الترادف وأثره في بناء الخطبة وإلقاء الخطيب

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: بلاغة الخطيب

اقتباس

تعتبر ظاهرة الترادف اللغوي أحد أهم أدوات الخطيب في إثراء خطبته وتنويع ألفاظها، وترصيع مبانيها، وإخراجها في ثوب قشيب، ومنظر رشيق، حيث تتعدد أشكال العَلاقة بين اللفظ والمعنى، ومن هذه الأشكال: علاقة الترادف. وتتمثل علاقة الترادف في وجود كلمات يمكن أن..

 

 

 

تعتبر بلاغة الخطيب أحد أهم أدواته في بناء الخطبة وحسن صياغتها، وكلما كان الخطيب بليغاً متمكناً من نواصي الكلم كلما كانت خطبته أكثر تأثيراً وأقوى وقعاً.

 

وثراء الخطبة عادة ما يرتبط بمقدرة الخطيب البلاغية وقدرته على انتقاء الألفاظ المعبرة عن أفكاره في أفضل صياغة وأجمل تركيب، وكم من خطيب له أفكار رائعة، وهمة عالية، ونفس مخلصة، ولكنه يفتقر إلى العبارات الجميلة، والألفاظ الرشيقة التي تعبر عن أفكاره ومنهجه.

 

وتعتبر ظاهرة الترادف اللغوي أحد أهم أدوات الخطيب في إثراء خطبته وتنويع ألفاظها، وترصيع مبانيها، وإخراجها في ثوب قشيب، ومنظر رشيق، حيث تتعدد أشكال العَلاقة بين اللفظ والمعنى، ومن هذه الأشكال: علاقة الترادف.

 

وتتمثل علاقة الترادف في وجود كلمات يمكن أن تتبادل المواقع مع بعضها دون أن يتغير المعنى، على الرغم من اختلاف المكونات الصوتية لهذه الكلمات، والعلاقة في هذه الحالة علاقة إيجاب، تدل على وجود قرابة بين الكلمتين أو الكلمات التي تقبل التبادل مع بعضها، لذلك وجب التعرف على هذه الظاهرة اللغوية الجميلة ومعرفة كيفية استفادة الخطباء منها.

 

أولاً: الترادف لغة واصطلاحاً:

فالمعنى اللغوي لمادة "ر د ف" تدل على اتِّباع الشيء، فالترادف: التتابع، والردف: التابع، والرديف: كل ما تبع شيئاً، يقال: جاء القوم ردافى، أي بعضهم يتبع بعضاً، وهذا أمر ليس له ردف، أي ليس له تبعة، وأردفت النجوم، أي توالت وتتابعت، والمردفان: الليل والنهار.

 

ومن هذه المعاني اللغوية التي تشير في مجموعها إلى التتابع والتعدد يظهر معنى الترادف الاصطلاحي، فهو كما عرفه ابن فارس في مقاييس اللغة: "اختلاف الألفاظ، واتفاق المعاني، أي يُسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة، نحو: السيف والمهند والحسام".

 

أما السيوطي فقد أفرد للترادف فصلا خاصا من كتابه: "المزهر في علوم اللغة" سماه: "معرفة المترادف"، وعرفه بقوله: "هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد"، ثم قال: "واحترزنا بالإفراد عن الاسم والحد فليسا مترادفين وبوحدة الاعتبار عن المتباينين كالسيف والصارم فإنهما دلا على شيء واحد لكن باعتبارين: أحدهما، على الذات، والآخر: على الصفة، والفرق بينه وبين التوكيد أن أحد المترادفين يفيد ما أفاده الآخر كالإنسان والبشر، وفي التوكيد يفيد الثاني تقوية الأول والفرق بينه وبين التابع أن التابع وحده لا يفيد شيئا، كقولنا: عطشان، نطشان".

 

وعرفه الجرجاني في كتابه: "التعريفات" بقوله: "المترادف ما كان معناه واحدا وأسماؤه كثيرة وهو ضد المشترك، أخذ من الترادف الذي هو ركوب أحد خلف آخر، كأن المعنى مركوب واللفظان راكبان عليه كالليث والأسد"، وعرفه بتعريف آخر في موضع آخر، فقال الترادف: "هو عبارة عن الاتحاد في المفهوم، وقيل: توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء باعتبار واحد".

 

أما محمد بن القاسم الأنباري فقد جعله أحد ضربي كلام العرب، وذلك بعد كلامه عن الأضداد والمشترك اللفظي قائلاً: "وأكثر كلامهم يأتي على ضربين آخرين: أحدهما: أن يقع اللفظان المختلفان على المعنيين المختلفين، كقولك: الرجل والمرأة، والجمل والناقة، واليوم والليلة، وقام وقعد، وتكلم وسكت، وهذا هو الكثير الذي لا يحاط به. والضرب الآخر: أن يقع اللفظان المختلفان على المعنى الواحد، كقولك: البر والحنطة، والعير والحمار، والذئب والسيد، وجلس وقعد، وذهبَ ومضى".

 

فمن خلال هذه التعريفات: يمكننا القول بأن الترادف في مفهومه الاصطلاحي يراد به دلالة كلمتين أو أكثر على معنى واحد، وبعبارة أخرى: اشتراك كلمتين مختلفتين أو أكثر في الدلالة على معنى واحد.

 

فالترادف إذن أن تتعدد الألفاظ وتكثر والمعنى واحد، فالألفاظ وإن تتعددت واختلفت إلاّ أنها تدل على معنى واحد  مثل:

- الحزن، الغم، الغمة، الأسى، والشجن، الترح، الوجد، الكآبة، الجزع، الأسف، اللهفة، الحسرة، الجوى، الحرقة، واللوعة. 

- فلان يشبه فلانًا، ويشابهه، ويشاكله، ويشاكهه، ويضاهيه، ويماثله، ويضارعه، ويحاكيه، ويناظره.

- هفوة، وزلة، وسقطة، وعثرة، وكبوة.

 

ثانياً: الترادف عند أهل العلم:

وقع خلاف كبير بين علماء العربية حول ثبوت الترادف من عدمه. والمثبتون للترادف منهم: سيبويه، والأصمعي، وأبو الحسن الرماني، وابن خالويه، وحمزة بن حمزة الأصفهاني، والفيروزآبادي، والتهانوي، ومعظم المُحْدثين من اللغويين العرب يقر بوقوع الترادف في اللغة، ولهم على ذلك أدلة منها:

1- لو كان لكل لفظة معنى غير معنى الأخرى، لما أمكن أن نعبر عن شيء بغير عبارته، وذلك أنا نقول في ‏"‏لا ريب فيه"، "لا شك فيه"، وأهل اللغة إذا أرادوا أن يفسروا "اللب" قالوا هو: "العقل"، فلو كان الريب غير الشك والعقل غير اللب لكانت العبارة عن معنى الريب بالشك خطأ، فلما عبر بهذا عن هذا عُلم أن المعنى واحد.

 

2- إنّ المتكلم يأتي بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد في مكان واحد تأكيدًا ومبالغة كقوله‏:‏ "وهند أتى من دونها النأي والبعد"، قالوا‏:‏ فالنأي هو البعد.

 

3- الترادف لا يعني التشابه التام إنما أن يُقام لفظ مقام لفظٍ لمعانٍ متقاربة يجمعُها معنًى واحد كما يقال‏:‏ أصلحَ الفاسد ولمّ الشّعث ورتَقَ الفَتْق وشَعَبَ الصَّدع.

 

4- إذا أصبحت عدد من المفردات تدل على شيء واحد، فهي من الترادف، ولا يهم ما إذا كانت في الماضي تدل عليه أو على صفة فيه، مثل الحسام والهندي التي أصبحت الآن تدل على السيف، ولا يلحظ معنى القطع أو الأصل الهندي فيها.

 

أما المانعون للترادف وهم: ثعلب وابن درستويه وابن فارس وأبو علي الفارسي وأبو هلال العسكري والبيضاوي، ولهم على ذلك أدلة:

 

1- لا يجوز أن يختلفَ اللفظ والمعنى واحد؛ لأنّ في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى، ففي ذهب معنى ليس في مضى.

 

2- الشاهد على أن اختلاف الأسماء يوجب اختلاف المعاني: أن الاسم يدل كالإشارة، فإذا أُشير إلى الشيء مرة واحدة فعُرف فالإشارة إليه ثانية وثالثة غير مفيدة، وواضع اللغة حكيم لا يأتي فيها بما لا يفيد.

 

ثالثاً: أسباب الترادف:

1- غياب الأوصاف وغلبة الأسماء: بعض الألفاظ كانت تدل في الماضي على أوصاف محددة لاعتبارات معينة غير أنه مع مرور الزمن تُوسع في استعمالها ففقدت الوصفية واقتربت من الاسمية واكتفي بالصفة عن الموصوف، وأصبح هذا الوصف اسما، فمثل: السيف: له اسم واحد هو السيف، وله أكثر من خمسين صفة لكل صفة دلالتها المميزة كالمهند "مصنوع في الهند"، ومثله اليماني "مصنوع في اليمن"، والحسام لحدته وسرعة قطعه. ومع الوقت صارت الأوصاف أسماء غلبت على الاسم الأصلي.

 

2- اختلاط اللهجات: فاللغة العربية لغة ذات لهجات متعددة تختلف في أسماء بعض الأشياء، فالشيء الواحد قد يسمى عند قبيلة بلفظ، وعند أخرى بلفظ آخر، وبسبب اختلاط العرب في حروبهم ومعاشهم وأسواقهم فقد تطغى بعض الألفاظ على بعض، واشتهرت الكلمات التي تعتبر أسهل أو أفضل من غيرها فاجتمع للإنسان الواحد أكثر من لفظة للشيء الواحد، من ذلك مثلا: السكين يدعوها بذلك أهلُ مكة، وغيرُهم، وعند بعض الأزد يسميها: المدية. القمح: لغة شامية، والحنظة: لغة كوفية، وقيل: البر لغة حجازية. الإناء من فخار، عند أهل مكة يدعى بُرمة، وعند أهل البصرة يسمى: قدرًا. البيت فوق البيت يسمى: عِلّية عند أهل مكة، وأهل البصرة يسمونه: غرفة. الحقل "المكان الطيب يُزرع فيه" وهو الذي يسميه أهل العراق: القَراح. الجرين عند أهل نجد "المكان الذي يجفف فيه التمر والثمر" يسميه أهل المدينة: المِربَد.

 

3- المجاز المنسي: فالمجازات المنسية تعتبر سببًا مهمًّا من أسباب حدوث الترادف؛ لأنها تصبح مفردات أخرى بجانب المفردات الأصلية في حقبة من تاريخ اللغة، من ذلك: تسمية اللغة لسانًا؛ لأنَّ اللسان آلة اللغة، تسمية الجاسوس عينًا لعلاقة الجزئية، تسمية الرقيق رقبةً لعلاقة الجزئية.

 

4- التساهل: فالتساهل في استعمال الكلمة وعدم مراعاة دلالتها الصحيحة يؤدي إلى تداخلها مع بعض الألفاظ في حقلها الدلالي مثال: المائدة: في الأصل لا يقال لها مائدة حتى يكون عليها طعام وإلا فهي خوان، الكأس: إذا كان فيها شراب وإلا فهي قدح، الكوز: إذا كان له عروة وإلا فهو كوب، الثرى إذا كان نديا وإلا فهو تراب.

 

5- اشتمال لغتنا على هذا الثراء العظيم والمتنوع من الألفاظ، فإن المهجور في الاستعمال من ألفاظها كتب له البقاء. فإلى جانب الكلمات المستعملة كان مدوّنو المعجمات يسجّلون الكلمات المهجورة، وما هجر في زمان معيّن كان قبل مستعملا في عصر من العصور، أو كان لهجة لقبيلة انقرضت أو غلبتها لهجة أقوى منها. وهجران اللفظ ليس كافيا لإماتته؛ لأن من الممكن إحياءه بتجديد استعماله.

 

فالاستعمال في العربية على نوعين: مهجور قد يستعمل، ومستعمل قد يهجر. واحتفاظ علمائنا بالنوع الأول كأنه إرهاص لإحيائه، وفي هذا كانت الميزة للعربية، إذ لا تحتفظ سائر اللغات إلا بالنوع الثاني وهو مهدّد بالهجران معرّض لقوانين التغيير الصوتي، فإذا أميت بالهجر لم يكن في طبائعها ما تعوّض به المهجور الجديد بمهجور قديم، فتضطر إلى الاستجداء من لغات أخرى.

 

6- طول احتكاك قريش باللهجات العربية الأخرى قد نقل إليها طائفة كبيرة من مفردات هذه اللهجات. ولم تقف لغة قريش في اقتباسها هذا عند الأمور التي كانت تعوزها، بل انتقل كذلك من هذه اللهجات كثير من المفردات والصيغ التي لم تكن في حاجة إليها لوجود نظائرها في متنها الأصلي، فعزّزت من جرّاء ذلك مفرداتها وكثرت المترادفات في الأسماء والأوصاف والصيغ.

 

وأصبحت الحالة التي انتهت إليها أشبه شيء ببحيرة امتزج بمياهها الأصلية مياه أخرى انحدرت إليها من جداول كثيرة، ويشير إلى ذلك ابن فارس في كتابه الصاحبي إذ يقول: "فكانت وفود العرب من حجّاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش مع فصاحتها وحسن لغتها ورقّة ألسنتها، فإذا أتتهم الوفود من العرب يتخيّرون من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها.

 

رابعاً: الترادف في القرآن:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقَلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن.

 

وقال الزركشي -رحمه الله-: فعلى المفسر مراعاة الاستعمالات والقطع بعدم الترادف ما أمكن فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد ولهذا منع كثير من الأُصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد.

 

أمثلة من القرآن:

1- الخوف والخشية: من الألفاظ التي يظن كثير من الناس أنها من المترادف ولَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ.

 

الخشية هي الخوف الشديد، فهي أشد من الخوف ، ولا تكون الخشية إلا من عظمة المخشي وإن كان الخاشي في نفسه قوياً. والخوف يكون من ضعف الخائف، وإن كان المخوف أمراً يسيراً؛ لذلك وردت الخشية غالباً في حق الله -تعالى-؛ كما في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء )، وقوله: (من خشية الله)، لذلك فرق الله -تعالى- بين اللفظين في قوله: )وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)، قال الزركشي: "فإن الخوف من الله لعظمته يخشاه كل أحد كيف كانت حاله وسوء الحساب ربما لا يخافه من كان عالما بالحساب وحاسب نفسه قبل أن يحاسب، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، وقال لموسى: (لَا تَخَفْ) [طـه: 68] أَي لا يكون عندك من ضعف نفسك ما تخاف منه من فرعون.

 

2- البخل والشح: الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ الشَّدِيدُ، لذلك قال الله -تعالى-: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) [النساء: 128] قَالَ الرَّاغِبُ: الشُّحُّ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ، وذلك فيما كان عادة، قال تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ)، وقال سبحانه: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [الحشر: 9]، يقال: رجل شَحِيحٌ، وقوم أَشِحَّةٌ، قال تعالى: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) [الأحزاب: 19].

 

وما ببينهما من الفروق: أن الشح الحرص على منع الخير، ولو كان من الغير، والبخل منع الحق فلا يؤدي البخيل حق غيره عليه، قال أبو هلال العسكري: الشُّح الْحِرْص على منع الْخَيْر، وَالْبخل منع الْحق. وكذلك الْبُخْلُ وَالضَّنُّ، فإنَّ الضَّنَّ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَوَارِي وَالْبُخْلَ بِالْهِبَاتِ وَلِهَذَا يُقَالُ هُوَ: ضَنِينٌ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقَالُ: بَخِيلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَارِيَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا وَهَبَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَارِيَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [التكوير: 24] وَلَمْ يَقُلْ: بِبَخِيل.

 

3- العام والسنة: فالْعَامُ يطلق على الدعة والرخاء، وَالسَّنَةُ تطلق على الشدة والكرب والضيق، ومن ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت: 14] فمدة دعوة نوح -عليه السلام- اشتملت على مشقة في الدعوة وشدة بسبب عناد قوم نوح وسخريتهم واستهزائهم بنوح -عليه السلام-، وما استراح نوح -عليه السلام- إلا بعد أن طهر الله -تعالى- الأرض من رجزهم؛ لذلك لما دعا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قُرَيْشٍ لما ضيقوا على المسلمين وآذوا المستضعفين، قَالَ: "اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ"، وقال تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف: 47 - 49] فوصف السنن بأنهن (شِدَادٌ)، ووصف العام بالرخاء، وأنه: (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) أي يأتيهم الغوث (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) من الرخاء والخير والبركة.

 

4- العمل والفعل: فالأول: يدل على التريث والتمهل في الشيء، والثاني: يدلُ على السُّرْعَةِ، وأيضا العمل يشتمل على القول والفعل معًا، قال الزركشي: فالأول لما كان من امتداد زمان نحو (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء) [سبأ: 13]، (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) [يــس: 71]؛ لأن خلق الأَنعام والثمار والزروع بامتداد، والثاني بخلافه نحو: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [الفيل: 1]، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) [الفجر: 6]، (كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) [إبراهيم: 45]؛ لأَنها إهلاكات وقعت من غير بطء: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل: 50] أَي في طرفة عين، ولهذا عبر بالأول في قولِه: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) حيث كان المقصود المثابرة عليها، لا الإتيان بها مرة أَو بسرعة، وبالثاني في قوله: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [الحـج: 77] حيث كان بمعنى: سارعوا؛ كما قال: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148]، وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) [المؤمنون: 4] حيث كان القصد يأتون بها على سرعة من غير توان.

 

خامساً: استفادة الخطباء من الترادف:

الترادف ظاهرة لغوية واقعة ومؤثرة رغم الاختلاف في ثبوتها، ويمكن للخطباء الاستفادة منها بصورة تخدم في بناء الخطبة وإلقائها بصورة تحقق أعلى استفادة، وذلك لعدة أسباب:

 

1- المفاضلة الدلالية: فبعض الألفاظ أدل من غيرها في بيان المعنى والمراد، كما سبق وبينا الفارق بين كلمتي: الشح والبخل، وكلمتي: الخوف والخشية، فلو كان الخطيب يعلم المفاضلة الدلالية بين هذه الألفاظ لاستطاع أن يصوغ العبارات الملائمة لموضوع خطبته بصورة بارعة.

 

2- المفاضلة الصوتية: فكما يوجد مفاضلة دلالية بين الألفاظ فيوجد مفاضلة صوتية بين الألفاظ، بعضها أنسب شعراً وأوقع نثراً وأقوى أثراً على السامعين من البعض الآخر.

 

3- التوسيع على السامعين: فجمهور السامعين فيهم العامي وفيهم المثقف، وفيهم المتعلم وفيهم الأمي، وفيهم البدوي وفيهم الحضري، وفيهم من يفهم بالإشارة، وفيهم من لا يحسن الفهم إلا بواضح العبارة، واستخدام المترادفات فيه توسيع واستيعاب لكل أطياف الحاضرين.

 

4- دفع السأمة والملل: فمن أهم بواعث اعتماد الترادف في الخطبة: دفع السأمة والملل عن السامعين، فإن اعتماد الخطيب على عبارات وتراكيب بعينها تكرر في كل خطبة ومناسبة تلقي السأمة والملل في قلوب السامعين، والملل هو قاتل الإقناع ومانع الفهم وعائق الاستفادة الأول، ومتى حل بعقول الحاضرين فقل على الخطبة السلام، حيث لا فهم ولا علم ولا عمل، فقط رغبة جارفة في الخروج من المسجد وإنهاء الخطيب لخطبته.

 

5- التيسير على الخطباء: بالتوسع في سلوك طرق الفصاحة، وأساليب البلاغة في النظم والنثر؛ وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأتى -باستعماله مع لفظ آخر- السجعُ، والقافيةُ، والتجنيس، والترصيع، وغير ذلك من أصناف البديع، ولا يتأتى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ.

 

كما تكثر بالترادف الوسائل إلى الإخبار عما في النفس؛ فإنه ربما نسي أحد اللفظين، أو عسر عليه النطق به. وكان واصل بن عطاء ألثغ، فلم يُحفظ عنه أنه نطق بالراء، ولولا المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات