التركة

محمد بن إبراهيم الشعلان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ عدم انتفاع الميت بغير عمله 2/ تبايُن أحوال الوُرّاث العظيم بعد موت المورِث 3/ مراعاة الحقوق الأخرى في المال قبل توريثه 4/ تحذير المتلاعبين بالأموال وتذكيرهم بيوم الجزاء

اقتباس

فالميت يلاقي عمله صالحاً كان أو فاسداً، والأهل يرثون ماله ويقتسمونه فيما بينهم بما شرع الله، فإن كان الميت قد كسب المال مِنْ حِلِّهِ وأنفقه في محلِّهِ صار له غُنْمُهُ، وإن منع حقَّ الله فيه وبخل به، أو كسبه كسباً محرماً وأنفقه فيما حرم الله، صار لأهله غُنْمُهُ وعليه غُرْمُهُ.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدي الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- فقد أمركم بتقواه في قوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

 

عباد الله: يعيش الإنسان في هذه الحياة العمر الذي قدر له، لا يتأخر عنه ساعة ولا يتقدم عليه ساعة، كما قال -جل وعلا-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر:67].

 

فإذا ما مات انتقل معه واحد من ثلاثة، انتقل معه عمله صالحاً كان أو فاسداً، وتخلف عنه اثنان: أهله، وماله؛ كما ثبت ذلك في الحديث عنه-صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله".

 

فالميت يلاقي عمله صالحاً كان أو فاسداً، والأهل يرثون ماله ويقتسمونه فيما بينهم بما شرع الله، فإن كان الميت قد كسب المال مِنْ حِلِّهِ وأنفقه في محلِّهِ صار له غُنْمُهُ، وإن منع حقَّ الله فيه وبخل به، أو كسبه كسباً محرماً وأنفقه فيما حرم الله، صار لأهله غُنْمُهُ وعليه غُرْمُهُ.

 

ولو نظرنا إلى حال الأسر التي ترث المال بعد موت مورثها، لرأينا تبايناً عظيماً وحالاً متنوعة، فبعض الأسر تجعل مخافة الله -عز وجل- ومراقبته أمام أعينها، فلا يحصل بين أفرادها تنازع وخصام على المال، ولا تتكتم على شيء منه ولا تخفيه، ولا تماطل في قسمته على ما شرع الله وإعطاء كل ذي حق حقه، بل وتعتني بحق الأيتام عناية تامة، فلا تنقص من حقوقهم شيئاً ولو كان يسيراً.

 

وإذا ما تطلب الأمر مراجعة المحاكم أو كتابات العدل أو أي دائرة لها علاقة بالأمر، سارعت في ذلك وأنهت الإجراءات المطلوبة بشكل سريع، وعناية تامة، وصدق ونصح؛ وتعاون أفرادها في إنهاء القسمة الشرعية للمال ليأخذ كل وراث حقه من مال مورثه كاملاً غير منقوص.

 

فهذه الأسرة بهذا العمل تعيش سعيدة راضية مرتاحة البال، لم يفرق المال بينها، ولم يكن المال سبباً في تنافرها وتباغضها، بل جعلت المال وسيلة تآلف واجتماع ومحبة.

 

ولهذا نرى أن مثل هذه الأسر لا تنسى مورثها الذي خلف لها المال، ولا تجعله في طي الكتمان؛ بل تحسن إليه وتبره بعد موته، فتبادر -في الغالب- إلى فعل شيء يعود خيره وبره وثوابه إلى ميتهم وفقيدهم، كبناء مسجد مثلاً، أو المساهمة في دعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم، أو بناء مقر لجماعة تحفيظ القرآن الكريم في مدينة أو قرية، وجعل ثواب هذه الأعمال لميتهم.

 

والبعض الآخر من الأسر بالعكس تماماً، ما إن يموت الميت ويدفن، إلا ويحصل التنازع والخصام بين أفرادها، وإلقاء التهم، كلٌّ يتهم الآخَر بإخفاء المال أو كثير منه، لا يثق أحد منهم في الآخَر، الواحد منهم يحرص على أن يحظى بالنصيب الأوفر من المال ولو كان من حق شريكه في الإرث؛ ولذا ترى منهم المماطلة في قسمة المال، وعدم الحرص على إعطاء كل ذي حق حقه من الميراث، حتى يصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى المعاندة والمماطلة، وأحياناً إلى المخاصمات في المحاكم وبعض الدوائر ذات العلاقة، وتجلس هذه الخصومات سنين عدداً.

 

وإذا كان المال الموروث عقاراً ربما كسدت قيمته وذهب سوقه فقل الطلب عليه، وإذا كان في الورثة قُصَّر أو من لا يستطيع أخذ حقه بنفسه لقصوره، فإن الضرر سيلحق بهم، فقد يضيع حقهم وقد لا يصل إليهم منه إلا اليسير.

 

فهذه الأسر لم تجعل مخافة الله ومراقبته على بالها، جعلت المال أكبر همها ومبلغ علمها، لم تراع حرمة المال، ولم تقدر حاجة المحتاج، ولم تنصف صاحب حق، ولم تشعر بضعف القاصر وحاجته إلى المال، ولم يكن لمورثها نصيب في البر والإحسان، بل لو كان له وصايا وأوقاف حرصوا على إخفائها وجحدانها.

 

فهذه الأسر مآلها إلى الشقاء والتعاسة، والشقاق والخلاف، والبغض والكراهة، فهي بهذا تجر إلى ساحتها خيوط التفرق والشحناء، والمخاصمة واللّأواء، والتقاطع والتدابر، فيكون لها نصيب من وصف الجاهلية الأولى التي تعبث بها كلمة أو فعل، وهذا مما لا يليق بالأسرة المسلمة، لا ينبغي أن يكون المال هو المسيطر على القلوب والأفكار، فمن أجله تكون الصلة والمحبة، ومن أجله يكون التقاطع والهجر.

 

لا يا عباد الله! كما ذهب الأولون فنحن بهم لاحقون، فالدوام في هذه الدنيا لن يكون، والمال في الأيدي لا يدوم، فأنتم اليوم وارثون وغداً تورثون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون!.

 

وهنا أمر يجب التنبيه عليه، إما لخفائه، أو للتساهل فيه وعدم المبالاة به، ألا وهو أن بعض الأسر تقوم بتوزيع الميراث، دون مراعاة الحقوق الأخرى التي في المال، وهي مقدمة على حق الورثة فيه.

 

لتعلموا -عباد الله- أن الميت إذا مات قبل أن يخرج زكاة ماله، فإن هذه الزكاة حقٌّ في التركة يجب تقديمها على حق الورثة. وإذا كان على الميت دَيْن، فإن هذا الدين مقدم على حق الورثة. وإذا كان الميت قد أوصى في ماله بشيء فإن هذه الوصية مقدمة على حق الورثة.

 

لا يجوز للورثة أن يقتسموا المال الموروث إذا كان فيه هذه الحقوق أو بعضها إلا بعد استيفائها وقضائها من رأس المال؛ لقوله -تعالى- بعد أن ذكر ميراث الأولاد والأبوين: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:12]، وقال بعد ما ذكر ميراث الزوج: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:12]، وقال بعدما ذكر ميراث الزوجات: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:12].

 

لكن حب المال يعمي الورثة فيقودهم هذا الحب المذموم إلى تجاهل هذه الحقوق وإخفائها أو إنكارها، فتضيع على أهل الديون ديونهم إذا لم تكن موثقة، ويضيع حق الله في المال، ويضيع حق الموصي بما أوصى به.

 

إني أذكر من يفعل ذلك بيوم الوقوف بين يدي الله -عز وجل- عندما ينزل لفصل القضاء بين عباده، حينئذ لا ينفع مال ولا بنون ولا عشيرة ولا قبيلة، (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) [المعارج:11-14].

 

انظروا كيف رخصت هذه الأشياء عند المجرم وهي التي كانت ثمينة وغالية عنده في الدنيا، فجعلها في الآخرة فداء من عذاب الله، ومع هذا لا يقبل منه ذلك! قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "مَن كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلّلْهُ منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسان أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" رواه البخاري. فليجعل المسلم هذا اليوم أمامه كأنه رأي عين، وليحذر من الظلم والبغي والعدوان.

 

عباد الله: في الدنيا تنفع الشفاعة، وينفع الحميم الحميم، ويُقبل الفداء، ويجدي الاعتذار في التخلص من الأذى والعذاب، وأما في الآخرة فلا ينفع شيء من ذلك، لا ينفع إلا ما ذكره الله -عز وجل- في كتابه على لسان نبيه وخليله إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].

 

تخاصمت امرأة مع رجل عند أحد القضاة، في مال لها عليه، فقال لها القاضي: ألديك بينة على دعواك؟ قالت: لا، فقال: ليس لك إلا يمينه، فلما تهيأ لأداء اليمين، قالت له: إياك والحلف! واذكر يوماً سأقف أنا وأنت فيه أمام قاض وحاكم لا يحتاج المدعي عنده إلى بينة، فأحجم الرجل عن اليمين وأقر للمرأة بحقها.

 

وظلم رجلٌ آخر وطال ظلمه عليه، فقال له: يا هذا، لقد طاب ظلمك عليّ بأربعة أشياء: أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والديان يفصل بيننا؛ فانتهى الرجل عن ظلمه لما سمع هذه الكلمات.

 

فلنتق الله عباد الله، ولنتذكر ذلكم اليوم الذي نقوم فيه جميعاً لرب العالمين حفاة عراة غُرلا...

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات