذا التكاثر في الأموال وبالاً عليكم في الآخرة، عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا أو كسبه من طيب". أخرجه ابن ماجه.
يبين -صلى الله عليه وسلم- أن الأكثرين الذين يملكون الأموال في هذه الحياة الدنيا ويتكاثرون فيها سيكونون أقل الناس حظًا وفوزًا يوم القيامة إلا من كسَبَ أمواله من حلال وقال بالمال هكذا وهكذا أي: أنفق من هذا المال في سُبل الخير وفي مصالح المسلمين وفي مساعدة الفقراء والمحتاجين، فمن فعل هذا كان المال بالنسبة له نعمةً ينال ثمرتها يوم القيامة.
فاتقوا الله -عباد الله-، وتعاونوا وتآزروا وتناصحوا، ولا يقل كل واحد منا: نفسي نفسي؛ لأنه لا غنى لمسلمٍ عن إخوانه.
أسأل الله أن يوفقنا إلى العمل بمرضاته، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان: إن قوةَ أيّ مجتمعٍ وسلامته إنما هي في قوة العلاقة والترابط بين أفراده، فإذا كانت علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض علاقة حبّ وتعاون على الخير ازدهرت حياة المجتمع واستقرت أموره، وإذا كانت العلاقة علاقة مصالح محضة وعلاقة أنانية فإن هذا يعود على المجتمع بالتفرق وذهاب الريح، يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، ويقول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
وموضوع التكافل الاجتماعي نحن مأمورون بإحيائه والعمل به؛ أولاً: لإرضاء ربنا -عز وجل- وما يترتب على هذا من ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، وثانيًا: لحفظ أنفسنا وإخواننا ومجتمعاتنا من التمزق وانتشار الرذائل والجرائم، والناظر في الانحرافات والجرائم المنتشرة في المجتمع يرى أن العامل الأساسي المشترك بينها هو غياب التكافل الاجتماعي وغياب إحساس المسلمين بعضهم ببعض، لهذا حثنا -صلى الله عليه وسلم- على كثير من أمور التكافل الاجتماعي التي تحفظ المجتمع وتمنع من استفراد الشيطان ببعض أفراده، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض". أخرجه أحمد.
واعلموا -إخوة الإيمان- أنه لا يشترط في التكافل أن يكون بالمال والطعام وحسب، بل إن الزيارة في الله من التكافل، والنصيحة من التكافل، والكلمة الطيبة من التكافل، بل قد يكون أثر مثل هذه الأمور أعظم من أثر المال. فسارعوا -عباد الله- إلى إحياء هذا المبدأ العظيم في أُسَرِكم وجيرانكم وإخوانكم المسلمين، واقتدوا بسلفكم الصالح الذين عرفوا هذا الأمر وقاموا به حق القيام، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضوان الله عليهم- يتفقدون ذوي الحاجات ويعينونهم، وجاء من بعدهم من المسلمين فحرصوا على هذا أشد الحرص، فقاموا به جماعات وأفرادًا، يبتغون رضوان الله.
يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن القاضي محمد بن علي المروزي عُرف بالخياط لأنه كان في الليل وفي وقت فراغه يخيط الثياب للأيتام والضعفاء، ويذكر أيضًا أن أبا العباس الرفاعي -وكان فقيهًا شافعيًا- كان يجمع الحطب ويجيء به إلى بيوت الأرامل ويملأ لهم الماء بالجرة، فأين نحن من سيرة سلفنا الصالح؟! وأين نحن من مثل هذه الأخلاق وهذه المكارم؟!
فاتقوا الله -معشر المسلمين-، وراقبوه في السر والعلن؛ تفلحوا وتسعدوا.
اللهم وفقنا إلى ما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم