التضحية

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ الأوامر الشرعية تحث على الفضائل وتنهى عن الرذائل 2/ أهمية التضحية والبذل في سبيل الدين 3/ صور من تضحيات الأنبياء والصحابة 4/ التضحية بالنفس والمال في سبيل الله 5/ الوسائل المعينة على البذل والتضحية

اقتباس

من تأمل في سير الأنبياء وجد أن التضحية والبذل في سبيل الدين كان أمرًا ظاهرًا بينهم، ولا يمكن أن تسود أمة من الأمم إلا إذا كان هذا الأمر ظاهرًا، سواء كانت التضحية بالمال أو بالجاه أو بالنفس والدم أو بمفارقة الأهل والولد أو البذل للوقت والجهد والخبرة وغير ذلك ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة الكرام: إن من تدبر في كتاب الله -جل في علاه- ومن نظر في سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد أن الأوامر تأتي بالإقدام على الفضائل والنهي عن الرذائل، وما تسود أمة من الأمم إلا إذا كانت تبذل لأجل منهجها ولأجل دينها ولأجل ملكها ولأجل أن تسود على الناس إلا إذا كانت تبذل وتضحي في سبيل ذلك..

 

ومن تأمل في التاريخ ونظر في الأمم التي كانت قبل الإسلام وجد هذا الأمر ظاهرًا، لذا من تأمل -أيضًا- في سير الأنبياء وجد أن التضحية والبذل في سبيل الدين كان أمرًا ظاهرًا بينهم، ولا يمكن أن تسود أمة من الأمم إلا إذا كان هذا الأمر ظاهرًا، سواء كانت التضحية بالمال أو بالجاه أو بالنفس والدم أو بمفارقة الأهل والولد أو البذل للوقت والجهد والخبرة وغير ذلك..

 

انظر مثلاً إلى ما حكاه ربنا -جل وعلا- لما ذكر -جل وعلا- سيرة نبي الله نوح -عليه أفضل الصلاة والسلام- قال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) [نوح:5-8] فكان يضحّي بوقته وجهده وفراق أهله وبلده وولده لأجل أن يعلي راية الله تعالى..

 

ولقد قص الله -تعالى- علينا في كتابه أخبار من الأمم السابقة، فقص الله تعالى قصة السحرة الذين أقبلوا إلى فرعون أقبلوا إليه لاهثين راغبين في المال والجاه (قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الأعراف:113-114].

 

فلما ألقوا حبالهم وعصيهم وحاولوا أن يظهروا سحرهم ألقى موسى -عليه السلام- عصاه فإذا هي حية تسعى، إذا هي حية تلقف ما يأفكون (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف:120-124].

 

فجعل يهددهم بأنواع التهديد فإذا بالتضحية في سبيل الله تعالى، وبذل النفس والروح؛ لأجل أن تعلى كلمة الله تعالى ولأجل أن ترفع راية الدين والتوحيد تكون هي الظاهرة في قلوبهم، (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 72-73].

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كانوا في أول النهار سحرة فجرة وصاروا في أخر النهار شهداء بررة".

 

إنه التضحية في سبيل هذا الدين، ولا نعني -أيها الأخوة الكرام- إذا قلنا التضحية أنها التضحية فقط بالجهاد أن يضحي المرء بوقته فلولا أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه ضحى بوقته فكان يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-..

            

قال -رضي الله عنه-: "إنكم تقولون أكثرَ أبا هريرة" يعني جاءنا بأحاديث كثيرة لا نعرفها ولا نحفظها، قال: "وإن إخواني من الأنصار كانت تلهيهم بساتينهم ومزارعهم عن طلب الحديث، وإن إخواني من المهاجرين كان يلهيهم الصفق بالأسواق عن طلب الحديث وكنت امرأً فقيرًا ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

 

يلزمه لا يفارقه كل الوقت معه يضحي بوقته في سبيل حفظ الحديث للأمة، "كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني" إذا وجدت ما آكله في ذلك اليوم يقيمني فإني ألزم النبي - عليه الصلاة والسلام.. قال: "فأحضر حين يغيبون وأحفظ حين ينسون" فلولا أنه ضحى بوقته لما كانت مثل هذه الأحاديث تصل إلينا.

 

لولا أن الإنسان الأب يضحي بوقته وجهده وتعبه لما استطاع أن ينفق على أولاده، لولا أن المرأة التي يعاملها زوجها معاملة سيئة تضحي براحتها، تضحي ربما أحيانًا بكراماتها فتتحمل إهانته وسوء تعامله ما كانت تربي أولادها في بيت فيه أب وأم وإنما سارعت في طلب الطلاق أو الخلع أو الفسخ منه..

 

إن التضحية -أيها الإخوة المؤمنون- هي من أعظم وأكبر المظاهر التي ربانا عليها نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإذا نظرت في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في رجوعه من الطائف بعدما كبته أهلها، أو في سجوده عند الكعبة فيقبل أشقى القوم بفرث الدواب وهو ما يخرج من الدابة عند الولادة يقبل ويضعه على رقبة النبي عليه الصلاة والسلام، ويفارق أهله في سبيل الهجرة..

 

لولا أنه ضحى -عليه الصلاة والسلام- ضحى بوقته وماله وتحمل أذى قريش لما قام للإسلام راية يرفعها -عليه الصلاة والسلام-.

 

وكذلك الصحابة الكرام مصعب بن عمير -رضي الله عنه- لما اقتنع بداخله بسلامة الدين والتوحيد وبخطأ ما عليه قومه أقبل مبايعًا للنبي -عليه الصلاة والسلام- فحرمته أمه من كل شيء كانت تعطيه إياه؛ من المال والمتاع والتجارة والثياب والطعام والرائحة الحسنة وما شابه ذلك من أنواع النعيم حتى إنه كان ساترا ممكنا منعما مرفها من أحسن وأجمل وأرفه شباب مكة..

 

فأقبل يومًا إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وعليه ثوبان مخرقان قد لبس الأول فإذا الخروق تظهر بعض جسده فلبس الثوب الثاني فوقه ليغطي خرق هذا بهذا، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام دمعت عيناه وقال: "لقد رأيت هذا وما شاب بمكة أرفه ولا أنعم منه".

 

فترك كل ما كان فيه من نعيم ضحى به في سبيل التمسك بالتوحيد، حتى إذا أسلم نفر من أهل المدينة على يد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- طلبوا رجلا يسافر معهم إلى المدينة؛ ليعلمهم الدين فاختاره النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا به يضحّي إضافة إلى ما ضحى به من أمواله وعزه التي كانت أمه تعطيه إياه، يضحي -أيضًا- بالبلد التي نشأ فيه وترعرع فيه ومشى على أرضه وأكل من ثماره وصاحب أهل... يضحي بكل ذلك..

 

ويمضى إلى المدينة وبعد سنة واحدة يقيم فيها، أول جمعة أقيمت في الإسلام أقامها مصعب، ثم يعود بعد سنة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أكثر من سبعين ما بين رجل وامرأة كلهم قد أسلموا على يده..

 

التضحية التي ضحاها جعل بها دولة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة تستقبله لما يهاجر إليها..

 

صهيب الرومي -رضي الله عنه- لما وقر في قلبه الإسلام وجعلت قريش تضايقه كما تفعل مع بقية المسلمين حتى إذا كانت في يوم من الأيام بعدما هاجر أكثر المسلمين إلى المدينة جمع عليه متاعه وأخذ معه سيفه ورمحه وسهامه ثم مضى ليهاجر كما هاجر المسلمون ثم تبعه نفر من قريش قالوا له: أتيتنا صعلوكًا لا مال لك ثم تخرج الآن من بيننا، والله لا تخرج من بيننا..

 

فصعد على جبل ونثر سهامه بين يديه وقال يا قريش: والله لقد علمتم أني أصوبكم رميًا والله لا تصلوا إليَّ حتى أقتل منك بعدد هذه السهام..

 

فتحيروا وهم ينظرون إليه فلما طال بهم المقام وطال بهم الانتظار وهو لا يستطيع النزول وهم لا يجاوزن مكانهم، قال لهم صهيب: ألا أدلكم على شيء خير من أن تمسكوني عندكم؟ قالوا: ما هو؟ قال: أدلكم على موضع مالي في مكة فتذهبون إليه فتحوزونه إليكم كله ولا تدعون لي منه شيئا..

 

يضحي بماله في سبيل أن يمكنوه من الهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا له: افعل ذلك، قال لهم: اذهبوا إلى موضع كذا تجدوا لي فيه مالا، واذهبوا إلى فلان فإني قد وضعت عنده مالا، واذهبوا إلى فلان فإن لي عنده ثياب، واذهبوا إلى فلان فإني... وجعل يدلهم على مواضع ماله حتى إذا وثقوا منه جمع سهامه ونزل وأقبل إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-..

 

فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد نبأه خبر السماء بقصة صهيب قبل أن يصل إلى المدينة قال -عليه الصلاة والسلام-: "ربح البيع أبا يحيى.. ربح البيع أبا يحيى.. ربح البيع أبا يحيى"، وجعل -عليه الصلاة والسلام- يكررها حتى وقف صهيب بين يديه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

 

إن هؤلاء -أيها المسلمون- الذين استطاعوا أن يضحوا، أن يبذلوا، أن يجعلوا راية الإسلام هي أهم عنده من أنفسهم، أهم عليهم من أموالهم، أهم عليهم من بيوتهم، أهم عليهم من أولادهم، أهم عليهم من عزهم وشرفهم..

 

هم الذين قام عليهم الدين، هم السلم الذي رفعت عليه راية الله -جل وعلا- حتى سار للدين مكانا وحتى فتحت بسببهم بلدان.. أما الذين لم يضحوا ولم يستطيعوا أن يخرجوا أنفسهم من وحل الدنيا فإنهم يتردون في نار جهنم؛ لأنهم أثاروا الحياة الدنيا واستحبوها على الآخرة.

 

بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل كتابا مع دحية بن خليفة الكلبي -رضي الله تعالى- عنه فقرأ الكتاب ثم جمع إليه من كان من أهل مكة تجارا في دمشق في الشام فجيء بهم إليه فسألهم عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أسئلة حتى استقر في قلبه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو رسول حقا، وأنه الذي بشرت به من قبل الأنبياء، وأنه الذي أمرهم موسى باتباعه وأمرهم عيسى باتباعه، وأنه النبي الذي كان ينتظره أهل الكتاب..

 

أيقن هرقل ذلك بقلبه إيقانًا تامًّا وقرأ عليه كتاب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وإذا به "من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيّين -يعني عليك إثم قومك- (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64]".

 

قرئ عليه الكتاب وأيقن في داخله يقينًا تامًّا لا شك فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- على حق، لكن هل عنده استعداد أن يضحّي بملكه؟ هل عنده استعداد أن يضحّي بقصره؟ هل عنده استعداد أن يضحي بماله؟ هل عنده استعداد ربما يضحي بنفسه لو قتله قومه؟

 

وإذا بهرقل يوازن بين هذا وبين الإسلام فتميل نفسه إلى ما هو فيه من عز ويلتفت إلى أبو سفيان -وكان أبو سفيان من التجار المكيين الذين جيء بهم إليه ليسألهم- فقال: "والله كنت أعلم أنه خارج" أن هذا النبي سيخرج بالناس في الأمة كما بشر به الأنبياء من قبل..

 

"كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أعلم أنه منكم، ووالله لو كنت أعلم أني أخلص إليه لغسلت عن قدميه بالماء فجئت إليه ذليلاً منكسرًا".

 

ثم أخرجهم من بين يديه ولم يؤمن برسول الله -عليه الصلاة والسلام-، لم يستطع أن يضحي بملكه وبأمواله بل ولا في نفسه في سبيل الدين، ومات كافرا عياذا بالله.

 

أبو طالب كان مؤمنًا في داخله مصدقًا في داخله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- على حق وكان يقول:

 

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا

لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً *** لَوَجَدتَني سَمحًا بِذاكَ مُبينا

 

لم يستطع أن يضحي بصداقاته من قومه يخاف أن يلوموه وأن يسبوه، هو أهل شرف في قومه لم يستطع أن يضحي بهذا الشرف ويتلقى بأنواع من الإهانة والسخرية كما يفعل مع بعض المسلمين، ما استطاع أن يضحي حتى مات كافرًا..

 

وسأل العباس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حال أبو طالب في الآخرة فقال: "وُضعت تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه" ما استطاع أن يضحي.

 

بعض الناس -أيها المسلمون- يسمع الأذان لصلاة الفجر ولا يستطيع أن يضحي بنومه ويقدم نومه على الصلاة، بعض الناس اليوم تجد أنه يجلس أمام شاشة من الشاشات سواء حاسب آلي أو تلفاز، ثم يعرض أمامه ما حرم الله ولا يستطيع أن يضحي بهذه النظرة لأجل الله فيقدمه على مراد الله، ويستمتع بها -وإن علم أن الله نهى عن ذلك- فيستهين بمراقبة الله له..

 

بعض الناس عنده مال محرم أو عنده دكان يبيع فيه بعض البضاعة المحرمة ثم يعلم بأمر الله تعالى ويسمع قول الله جل وعلا (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [البقرة:188] وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا"، "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به".

 

يسمع الآيات والأحاديث تقرع سمعه تصل إلى قلبه ولا يستطيع أن يضحي بهذا المال، ربح يدخل عليه بالمقدار الفلاني أو يجلب إليه الزبائن يبيع دخانًا أو يبيع مجلات فاسدة أو ربما في بعض البلدان يبيع الخمور والمسكرات أو بعض الناس يبتلى ببيع المخدرات، فإذا وعظ وذكر لم يستطع أن يذبح هواه في سبيل الله تعالى..

 

عنده أموال لا يستطيع أن يقود نفسه للتضحية بها، يقدم هذا المال وهذه الشهوة التي يجمع عليه عقابها وحسابها وربما مات وتركها لغيره ممن لا يرفع كفه داعٍ له بالمغفرة أو بالرحمة.

 

بعض الناس يكون له منصب في مكان محرم سواء في بنك ربوي أو في غير ذلك من الأعمال التي لا تجوز ويكون له شرف عند قومه ومنصب، ثم يذكر بالله تعالى ويطرق سمعه الأحاديث والآيات ولا يستطيع أن يضحي بهذا المنصب..

 

عنده منصب، عنده مال، عنده جاه، عنده ربما قناة فضائية يملكها يعرض فيها الفحش والفجور ومع ذلك إذا وعظ وقيل له: اتقِ الله، لكنه يعلم أنه إنما يجذب الناس إلى قناته ويشهرها ويظهرها بهذه البرامج الفاسدة فلا يستطيع أن يضحي بهذه البرامج.. ربما يضع الأمر والنهي والشرع آخر اهتماماته، ولا يلتفت إليها، ينظر فقط إلى نجاح مشروعه، إلى نجاح قناته..

 

بعض الناس بينه وبين أخيه هجر أو ضغينة ثم يقال له: يا فلان ادحر الشيطان وخيرهم الذي يبدأ بالسلام.. اذهب إليه واعتذر عما بدر منك، وأعد المياه إلى مجاريها، واستعذ بالله من الشيطان إن الله يحب الإصلاح والشيطان يحثك على الفساد وعلى الضغينة.. فلا يستطيع أن يضحي بعزة نفسه التي ربما ينفخ فيها الشيطان وفي غرور نفسه، فيقول: أنا أذهب أعتذر لفلان، أنا انزل نفسي إلى مستواه، ولا يستطيع أن يضحي، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا"؛ لأن من طبيعة بني آدم الكبر، قال: "فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" الذي يضحّي يبدأ بالسلام.

 

روى النسائي عن سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إن الشيطان يقعد لابن آدم في أطرقه -في عدة طرق- يقعد له في طريق الإسلام، فإذا أراد أن يسلم قال له الشيطان تسلم وتذر دينك ودين آبائك ودين آباء أبيك فعصاه فأسلم -يعني ضحى بما كان عليه آبائه من دين استطاع أن يضحي-.. ثم قعد له في طريق الهجرة فقال: تهاجر وتترك ولدك ومالك وسمائك...".

 

البيت الذي أنت فيه وتنظر أثناء بنائه في حالك إذا سكنت هذه الغرفة، وهذه غرفة أولادي، وهذه وهذا.. وتخطط ليكون بيت العمر ثم فجأة تهاجر في سبيل الله وتترك هذا البيت.. "تهاجر وتترك ولدك ومالك وسماءك فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تقاتل فتقتل فتنكح الزوجة"، زوجتك حليلتك التي تغار عليها من نظرة النظيرين يأتي رجل آخر يبيت معها من بعدك لماذا تتركها؟!، أنت الآن تقدم نفسك للقتل..

 

قال: "ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تقاتل فتقتل فتنكح الزوجة ويقسم المال فعصاه فجاهد..".

 

ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن فعل ذلك كان حقًّا على الله -عز وجل- أن يدخله الجنة وإن قتل كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته ناقته فمات -يعني وهو في الطريق إلى الجهاد ما وصل إلى ساحة المعركة بعد إنما لا يزال على الطريق لم يصل- كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة"؛ لأنه استطاع أن يضحي أن يجعل راية الإسلام ترتفع، أن ينحر هواه في طريق الوصول إلى رب العالمين، لو لم يضحِّ الغني بماله لما كفل الفقير، لو لم يضحِّ العالم بعلمه ويبذل له وقته وجهده وسفره وتعبه لما علم الجاهل، لو لم يضحِّ الطبيب بوقته ويشتغل لنفع المريض الفقير المسكين واليتيم لما شفي أو عولج مريض أو جريح..

 

إن التضحية -أيها المسلمون- والبذل في سبيل أن ترفع راية الإسلام، وأن ينفع الإنسان المسلمين، وأن يكون مباركًا أينما كان هو النهج الذي كان عليه أنبياء الله تعالى ورسله، نسأل الله أن يجمعنا بهم.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه ومن صار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين..

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة الكرام: إن من ينظر في حال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وحال الأنبياء من قبله يجد أن الذي وقَر في قلوبهم من أسباب جعلتهم -فعلا- يستطيعون البذل والتضحية أول ذلك:

 

الثقة بالطريق الذي يسيرون عليه. الإنسان لو لم يثق أنه لو بذل ماله سيؤجر لما بذل ماله؛ فلماذا أوزع مالي الذي تعبت في جمعه، أوزع على الناس من الفقراء وأنا أعلم أنه لا ثواب لي، إذًا أزيد فيه نفسي نعيمًا أنا وولدي..

 

لكن لما يكون عنده ثقة في الطريق الذي يسير عليه، أنا أبذل مالي؛ لأن عندي ثقة تامة أن الله -تعالى- سوف يعوضني خيرا وسوف يأجرني كما قال -تعالى-: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران:159] لماذا (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل:79]، (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].

 

إذا قدم الإنسان لذات نفسه على الطريق الذي يسير عليه دل هذا أنه يشك في صحة هذا الطريق، ما دمت واثقا بأنك إن بذلت نفسك إن بذلت جهدك إن بذلت مالك إن بذلت خبرتك إن بذلت نصيحتك إن بذلت علمك أنك مأجور عند الله -تعالى- فهذا يجعلك تضحي وأنت واثق بصحة الطريق.

 

الأمر الثاني: الثقة بأن الله -تعالى- يعطي الإنسان خيرا مما بذل، كما قال الله جل وعلا: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ثم قال (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].

 

إذا كان الرزق الذي آتاك الله تعالى إياه بذلته وأنفقته فاعلم وثق ثقة تامة أن الله تعالى سيعوضك خيرا، إن لم يعوضك مالا فسوف يعوضك سلامة في بدنك، فبدل ما تبذل المال وينقص مالك في سبيل الطب والعلاج يكفيك الله -تعالى- الأمر فيبارك في مالك يحفظ لك، يسلمك في دابتك، يسلمك في بيتك، في سيارتك، في شأنك ..

 

بحيث إنك لما ما بذلت مائة ريال فقد قدر عليك أنت أن يصيبك شيء في سيارتك فتنفق ربما خمسمائة ريال سيكفيك الله -تعالى- هذه المصيبة في سبيل ذلك المال..

 

أنت تتعامل مع رب رحيم، وإذا بذلت جاهك اعلم أن الله -تعالى- يؤجرك ويرفعك، قال حكيم بن حزام -رضي الله عنه-، وقد أقبل إليه رجل يستشفع به عند أخر، ابن حزام صحابي جليل له شأنه..

 

أقبل هذا الرجل يطلب شفاعته؛ لأن له جاه يطلب شفاعته عند رجل فقال له حكيم: هذه يدي في يدك فلنمضي إليه، فأخذ الرجل في أثناء الطريق يعتذر كأنه يقول له: كلفتك، قطعتك عن مشاغلك، أتعبتك معي..

 

فقال له حكيم: "يا رجل والله إنا نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة، فلابد أن أبذل منه".

 

الأمر الثالث: مما وقر في قلوب الأنبياء: أنهم كانوا يبحثون دائما عن أتباع يعيشون معهم؛ ليتعاونوا على البر والتقوى كما قال الله -جل وعلا-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الكهف:28] يعني كن دائمًا مع الصالحين القانتين المقبلين لتتعاون معهم على البر والتقوى.

 

إذا كان -عليه الصلاة والسلام- في أوائل الإسلام يطوف على القبائل يقول: "من يؤويني لأبلغ رسالة ربي"، أريد دولة تؤويني، أريد مجتمعا أتعاون معه على نشر الدين، من يؤويني لأبلغ رسالة ربي؛ فإن قريش منعتني أن أبلغ رسالة ربي.. حتى بعد ذلك كون -صلى الله عليه وسلم- له دولة إسلامية في المدينة..

 

فأنت إذا أردت فعلاً أن تتعلم البذل والتضحية فليكن الذين تسير معهم وتجالسهم وتصاحبهم من هذا الجنس كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تصاحب إلا مؤمن ولا يأكل طعامك إلا تقي"، يعني لا تصاحب إلا المؤمن الذي عنده من الإيمان ما يجعله ما يكون همه نصرة الدين والتضحية والبذل من خلاله.

 

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يستعملنا جميعًا في طاعاته.. أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يبذلون من أجل هذا الدين ويضحون من أجله..

 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات