عناصر الخطبة
1/ رفعة مكانة البلد الحرام 2/ فضائل الحج والعمرة 3/ التحذير من ترك الحج والتفريط في الفريضة 4/ ما يستحب لمن عزم على السفر للحج.اقتباس
اختار الله من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام؛ اختاره لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجعله مناسك لعباده وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين لله رب العالمين كاشفي رؤوسهم متجردين عن لباس أهل الدنيا، وجعله حرمًا آمنًا فلا يُسفك فيه دم، ولا يُقطع به شجر، ولا يُنفر له صيد، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته إلا للتعريف لا للتمليك، وجعل قصده مكفِّرًا لما سلف من الذنوب ماحيًا للأوزار حاطًّا للخطايا؛..
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمدًا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: إذا تأمل الإنسان أحوال هذا الخلق رأى أن حكمة الرب -جل وعلا- ومشيئته تقتضي تفضيل بعض الخلق على بعض (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68]، (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء:21].
ومن هذا الاختيار اختياره -سبحانه وتعالى- من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام؛ فإنه سبحانه اختاره لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجعله مناسك لعباده وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين لله رب العالمين كاشفي رؤوسهم متجردين عن لباس أهل الدنيا، وجعله حرمًا آمنًا فلا يُسفك فيه دم، ولا يُقطع به شجر، ولا يُنفر له صيد، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته إلا للتعريف لا للتمليك، وجعل قصده مكفِّرًا لما سلف من الذنوب ماحيًا للأوزار حاطًّا للخطايا؛ ففي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
ولم يرضَ لقاصده من الثواب دون الجنة، ففي السنن عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ".
وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده وأحبها إليه ومختاره من البلاد، لما جعل عرصاته مناسك لعباده، وفرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام.
عباد الله: شأن الحج عظيم وهو خاصة هذا الدين حتى قيل في قول الله -عز وجل- (حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي: حجاجًا، فجعل الله بيته الحرام قيامًا للناس، فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فلو ترك الناس كلهم الحج سنة لخرت السماء على الأرض هكذا قال: ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
هذا البيت المعظم قيام العالم فلا يزال قيامًا ما زال هذا البيت محجوجًا، فالحج -عباد الله- هو خاصة الحنيفية ومعونة الصلاة، وسر قول العبد لا إله إلا الله؛ فإنه مؤسَّس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إلى بيته ومحل كرمته، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله -عز وجل-، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى.
أيها المسلمون: أوجب الله على عباده حج بيته الحرام، وجعله أحد أركان الإسلام قال -عز وجل-: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97].
وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام".
ويروى عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدة، ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".
إنه لواجب على من لم يحج وهو يستطيع ببدنه وماله أن يبادر بأداء الفرض لظاهر الآية، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته "أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا" (رواه مسلم).
وروى الإمام أحمد عنه -صلى الله عليه وسلم-: "تعجلوا إلى الحج"، يعني الفريضة "فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، ولا يجب إلا مرة واحدة في العمر؛ لحديث "الحج مرة فمن زاد فهو تطوع" (رواه الإمام أحمد وأبو داود).
وأجمعت الأمة على وجوب الحج في العمر مرة واحدة على المستطيع، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة يكفر جاحده.
والحج -عباد الله- نوع من الجهاد في سبيل الله، ففي مصنف عبدالرزاق عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "إِذَا وَضَعْتُمُ السُّرُوجَ"، يعني من سفر الجهاد " فَشُدُّوا الرَّحِيلَ إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ".
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "وإنما كان الحج والعمرة جهادًا في سبيل الله؛ لأنه يجهد المال والنفس والبدن، كما قال أبو الشعثاء: "نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِذَا الصَّلاةُ تُجْهِدُ الْبَدَنَ، وَلا تُجْهِدُ الْمَالَ، وَالصِّيَامَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْحَجُّ يُجْهِدُ الْمَالَ وَالْبَدَنَ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ".
ومن أعظم ما يجب على الحاج اتقائه من المال الحرام، فعليه أن يطيب النفقة في الحج، وألا يجعلها من كسب حرام.
إذا حججت بمال أصله سحت *** فما حججت، ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة *** ما كل من حج بيت الله مبرور
ومن تخلف عن الحج لعذر كان شريكًا للمسافر إلى الحج، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لما رجع من غزوة تبوك: "إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر" (رواه مسلم وبنحوه البخاري).
يا راحلين إلي البيت العتيق لقد *** سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعـن قدر *** ومن أقـام على عذر فقـد راحـا
أيها المسلمون: تأملوا -رحمني الله وإياكم- كيف افتتح الله -جل جلاله- إيجاب الحج على المستطيع بذكر محاسن البيت وعظَّم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه، وإن لم يطلب ذلك منه مباشرة، فقال -عز وجل-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 69- 97].
فوصفه بخمس صفات الأولى: أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض، الثاني أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم وانفع للخلائق، الثالث: أنه هدى ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى، الرابع: ما تضمنه البيت من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية كما قال ابن القيم -رحمه الله-.
الخامس: الأمن لداخله ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله -عز وجل- (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسُلبت نفوسهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرًا أبداً كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم.
ومن هنا يتضح أن من يفرط في هذه الفريضة العظيمة ولا يلقي لها بالاً، وقد وسَّع الله عليه وأعطاه صحة ومالاً أنه محروم من خير عظيم، ولربما سافر إلى أماكن بعيدة للسياحة والنزهة، وأنفق في هذا أموالاً طائلة، واستغرق أيامًا وشهورًا، فإذا ما ذكر بحج الفريضة تكاسل وتثاقل وسوَّف وأجَّل ولربما آتاه الأجل ولم يؤدِّ هذا الفرض مع قدرته على ذلك.
أيها المسلمون: إذا عزم الإنسان السفر إلى الحج استحب له أن يوصي أهله وأصحابه بتقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وأن يكتب ما له وما عليه من الحقوق، مع الإشهاد على ذلك، وأن يبادر إلى التوبة الصادقة من جميع الذنوب، وأن يكون مخلصًا لله في هذا الحج قصده أن يرضي ربه -عز وجل-، وأن يبتعد عن الرياء والسمعة حذرًا من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها، قال تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) [الإسراء: 18- 19].
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم