التقرب بأمهات العبادات في الأيام الفاضلات

بندر بليلة

2024-06-14 - 1445/12/08 2024-06-17 - 1445/12/11
التصنيفات: عشر ذي الحجة
عناصر الخطبة
1/من فضائل عشر ذي الحجة 2/الحث على اغتنام الأيام الفاضلات 3/من دورس وعبر فريضة الحج 4/قضية التوحيد من أعظم قضايا الحج

اقتباس

حجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ، مَنسكٌ عظيمٌ، فيه تتلاشَى النِّزاعاتُ، وتذوبُ الخلافاتُ، وتتهاوَى النَّعراتُ، وتتجهُ النفوسُ إلى ربِّ الأرضِ والسماواتِ، لا مجالَ فيهِ للتّباهِي بالألوانِ والأجناسِ، ولا فضلَ فيه لأحدٍ من النَّاسِ على النَّاسِ إلَّا بالتقوى...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله يَمُنُّ على مَنْ يشاءُ من عبادهِ بالتّوفيقِ، أحمَدُهُ -سبحانَه-، هدانا لأفضلِ شريعةٍ وأقومِ طريقٍ، أشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، نادَى عبادَهُ فلبَّوْا نداءَهُ مِنْ كلِّ فجٍّ عميقٍ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، ذو الخُلُقِ الأكملِ والنَّسبِ العريقِ، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ، وعلى آلهِ وصحبِهِ، أُولِي الفضلِ والتَّصديقِ.

 

أمَّا بَعْدُ: فأوصيكُمْ ونفسي بتقوى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فاتَّقُوا اللهَ رحمكُمُ اللهُ؛ فإنَّ مَنِ اتَّقَاهُ وقاهُ، وفرَّجَ همَّهُ وكفاهُ، ويسَّرَ أمرَهُ وأدناهُ، وبلَّغَهُ مُناهُ، وحقَّقَ لهُ مُبتغاهُ، وصَرَفَ عنهُ السُّوءَ، وجنَّبهُ خُطاهُ.

 

عبادَ اللهِ: ها قد دارَ الزَّمانُ دَوْرتَهُ، وأظلَّتْكُمْ فيهِ خيرُ أيّامِ الدُّنيا، أيّامُ عِشْرِ ذي الحجّةِ، الَّتي عَظَّمَ اللهُ أمرَها، ورفَع قدرَها، وأَعْلَى شَأْنَها، فنَهَلْتُم مِن مَنبعِها العَذْبِ، واغترفتُم مِن مَعِينِها الَّذِي لا يَنْضَبُ، أفضْلَ الأعمالِ وأَزْكاها، وأجلَّ القُرُباتِ وأَسْناها، تَسلَّمها المولى منكُم كما سلَّمَكُم إيَّاها، مقبولةً بقَبُولٍ حَسَنٍ، مشمُولةً منهُ بالرِّضَى الأتمِّ الـمُستحْسَنِ، ولقد آذنت أيامكم هذه بالرحيل، فلم يبق منها إلا القليل، بقي الثلث، والثلث كثير، كيف لا؟ وفيه يومكم هذا؛ يوم التروية، يوم سقاية الحجيج، وقد صادف يوم جمعة؛ الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: "خير يوم طلعت عليه الشمس"(رواه مسلم)، يليه يوم عرفة، اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتم نعمته على سيد المرسلين؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3]، ثم اليوم العاشر؛ يوم النحر.

 

وما أدراكم ما يوم النحر؟ يوم الحج الأكبر؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف بين الجمرات يوم النحر في الحجة التي حجها وقال: "هذا يوم الحج الأكبر"(أخرجه البخاري)، وهو أعظم الأيام عند الله -جل وعلا-؛ فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر"(أخرجه أبو داود)، أقسَم الله به وبيوم عرفة، بعد أن أقسَم بالعَشْر؛ لمكانتهما وعظيم منزلتهما عنده، فقال سبحانه: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)[الْفَجْرِ: 3]، قال صلى الله عليه وسلم: "والفجر وليال عشر؛ إن العشر عشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر"(أخرجه الإمام أحمد والنسائي).

 

أيها المسلمون: حجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ، مَنسكٌ عظيمٌ، فيه تتلاشَى النِّزاعاتُ، وتذوبُ الخلافاتُ، وتتهاوَى النَّعراتُ، وتتجهُ النفوسُ إلى ربِّ الأرضِ والسماواتِ، لا مجالَ فيهِ للتّباهِي بالألوانِ والأجناسِ، ولا فضلَ فيه لأحدٍ من النَّاسِ على النَّاسِ إلَّا بالتقوى، فهي خيرُ لباسٍ، عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّـيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، ‌وَآدَمُ ‌مِنْ ‌تُرَاب"(أخرجه الإمام أحمد في مسندهِ وأبو داودَ في سُننِهِ)، والعُبِّـيَّةُ: الكِبْرُ والفَخْرُ؛ فالميزان عند الله ترجح كفته بتقواه، قال -جل في علاه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الْحُجُرَاتِ: 13]، عن أبي نضرة قال: "حدثني مَنْ سَمِعَ خطبةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق قال: يا أيها الناسُ، ألَا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا أحمرَ على أسودَ، ولا أسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى"(أخرجه الإمام أحمد)؛ فالعبرة في هذا الدين العظيم بما وقَر في القلب وصدَّقَه العملُ، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ الله لا ينظُر إلى صُوَرِكم ولا أموالِكم، ولكِنْ يَنظُر إلى قلوبكم وأعمالكم"(أخرجه مسلم)؛ فتزوَّدُوا -عبادَ اللهِ- فإنَّ خيرَ الزّادِ التقوى، واستمسِكُوا مِن دينكُم بالعُروةِ الوثقى، وعليكُم بالجماعةِ، فإنَّ يدَ اللهِ مع الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ عياذًا بالله.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ذي الجلالِ والإكرامِ، والطَّوْلِ والإنعامِ، أحمدُه -سبحانَه- وأشكرُه، على آلائهِ العظامِ، ومِنَنِه الجسامِ، والصلاةُ والسلامُ، على خيرِ الأنامِ، نبيِّنا محمّدٍ، خيرِ مَنْ صلَّى وقامَ، وحجَّ وصامَ، وعلى آلِه وصحبِهِ، الخِيَرَةِ الكرامِ.

 

أمَّا بعدُ: إنَّ كُبرى القضايا التي قام عليها منسك الحج العظيم، بل وقامت عليه جميع الطاعات والعبادات، هي تحقيق التوحيد، وتجريده لرب العبيد، وإظهار الاستسلام لله بالطاعة، والانقياد له بالعبادة، والبراءة من الشرك وأهله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا غيره، وبه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، كما قال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)[الزُّخْرُفِ: 45]، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الْأَنْبِيَاءِ: 25].

 

التوحيد -عبادَ الله- هو الحسنةُ التي لا تعدلُـها حسنةٌ، والقُربةُ التي لا تُوازيها قُربةٌ؛ فحسنةُ التّوحيدِ تأتي على السيئاتِ فتمحُوها، وعلى الآثامِ فتجلُوها، عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- حينما أُسريَ بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا، ‌الْمُقْحِمَاتُ"(أخرجهُ مسلمٌ).

 

قال أهلُ العلمِ -رحمَهُم اللهُ-: "الـمُقْحِماتُ: الذنوبُ العظامُ التي تُقحِمُ وتُدخِلُ صاحبَها النارَ" عياذًا باللهِ.

 

فاحرِصُوا -عبادَ اللهِ- على تحقيقِ التوحيدِ، واحذرُوا ممَّا يُعَكِّرُ نقاءَهُ، ويَخدِشُ صفاءَهُ، وتمسَّكُوا بالسُّنَّةِ، وجانِبُوا أهلَ الأهواءِ والبِدَعِ المُضلَّةِ؛ فالعبادةُ لا تُصرَفُ إلَّا للهِ وحدَهُ، لا لِمَلَكٍ مُقرَّبٍ، ولا لنبيٍّ مرسَلٍ، فضلًا عمَّنْ دونَهُم من الأولياءِ والصالحينَ، ممَّن لا يملكُ لنفسِه نفعًا، ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نُشُورًا.

 

واشكروا اللهَ على هذهِ النّعمةِ العظيمةِ، وجاهِدوا أنفسَكُم عليها، فإنَّ رُتبةَ أحدِكُم عندَ ربِّهِ بقدرِ ما حقَّقَ من أصلِها وكمالِـها.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا -عبادَ اللهِ- على خيرِ خَلْقِ اللهِ، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهم صل وسلم، وزد وبارك وأنعم على عبدك ورسولك، نبينا محمد، وارض اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي العشرة وأصحاب الشجرة، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، اللهمَّ أعز الإسلام وانصر المسلمين، واحم حوزة الدين، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ فرِّجْ هَمَّ المهمومينَ مِنَ المسلمينَ، ونفِّس كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّيْنَ عن المدِينِينَ، واشْفِ مرضانا ومرضَى المسلمينَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، وأَيِّد بالحقِّ والتوفيقِ إمامَنا ووَليَّ أمرِنا، اللهُمَّ وفِّقْهُ ووَليَّ عهدِهِ لِـما فيهِ صلاحُ البلادِ والعبادِ، وعِزٌّ لِلإسلامِ والمسلمينَ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ سَدِّد جُندَنا المرابطينَ على الحدودِ والثُّغورِ، اللهُمَّ كُنْ لـهُم مُعينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظَهيرًا، اللهُمَّ احرُسْهُم بعَيْنِكَ الَّتِي لا تنامُ، واكنُفْهُم برُكنِكَ الَّذي لا يُرامُ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ تقبَّل من الحُجَّاجِ حَجَّهُم، ويسِّرْ لهم أُمورَهُم، ووفِّقْهُم لأداءِ مناسكِهم على الوجْهِ الَّذي يُرضيكَ عنهُم، ورُدَّهُم إلى أوطانِهِم سالمينَ غانمينَ مأجُورينَ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ اجزِ خادمَ الحرمينِ الشَّريفينِ ووَلِيَّ عهدِهِ الأمينَ، خيرَ الجزاءِ وأوفاهُ، وأجْزَلَهُ وأَسْماهُ، على ما يُقَدِّمونَهُ للإسلامِ والمسلمينَ، واجعَلْ ذلكَ في موازينِ أعمالِهما يومَ القيامَةِ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللَّهُمَّ وفِّقْ جميعَ القائمينَ على خدمَةِ ضيوفِ الرحمنِ، برحمتِكَ يا كريمُ يا منَّانُ.

 

اللهُمَّ اقسِمْ لنا من خشيتِكَ ما تَحُولُ به بينَنا وبينَ معاصِيكَ، ومِنْ طاعتِكَ ما تُبَلِّغُنا به جَنَّتَك، ومن اليَقينِ ما تُهَوِّنُ به علينا مصائبَ الدُّنْيا، ومَتِّعْنا اللَّهُمَّ بأسماعِنا وأبصارِنا وقُوَّاتِنا أبدًا ما أَبْقَيْتَنا، واجعلْهُ الوارثَ منَّا، وَاجْعَلْ ثأرَنا على مَنْ ظَلمَنا، وانصُرْنا على مَنْ عادانا، وهب لنا اللهمَّ إيمانًا ويقينا، ومعافاة ونية، يا أرحم الراحمين؛ (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

 

 

المرفقات

التقرب بأمهات العبادات في الأيام الفاضلات.doc

التقرب بأمهات العبادات في الأيام الفاضلات.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات