التغيير (1)

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ حال المسلمين اليوم مع القرآن 2/ تهذيب القرآن للأخلاق والسلوك 3/ سنة التغيير كما يصورها القرآن 4/ حال الجزيرة العربية قبل نزول القرآن 5/ دور الوحي في إحداث التغيير 6/ التغيير الفردي بداية للتغيير الجماعي

اقتباس

قاعدة راسخة من سنن الله في الأرض؛ إنها: سنة التغيير ينص عليها كلام الله الخالق بوضوح: لا يغير حتى يغيروا، هذه السنة سماها بعض المتخصصين: قانون الرقي والانحطاط، وأساس هذه السنة: أن تغيير الواقع منوطا بتغيير ما في النفس، مع أن ما في النفس...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

لا نختلف نظريا على أن العلاج لما ينتاب الأمة من ضعف وشدة وهوان، العلاج مقرر في كتاب الله -تعالى- لا نختلف، فمن مشاكلنا المزمنة: أن الكثيرين منا لا يقرؤون القرآن إلا قراءة نظرية، محدودة النفع، إما من أجل البركة، أو كسب الحسنات، أو من أجل الختمة، أو ما شابه ذلك، فيظل أحدهم سنين عديدة وهو يمر بالآيات تلو الآيات، فلا تحرك فيه إلا شفتيه فقط.

 

نعم ما يزال الكثيرين في معزل عن حقيقة الأثر، حقيقة كون القرآن كلام الله الخالق؛ نورا مبينا: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52].

 

في حقيقة كون القرآن منهاجا لتهذيب قيم الناس وترتيبها، ومقوما للتصورات، وهاديا إلى أحسن الأقوال والأعمال، وممحصا ومعاتبا ومرشدا إلى طريق الخلاص في الدنيا والآخرة: (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].

 

مما نقرأه ونسمعه وليتنا نتأمله ونفهمه جيدا ثم نبادر إلى العمل بمقتضاه جماعات وأفرادا رجالا ونساءً: قول ربنا -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز في سورة الرعد: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد: 11].

 

في قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) قاعدة راسخة من سنن الله في الأرض؛ إنها سنة التغيير ينص عليها كلام الله الخالق بوضوح: لا يغير حتى يغيروا، هذه السنة سماها بعض المتخصصين: قانون الرقي والانحطاط.

 

وأساس هذه السنة: أن تغيير الواقع منوطا بتغيير ما في النفس، مع أن ما في النفس شيء لا مرئي ولا ملموس، مشاعر، روابط، قناعات، قيم مكنونة في النفس، إلا أنه بنص الآيات سببا في تغيير العالم المتحرك الفاعل المغيب: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

 

دعونا نتأمل في هذا الجزء من الآية وفي مدلولاتها بدقة؛ ففي قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ) تذكير بالخالق مدبر الكون نراه قدم لفظ الجلالة لحصل التغيير مع تأكيده فإنه هو وحده الذي يغير وفقا للسنن التي قدرها في ملكوته.

 

(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ) (إِنَّ) توكيد مستمر لا ينقطع؛ لأن "يغير" فعل مضارع، ومقتضاه الاستمرار في انتفاء التغيير: لا يغير.

 

قال: (مَا بِقَوْمٍ) (مَا) اسم موصول يفيد العموم، أي من حال إلى حال، سواء من هزيمة إلى نصر، أو العكس، أو من خير إلى شر، أو من نعمة إلى نقمة، وغير ذلك.

 

وقوله: (بِقَوْمٍ) "الباء" تفيد أن هذا الأمر هو لصيق لأولئك القوم، و"قوم" نكرة تفيد العموم أيضا بأن أي قوم كانوا مسلمين أو كفارا، السنة الربانية لا تفرق: (حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (حَتَّى) حرف غاية، فما لا يغيروا ما بأنفسهم لن يتغير حالهم ما دامت الدنيا.

 

معاشر الإخوة: من أقام الإيمان في قلبه حق القيام قام له الإيمان في حياته، وأرشده ذلك الإيمان وغير من حياته للأحسن.

 

إنه من المعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها في عموم مناطقها قبل نزول القرآن سوى قبائل بدوية وثنية متناحرة، تعيش إما في صحراء مجدبة، أو في جبال وعرة، والقليلون منهم مشغولون في السهول بالفلاحة والزرع، والأخذ بأذناب البقر، أوقاتهم ذاهبة هباءً لا ينتفعون بها إلا في المأكل والمشرب، ولا قيمة لهم في حركة الأرض بين العمالقة: فارس الروم.

 

لقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان والأرض والوقت، راقدة خامدة في حياتنا، وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورا فاعلا في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح، وأشرقت النفس، وتهيأ القلب بغار حراء، ونزل الوحي العظيم، بدأت تنشأ من خلال تلك العناصر المكدسة حضارة جديدة، حضارة فتية راشدة، ولادتها مع كلمة: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 2 - 5].

 

إنها كلمة: (اقْرَأْ) التي حملها جبريل -عليه السلام- ونزل بها من فوق سبع سموات، وأدهش بها النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- حينما كررها عليه المرة تلو الأخرى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما أنا بقارئ" وفي كل مرة يقول له ذلك كان يعصره، ثم يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنا بقارئ"، هكذا دلالة على قوة تلك الكلمة ومكانتها وإحداثها للتغيير في الأرض وفي الواقع، ولذلك لما قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- تغيرت الأرض حملها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقامت عليه القبائل من كل جانب حمل هذه الكلمة: (اقْرَأْ) ونفذها فقرأ صلى الله عليه وسلم فعادوه، وكادوا له، وكان الله معه.

 

ثم تبعه الصحابة -رضوان الله عليهم- وأقاموا وأنشأوا وغيروا وتغيروا بالقرآن الكريم، حتى وصل ربعي -رضي الله عنه- وركز رمحه على وسائد رستم، وقال مقالته الشهيرة ردا على سؤال رستم: "ما جاء بكم؟" فقال ربعي: "إن الله ابتعثنا لنُخرِجَ من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

 

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسْـ  *** ـمَك فوق هامات النجوم منارا

من كان يهتف باسم ذاتك قبلنا *** من كان يدعو الواحد القهار

كنا رجالا في الجبال وربما *** سرنا على موج البحار بحارا

لم نخش طاغوتا يحاربنا *** ولو نصب المنايا فوقنا أسوارا

بمعابد الإفرنج كان آذاننا  *** قبل الكتائب يفتح الأمصارا

وكأن ظل السيوف ظل حديقة *** خضراء تنبت حولها الأزهارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذي *** صنع الوجود وقدر الأقدارا

 

أعود وأقول كما قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه: "اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة".

 

سنن الله على هذه السنن جرى سلف الأمة، وعلى هدى تلك الآية أخذوا نفوسهم بما يتبعهم من حقائق الأقوال والأعمال، بينما خلف من بعد ذلك أقوام ظنوا الدين أماني، وجعلوا من آيات القرآن ترانيم لا واقع لها في الحياة.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

أما بعد:

 

فإن التغيير يبدأ بما يعتلج في النفس من أهواء واهتمامات وتصورات وقيم، فبحسب ما في النفس تتشكل حياة الإنسان، وبحسب ما في نفسه من قيم تظهر أخلاقه، ويظهر تعامله مع كل شيء حوله.

 

صحيح أن الآية تتكلم عن القوم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) جماعة، لكن مبدأ التغيير يكون فرديا، تحرك النبي -صلى الله عليه وسلم- فردا فغير، ثم تحرك الصحابة بعده واحدا واحدا، فلما اجتمعوا على قلب واحد تحت راية واحدة لهدف واحد تغير الواقع حوله.

 

وللحديث حول ما ينبغي تغييره بقية -إن شاء الله تعالى-.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.

 

 

المرفقات

(1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات