عناصر الخطبة
1/ استشراء الغلاء 2/ أحكام التسعير 3/ دور المواطنين في استشراء الغلاء ومكافحته 4/ أسباب الغلاءاقتباس
بلغَ الغلاءُ بالناسِ مبلغاً مُنهكاً، ليسَ في هذهِ البلادِ فقط، بلْ في سائرِ بقاعِ الأرضِ، ولا بُدَّ للمِنبَرِ مِنْ وقفةٍ معَ هذهِ المسألةِ.
الخطبة الأولى:
أما بعدُ: أيها الإخوة المسلمون: لا يزالُ الناسُ يتطاولونَ مع الأسعارِ، حتى انقطعَت أعناقُهم، وأُنهِكَتْ أجسادُهُم، وخَوتْ جيوبُهُم، فأنَّى وجَّهْتَ وجهَكَ في هذهِ البلادِ الطيبةِ، الكثيرةِ الخيرِ، الوافرةِ الأموالِ، الوارفةِ الظلالِ، وجَدْتَ في بعضِ أسواقِها جَشَعاً مُخيفاً، وغلاءً مُرهقاً.
أينَ التكافلُ وأينَ التسامُحُ الذي قالَ عنهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رحمَ اللهُ عبداً سمحاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى"؟ رواهُ البخاريُّ.
بلغَ الغلاءُ بالناسِ مبلغاً مُنهكاً، ليسَ في هذهِ البلادِ فقط، بلْ في سائرِ بقاعِ الأرضِ، ولا بُدَّ للمِنبَرِ مِنْ وقفةٍ معَ هذهِ المسألةِ.
أيها المسلمون: لغلاءِ الأسعارِ حالتانِ: الحالةُ الأولى: وهوَ مذهبُ جماعةٍ من أهلِ العلمِ، أنهُ إذا كانتْ الزيادةُ في أسعارِ السلعِ ناتجةً عن قلةٍ في المجلوبِ، وزيادةٍ في المطلوبِ، فهذهِ الزيادةُ جائزةٌ، ولا حرجَ فيها، فقدْ روى الترمذيُّ عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- قالَ: غلا السعرُ على عهدِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فقالَ الناسُ: يا رسولَ اللهِ، غلا السعرُ؛ فسعِّرْ لنا. فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ هوَ المسعِّرُ القابضُ الباسطُ الرازقُ، وإني لأرجو أنْ ألقى اللهَ وليسَ أحدٌ منكُم يطلُبُني في دمٍ ولا مالٍ" والحديثُ صححَهُ الترمذيُّ وابنُ حبان.
وأما الحالةُ الثانيةُ: فهيَ أنْ يكونَ ارتفاعُ الأسعارِ ناتجاً عن تواطُؤٍ أو استغلالٍ مِن أصحابِ السلعِ لحاجةِ الناسِ، فقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: يجبُ على وليِّ الأمرِ أنْ يُسعِّرَ هذهِ السلعَ بالقدرِ الذي يحققُ المصلحةَ ويدفعُ الظلمَ، وحَمَلُوا حديثَ أنسٍ السابقِ، المانعِ مِن التسعيرِ، على الأحوالِ العاديةِ، التي يبيعُ فيها الناسُ سِلَعَهُم على الوجهِ المعروفِ، من غيرِ ظُلمٍ منهُم.
قال ابنُ العربيِّ المالكيِّ بعدَ ذكرِهِ لحديثِ أنسٍ -رضي الله عنه-، قال -رحمه الله-: وما قالَهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ، وما فعلَهُ حُكمٌ، لكنْ على قومٍ صحَّ ثباتُهُم واستسلَمُوا إلى ربِّهِم، وأما قومٌ قصدُوا أكلَ أموالِ الناسِ والتضييقَ عليهِم فبابُ اللهِ أوسعُ، وحكمُهُ أمضى.
وقالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ-: وأما التسعيرُ، فمنهُ ما هُوَ محرَّمٌ، ومنهُ ما هُوَ عدلٌ جائزٌ، فإذا تضمَّنَ التسعيرُ ظلمَ الناسِ، وإكراهَهُم بغيرِ حقٍّ على البيعِ بثمنٍ لا يرضَونَهُ، أو منْعَهُم مِمَّا أباحَ اللهُ لهُم، فهُوَ حرامٌ؛ وإذا تضمَّنَ التسعيرُ العدلَ بينَ الناسِ، ومَنْعَهُم مِمَّا يَحرُمُ عليهِم من أخذِ الزيادةِ، فهو جائزٌ، بل واجبٌ.
أيها الأحبةُ المسلمونَ: جاءَ الناسُ إلى إبراهيمَ بنِ أدهمَ وقالوا: غلا اللحمُ فسعِّرهُ لنا. فقالَ -رحِمَهُ اللهُ-: أرخِصُوه أنتم. سبحانَ اللهِ! نحنُ نشتكي لكَ يا بنَ أدهمَ غلاءَ السعرِ، نحنُ المستهلكينَ، ونحنُ المشترينَ، ونحنُ الذينَ رُفِعَتْ علينا الأسعارُ، نحنُ أصحابَ الحاجةِ، وتقولُ لنا: أرخِصُوه أنتم! وكيفَ نُرخِصُهُ يا أبا إسحاقَ؟ قال -رحمَهُ اللهُ-: لا تشتروهُ.
وعن رزينِ بنِ الأعرجِ مولى آلِ عباسٍ قالَ: غلا علينا الزبيبُ بمكةَ فكتَبْنَا إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ بالكوفةِ أن الزبيبَ قد غلا علينا، فقالَ -رضي الله عنه- أنْ أرخِصُوهُ بالتمرِ.
فيا أيها المسلمونَ: سلعةُ التجارِ عندَهُم، ونقودُ المستهلكينَ أيضاً عندَهُم، وكلٌّ عندَهُ مالُهُ، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "البَيِّعانِ بالخيارِ ما لم يتفرقا"، فإذا علِمَ التجارُ أنهم إذا رفَعُوا السعرَ تركَهُم الناسُ، وتركُوا بِضَاعَتَهُم، أو استبدَلُوها بغيرِها، فلنْ يرفعوا السعرَ.
أيها الإخوة المؤمنون: قد يتضايقُ الناسُ منِ ارتفاعِ أسعارِ بعضِ السلعِ، ويصيبُ بعضَهُم الهمُّ والغمُّ، وقد يتصرفونَ سلباً، فيكون هؤلاءِ الناسُ هُمُ السببَ بارتفاعِ الأسعارِ.
نعم أيها المسلمونَ، سأُخْبِرُكُم كيفَ يكونُ ذلكَ: أرأيتُم حينَمَا تشُحُّ سلعةٌ في السوقِ، فهل يتركُها الناسُ حتى تتوفرَ وينخفضَ سعرُها؟ أيبحثونَ عن البدائلِ الموجودةِ؟ لا، إنما يذهبُ الجهلةُ الموسرونَ منهم، فيَحْمِلُونَ ما في السوقِ كُلِّهِ إلى بيوتِهِم، ويشترونَ بالكمياتِ، ويُخَزِّنُونَها، فيكونون عوناً لغلاءِ الأسعارِ على أنفُسِهِم.
ينبغي للناسِ أنْ يكونوا عقلاءَ، وعلى درجةٍ من الوعيِ والإدراكِ، وإذا كانَ التاجرُ يرفعُ سعرَ سلعتِهِ، وبدونِ مبررٍ لذلكَ، ولا يجدُ مَنْ يَكُفُّهُ ويردَعُهُ، فإنَّ هذا التاجرَ يُتركُ وسلعته.
ونحنُ -أيها المسلمون- قد أنعمَ اللهُ علينا، في هذهِ البلادِ، بأنْ جعلَ الأرزاقَ واسعةً، والسلعَ كثيرةً, فالبضائعُ تأتي إلينا من كلِّ مكانٍ، فإن ارتفعَ سعرُ سلعةٍ من السلعِ، فهناكَ سِلعٌ غيرُها، وقد تكونُ أفضلَ منها.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود:6].
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعدُ أيها المسلمونَ: فلعلَّكُم تلاحظونَ أنهُ كُلَّما أسرفَ الناسُ في سلعةٍ من السِلعِ فإنَّ سعرَ هذه السلعةِ يرتفعُ دونَ غيرِها، فقدْ أسرفَ الناسُ في السياراتِ، وها هي -كما ترونَ- تجاوزَتِ الخيالَ في أسعارِها.
وأسرفَ الناسُ في البيوتِ والعُمرانِ، وها أنتم ترونَ أسعارَ العقارِ! وأسرفَ الناسُ في الأطعمةِ واللحومِ، وكلُّ يومٍ يمُرُّ وأسعارُ الأطعمةِ واللحومِ بازديادٍ. وأما السِلعُ التي لمْ يُسرِفِ الناسُ فيها فلم تتغيرْ أسعارُها.
واعلموا -أيها المسلمون- أن ما أصابَنا مِن غلاءٍ فبسببِ ذنوبِنا ومعاصِينا وإسرافِنا، وصدقَ اللهُ القائلُ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ، واشكروا نِعَمَهُ؛ لأنَّ النعمَ إذا شُكِرَتْ قرَّت، وإذا كُفِرَت فرَّت، يقولُ -تعالى-: (وَإِذْ تَاذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
صلوا وسلموا على محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم