التحرز من الأدواء الخفية, ومن الأدواء الظاهرة

د. منصور الصقعوب

2021-02-12 - 1442/06/30 2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/وجوب توقي البلاء 2/وسائل للوقاية من البلايا والمِحَن 3/أهمية المعوذتين وأذكار الصباح والمساء 4/في الاستقامة صلاح المرء 5/الالتزام بالاحترازات والتدابير الوقائية.

اقتباس

فالتسلُّح بالقرآن، وإحياؤه في القلوب والبيوت, سلاحٌ ناجعٌ في زمن ربما بُلِيَتْ بعض البيوت بأصوات الشيطان, مِن الغناء والملاهي, ونتيجةً لذلك عششت الشياطين فيها, ولم تدخل الملائكة,.. وقراءةُ المعوذتينِ وآية الكرسي وخاتمةِ البقرة لها أثرٌ في الحفظِ...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد: أرأيتم لو أن رجلاً كان له عدوٌّ حاقد, وخصم حاسدٌ, يخاف ضرره, ويودُّ السلامة منه ومن أذيته, لكنَّه لم يتخذ طرق السلامة منه, ولم يسلك سُبل الاحتياط من شرِّه، فإذا به ظاهرٌ مكشوفٌ من غير تحرُّزٍ ولا مُدافع, فهو متعرّضٌ للخطر في أيِّ لحظة, وقريب من الضرر, وهو مقصّرٌ إذ لم يتحرّز من العدو المتربص, ولم يتَّخذ طرق الاحتياط والحذر، ولم يسلك مسالك التحصن.

 

إنَّ مَثل هذا الرجل كمثل حال الإنسان يعيش في هذه الدنيا في عالم تحيط به الأخطار, وتتخطفه الشرور.

 

إننا نعيش في عالمٍ فيه الجنُّ والشياطين, والسحرةُ والمشعوذون والأشرارُ العيانون، والخصماءُ المؤذون, وكل أولئك لا يتورعون من سلوك أيّ طريقٍ يؤذي هذا الإنسان ويُلْحِق به البلاء, أو يصيبه بالعين والسحر, وبكل تلك الشرور التي تصيبه بالأذى في نفسه وأهله.

 

وهذه البلايا قد تُصِيب المرء ابتلاءً ليرفعَ الله ذِكْره, ويكتبَ أجره, وخيرُ الخلق -صلى الله عليه وسلم- لم يسلم, لحكمةٍ يعلمها ربنا, ففي الحديث عن زيد بن أرقم قال: "‌سَحَرَ ‌النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَ: فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا، قَالَ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: "إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَنْ يَجِيءُ بِهَا"، فَبَعَثَ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيًّا -رضي الله عنه-فَاسْتَخْرَجَهَا، فَجَاءَ بِهَا، فَحَلَّهَا. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ".

 

فإذا أصاب ذلك سيدَ البشر فمَن دونه أكثرُ عرضةً للإصابة بهذه البلايا والمحن. ومع هذا فديننا أرشدنا لأسلحة بها نتسلح, ودروعٍ بها نتدرع -بإذن الله-.

 

ألا وإن القرآن العظيم أعظمُ سلاحٍ وعاصمٍ -بإذن الله-, وكيف لا, وهو كلام رب العالمين القائل: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت:44]، وهل يقاوم الأدواء والأمراض, ويقي من الشرورَ شيءٌ مثلُ كلامِ رب العالمين, الذين لو نزل على الجبال لصدّعها أو على الأرض لقطّعها، وهو أعظمُ حصنٍ, وأَحْرزُ حرزٍ, وأكبرُ دواء, وفي الصحيح: "البيت الذي تُقْرَأُ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطان".

 

فالتسلُّح بالقرآن، وإحياؤه في القلوب والبيوت, سلاحٌ ناجعٌ -بإذن الله-, في زمن ربما بُلِيَتْ بعض البيوت بأصوات الشيطان, مِن الغناء والملاهي, ونتيجةً لذلك عششت الشياطين فيها, ولم تدخل الملائكة, وماذا يرتجى بعد ذلك؟!

 

وقراءةُ المعوذتينِ وآية الكرسي وخاتمةِ البقرة لها أثرٌ في الحفظِ -بإذن الحفيظ العليم-, وقد قال الشيطان لأبي هريرة كما ثبت عند البخاري: "إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ)[البقرة: 255]، حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ".

 

عباد الله: والأورادُ والأذكارُ والتحصينات النبوية, تقي الإنسانَ وتكونُ له حصناً وحرزاً من الشياطين والسحرة والهوام, أرشدنا لذلك نبينا -عليه الصلاة والسلام-, ويروى في الحديث: "رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ ‌احْتَوَشَتْهُ ‌الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَخَلَّصَهُ مِنْهُمْ".

 

وفي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعَوِّذ الحسن والحسين ويقول: "إن أباكما إبراهيم كان يُعَوِّذ بها إسماعيل وإسحاق, أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة".

 

وفي السنن عن عثمان قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبدٍ يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء"، وفي رواية "لم تصبه فجأة بلاء".

 

وقال رجلٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله ما لقيتُ من عقربٍ لدغتني البارحة, فقال: "أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق لم يضرك".

 

عباد الله: والاستقامةُ وصلاحُ المرءِ من أعظمِ الأسلحة التي بها يُحفظ العبد من الشرور, وربنا قال -تعالى-: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)[الحجر:42]، (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل:99]، وكم هي الشرور التي يُعصَم منها المرءُ بقربه من الله, فيحفظه ويقيه, ومن الشرِّ يحميه, ويقوي قلبَه وينصرُه على أعاديه.

 

يا كرام: وللصلاة أثرٌ عظيم في الحفظ, ولا سيما صلاةُ الفجر, فمن صلاها مع المصلين فهو في ذمة رب العالمين, وأنَّى لأحدٍ أن يناله بمكروه والله جعله في ذمته؟!

 

ودعاءُ الله أن يعصمك ويحصِّنك, حصنٌ بإذن الله حصين, وكم من امرئٍ عجزت عنه السحرة والشياطين, بدعوة حفظه الله بها, والله على كل شيء قدير, لا تقل كيف, فالله قادر, وكيد الشرور ضعيف, والله هو الركن الشديد, ولكنّ هذا يتطلب قلباً بالله موقناً, ولساناً بالدعاء لاهجاً, وربنا يقول (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر:60]، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)[البقرة:186]، فرُبّ دعوة صادقة حفظك الله بها من شرِّ ساحر أو مكر ماكر, أو عين عائن, وفي الصحيح: "لا يردُّ القدرَ إلا الدعاء".

 

اللهم احفظنا من الشرور ما علمنا منها وما لم نعلم

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

أما بعد: ومن الأدواء الخفية إلى الأدواء الظاهرة, والوباءُ لم يترفع بعد, والمؤمن يوقن أنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب, ليس كلاماً مرتجلاً, وإنما بنص الوحي المبين (وَمَا أَصَابَكُم مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)[الشورى: 30]، وإن بلاءً أنزله الله فلن يدفعه ولن يرفعه إلا الله, وكلُّ سببٍ يأوي إليه العبادُ دون الله سرابٌ.

 

الوباء -يا كرام- لا يزال يعلّمنا أن الله على كل شيء قدير, وأن الخلق ضعفاء عاجزون أمام إرادته –سبحانه-.

 

لا زال يُعلّمنا أن على المسلمين قبل كل تحرّزٍ أن يأخذوا بالاحترازات الشرعية, بانكسار النفوس بين يدي ربها, ودوام استكانتها لخالقها, بالتوبة إلى الله والندم والرجوع والخضوع, ولوم النفوس على التقصير في حقّ الخالق, كي لا نكون كقوم قال الله عنهم (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[المؤمنون: 76].

 

وبعد هذا: فالمؤمن العاقل يأخذ بالاحترازات والتدابير الوقائية التي تحميه -بإذن الله-، وتحمي غيره, من تباعدٍ وتجنُّب الاجتماعات ولبس الكِمامات, وغير ذلك من حروز وتدابير أثبتت بأمر الله أثرها, ومع كل هذا فهو يتوكل على ربه في الحفظ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق:3].

 

وليس الوباءُ وآثاره وضحاياه ببعيدةٍ عنا, فكم فقدنا فيه من عزيز!, وكم حُرمنا لأجلِ التحرز منه من المساجد!, وكم عشنا أيام حَجْرٍ مضت بما فيها!, والله نسأل أن لا يُعيد مثلها, وهذا يتطلب من الجميع تحملَ المسؤولية, وعدمَ التهاون بالأمر, والتواصي بالتحرز الشرعي بالتوبة والاستغفار, وبالتحرز الوقائي بوصايا أهل الاختصاص.

 

وأولى وآكد المَواطن التي ينضبط فيها المسلم بيوت الله, وليس يأثمُ المرء حين يُباعد الصفوف امتثالاً ورجاءً للمصلحة المعتبرة, بل يُرجى أن يُثاب, وأن يكتب له أجر رصّ الصفوف الذي حِيلَ بينه وبينه.

 

اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وأنت أرحم الراحمين لا اله إلا أنت. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك.

 

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

 

 

 

المرفقات

التحرز من الأدواء الخفية, ومن الأدواء الظاهرة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات