التخويف من النار

عبد الله الهذيل

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- للنار في الدنيا 2/وحشة النار وأهوالها 3/خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- من النار 4/تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من النار 5/نماذج رائعة في الخوف من النار 6/ غفلتنا عن النار وأهوالها 7/صور من عذاب أهل النار 8/خروج عصاة التوحيد من النار 9/محاسبة المؤمن لنفسه

اقتباس

أيها الأحبة في الله: دار موحشة مظلمة، شديد حرّها، بعيد قعرها، لهيب سمومها، عظيم شررها، أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة، حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة، كظلمة الليل البهيم الأليل، لا يضيء جمرها ولا لهيبها. ظللٌ من النار بعضها فوق بعض، ضوعفت عن نار الدنيا بتسعة وستين جزءا الغمسة فيها تنسي كل نعيم عاشت به النفس، فكيف...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها الأحبة في الله: أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس-رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً" قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: "رأيت الجنة والنار".

 

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما كسفت الشمس رأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع منها".

 

وفي مسند أبي يعلى من حديث ابن عمر: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار" ثم بكى حتى جرى وبلّت دموعه جانبي لحيته، ثم قال: "والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة لمشيتم إلى الصعدات ولحثيتم على رؤوسكم التراب".

 

وله شاهد عند الحاكم وغيره من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- وفيه: "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله –تعالى-".

 

أيها الأحبة في الله: دار موحشة مظلمة، شديد حرّها، بعيد قعرها، لهيب سمومها، عظيم شررها، أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة، حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة، كظلمة الليل البهيم الأليل، لا يضيء جمرها ولا لهيبها.

 

ظللٌ من النار بعضها فوق بعض، ضوعفت عن نار الدنيا بتسعة وستين جزءا الغمسة فيها تنسي كل نعيم عاشت به النفس، فكيف بالمكوث فيها، وملازمة عذابها.

 

قال: "يوتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب" [أخرجه مسلم].

 

تلك الدار التي يخوّف الله بها عباده ليتقوه، ويطيعوه: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 13- 16].

 

أيها الأحبة في الله: ولقد مضى السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان، وكانوا دائمي الذكر لتلك الدار، والخوف منها، والحذر من أسبابها، فلم تغب عن أذهانهم، ولم تلههم مطالب الدنيا عن زفراتها وشهقاتها؛ حتى كانت القلوب مشفقة منها، وعلى وجل من أهوالها.

 

ولقد كان نبينا –صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يحذر من تلك الدار شفقةً منه بأمته أن يلقى أحدٌ فيها، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيناً عن أمته، فما ترك خيراً إلا ودل عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه أشد الحذر، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

 

ففي المسند أن النعمان بن بشير خطب، وقال: سمعت رسول الله –صلى الله لعيه وسلم- يقول: "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار" حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.

 

وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار"، قال: وأشاح، ثم قال: "اتقوا النار" ثم أعرض وأشاح حتى ظننا أنه ينظرٌ إليها، ثم قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".

 

وفي لفظ: "ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى، ثم يقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة".

 

وفي الصحيحين: أنه لما نزلت: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] نادى عليه الصلاة والسلام في قريش، فقال: "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسكِ من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلّها بِبلالها".

 

هكذا كان عليه الصلاة والسلام دائم التذكير بتلك الدار، والتحذير من شديد آلامها.

 

فكانت القلوب العارفة لا يغيب عنها ذلك الوعيد، فكابدت تذكّره، وخالطت حرارته ببرد الرجاء، فذلت منهم الأسماع والأبصار والأبدان في طاعة ربهم -عز وجل- وأمضوا على ذلك حياتهم حتى أتاهم اليقين فرأوا البشرى، وغداً حين ينزلون منازل النعيم، يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر: 34].

 

قال الحسن -رحمه الله تعالى-: "إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان، حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم والله أصحاب القلوب ألا تراه يقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر: 34].

 

والله لقد كابدوا في الدنيا حزناً شديداً، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم، والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار" أ. هـ.

 

ولهذا كان منهم من يمنعه ذكر بجهنم من نومه.

 

قال أسد بن وداعة: "كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، فيقول: اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه".

 

وكان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلى كما تقلّى الحبة على المقلى، ثم يثبت ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: "طيّر ذكر جهنم نوم العابدين".

 

وقالت ابنة الربيع بن خيثتم لأبيها: "يا أبت مالك لا تنام والناس ينامون؟ فقال: إن النار لا تدع أباك ينام".

 

وقال ابن مهدي: "ما كان سفيان الثوري ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: النار، النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات".

 

إذا ما الليل أظلم كابدوه *** فيسفر عنهم وهو ركوع

أطار الخوف نومهم فقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوع

 

وكان هرم بن حيان يخرج في بعض الليالي، وينادي بأعلى صوته: "عجبت من الجنة كيف نام طالبها؟! وعجبت من النار كيف نام هاربها؟! ثم يقول: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ)[الأعراف: 97].

 

وقال أبو الجوزاء: "لو وليت من أمر الناس شيئاً اتخذت مناراً على الطريق، وأقمت عليها رجالاً ينادون في النار: النار النار!" [أخرجه الإمام أحمد في الزهد].

 

وقال يزيد بن حوشب: "ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما!".

 

أيها الأحبة في الله: وإذا نظرنا إلى أنفسنا، نرى واقعنا يحكي معانٍ كبيرة في الغفلة والنسيان، فكم ألهتنا أموالنا وأهلونا عن التفكر في تلك الدار وأهوالها، حتى إنا لنسمع أحوالها تتلى بأحسن كلام، فإذا القلوب قاسية، والأعين مجدبة، ونحن نعلم يقيناً أنا واردوها، ولا يدري الواحد منا أتأخذه كلاليبها فتلقيه فيها، أم يكون له الفوز العظيم بالنجاة منها؟! عسى الله أن يجعلنا من أهل النجاة.

 

أيها الأحبة في الله: وكم في تلك الدار من دركات موحشة، وظلمات مطبقة، وأودية سحيقة، وسلاسل وأغلال وأنكال، وزمهرير تتميز فيه الأجساد.

 

فلله، ما أشد عذابها، وما أبأس أهلها، فأنى لهم باحتمال حرها وسمومها.

 

أي جزء من أجسامهم يقوى على آلامها؟! وهم تبدل فيهم جلود بعد جلود: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ)[النساء: 56].

 

كم تعلو لهم من صيحات، ويتردد منهم من صراخ، ولكن لا يجاب لهم نداء!.

 

يستغيثون من الجوع فيغاثون بشجرة الزقوم فيأكلون منها، فتنسلخ وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش، فيستغيثون منه، فيغاثون بماء كالمهل، فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور!.

 

ويذكرون الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار، فينادونهم بطلب الغوث منهم: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)[الأعراف: 50-51].

 

وإذا أرادوا الفراش واللحاف فما لهم إلا من ذاك اللهب اللهيب: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: 41].

 

ويزيد في عذابهم تلك الخلقة التي زيدت فيهم.

 

ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب السريع".

 

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام".

 

وهم في ذلك كله يتنقلون من عذاب إلى عذاب، ومن ألم إلى ألم، لا يفترون عن عويل وصياح: يا ويلنا! يا ويلنا.

 

وسيق المجرمون وهم عراة *** إلى ذات السلاسل والنكال

فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً *** وعجوا في سلاسلها الطوال

 فليسوا ميتين فيستريحوا *** وكلهم ببحر النار صالٍ

 

ألا، فيا أيتها القلوب لتعي!.

ألا، فيا أيتها العيون لتبصري!.

ألا، فيا أيتها الآذان، أصغ سمعاً إلى أهوال تلك الدار، وأحوال أهلها، يقصها عليك الجبار -جل جلاله- لتلجئي إليه، وتلوذي بجنابه، وتعلمي أن لا نجاة لك من تلك الدار إلا بفضله ورحمته.

 

(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)[الواقعة: 41-56].

 

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)[فاطر: 36-37].

 

وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 49- 52].

 

أيها الأحبة في الله: من يطيق زفرة من زفراتها؟! من يطيق لحظة من أيامها؟! من يطيق لفحة من لهيبها؟! من يطيق لقمة من زقومها؟! من يطيق شربة من حميمها؟! من يطيق الحجاب عن ربه -عز وجل-، وهو أشد عذابها، فأي حسرة تقطع القلوب يوم أن يحجب المرء عن رؤية ربه الذي خلقه وسوّاه وعدله؟. ألكم أفئدة تقوى على هذا؟! ألكم أجساد على حرّ النار تقوى؟!

 

 لا والله ربنا ومولانا.

 

إذاً، فأين الغافل عنها ليفيق ويعود؟!

 

أين آكل الربا وقد وعد بها؟ أين الزاني وقد وعد بها؟ أين الظالم وقد وعد بها؟  أين العاق وقد وعد بها؟  أين الناسي لرعيته وقد وعد بها؟ أين الراشي والمرتشي؟  أين الكاسيات العاريات؟ أين المستهزئون بالدين وأهله؟ أين كل عاصٍ ومعرض عن ذكر ربه -عز وجل-؟ أليس له في تلك الدار ذكرى؟ أليس له عبرة بأحوال من فيها؟! وأين هو من موقف عظيم؟

 

إذا النبيون والأشهاد قائمة *** والجن والإنس والأملاك قد خشعوا

 وطارت الصحف في الأيدي منشرة *** فيها السرائر والأخبار تطّلع

 فكيف سهوك والأنباء واقعة *** عما قليل وما تدري بما تقع

 أفي الجنان وفوز لا انقطاع له *** أم الحميم فلا تبقي ولا تذر

 تهوي بساكنها طوراً وترفعهم *** إذا رجوا مخرجاً من غمّها قمعوا

 طال البكاء فلم ينفع تضرعهم *** هيهات لا رقة تغني ولا جزع

 

 

الخطبة الثانية:

 

 أيها الأحبة في الله: وفي تلك الدار المظلمة، الشديد حرها، والبعيد قعرها، تتنزل رحمة الله -تعالى-، على أقوام فيها، فيخرجهم أرحم الراحمين -سبحانه- منها، إما بشفاعة، أو من غير شفاعة.

 

فحين يجوز المؤمنون الصراط وينجون من كلاليب جهنم، يناشدون الله -عز وجل- أشد المناشدة لإخوان لهم كان معهم إيمان ولكنهم جمعوا معه ما استوجبوا لأجله العذاب في النار.

 

يقولون في مناشدتهم: "ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً!.

 

ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، ثم يقول سبحانه: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط إلا أن معهم أصل الإيمان قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حمل السيل، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه.

 

ثم يقول لهم سبحانه: ادخلوا الجنة فما رأيتم فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم أبداً".

 

ف سبحانه ما أرحمه! وسبحانه ما أحلمه! وسبحانه ما أكرمه!.

 

فيا عباد الله: لله در ذلك العبد العارف حين ينظر إلى نفسه فلا يرى لها إلا العيب والنقص وما يوجب العذاب، فوجّه الوجه لباريه، وفوّض أمره إليه، وسعى في رضاه بقلبه ولسانه وجوارحه. وعلم يقيناً أنه لا غنى له عن رحمته، ولا غنى له عن فضله، ولا غنى له عن عفوه، فنادى:

 

إلهي لا تعذبني فإني *** مقر بالذي قد كان مني

فمالي حيلة إلا رجائي *** لعفوك إن عفوت وحسن ظني

وكم من زلة لي في الخطايا *** وأنت عليّ ذو فضل ومنّ

إذا فكرت في ندمي عليها *** عضضت أناملي وقرعت سنّي

أجن بزهرة الدنيا جنوناً *** وأقطع طول عمري بالتمني

ولو أني صدقت الزهد عنها *** قلبت لأهلها ظهر المجنّ

 يظن الناس بي خيراً وإني *** لشرّ الخلق إن لم تعف عنّي

 

 

 

المرفقات

من النار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات