التاريخ الهجري

ناصر بن محمد الأحمد

2016-09-29 - 1437/12/28
عناصر الخطبة
1/ العمل بالتاريخ الهجري منذ خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه 2/ كراهية عمر بن الخطاب للتاريخ بتاريخ الفرس أو الروم والحكمة في ذلك 3/ إهمال المسلمين في الوقت الحاضر للتاريخ الهجري 4/ عدم قبول الصحابة لجعل بداية التاريخ بميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- أو وفاته والحكمة في ذلك 5/ دلالة التاريخ الهجري على قوة المسلمين 6/ عدم قبول اليهود والنصارى لتغيير تاريخهم 7/ مرور الوقت ومحاسبة النفس

اقتباس

أيها المسلمون: إن المتأمل في الحوار الذي جرى بين الصحابة في هذا المؤتمر التاريخي العظيم، والنتائج التي توصلوا إليها، يلاحظ كُره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يؤرّخ بتاريخ الفرس أو بتاريخ الروم، فما الحكمة من ذلك؟ لقد كره...

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن التاريخ الهجري لم يكن معمولاً به في أول الإسلام، وإنما ابتدأ العمل به منذ خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

 

ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه، كتب إليه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فلا ندري متى كتبت؟ فجمع عمرُ الصحابة -رضي الله عنهم- فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون، وغير ذلك، فقال قائل: أرّخوا كما يؤرخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملِك أرّخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرّخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضاً.

 

فقال بعضهم: أرّخوا من مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

وقال آخرون: من مبعثه.

 

وقال آخرون: من مهاجره.

 

فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: الهجرة فرّقت بين الحق والباطل فأرّخوا بها.

 

فأرّخوا من الهجرة واتفقوا على ذلك.

 

ثم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداء السنة، فقال بعضهم: من رمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن.

 

وقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة مهاجراً.

 

واختار عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- أن يكون من شهر محرم؛ لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجّهم الذي به تمام أركانُ دينهم، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم- والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرم الحرام.

 

أيها المسلمون: إن المتأمل في الحوار الذي جرى بين الصحابة في هذا المؤتمر التاريخي العظيم، والنتائج التي توصلوا إليها، يلاحظ كُره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يؤرّخ بتاريخ الفرس أو بتاريخ الروم، فما الحكمة من ذلك؟

 

لقد كره عمر -رضي الله عنه- ذلك انطلاقاً من حرصه الشديد على أن تكون الأمة الإسلامية أمة مستقلة متميزة عن سائر أمم الأرض من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وغيرهم.

 

يريدها أمة متميزة بمظهرها ومخبرها، بفكرها وثقافتها، بسلوكها وأخلاقها، ويريد رضي الله عنه أن تكون متميزة أيضاً بتاريخها.

 

كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحرص كل الحرص على ألاّ تذوب شخصية هذه الأمة في شخصية غيرها من الأمم الكافرة، خاصة الفرس والروم وهم أعداؤها.

 

وموافقة الصحابة -رضي الله عنهم- على ما رأى عمر يدل على حرص الجميع على الاستقلال والتميّز، وأن هذه القضية كانت واضحة لديهم وضوح الشمس، إذ لم يرضوا أن يكونوا تبعاً لغيرهم من أمم الأرض حتى في التأريخ.

 

ويدل أيضاً أنهم كانوا مبدعين في كل شيء، ليسوا إمّعات، ولا يقلدون غيرهم فيما يمكنهم أن يخترعوا هم، ولا يقبلون أن يستوردوا فكرهم وثقافتهم وتاريخهم من أعدائهم كما يستوردون غيره مما لا علاقة له بالفكر والمنهج.

 

ومما يؤسف له حقاً أن تصل أمتنا في هذه الأيام إلى التقهقر والذوبان، فقد أهملت تاريخها وانساقت وراء أعدائها الذين يذلونها اليوم في كل ميدان، تأَرّخ بتاريخهم وتنهل من سموم ثقافتهم، بل قام بعضهم ممن ينتسبون إلى هذه الأمة الإسلامية بالإعتداء على التاريخ الهجري حيث قامت بعض الدول الإسلامية بإلغائه من تقويمها الرسمي معتدية بذلك على شخصية الأمة الإسلامية، ومسيئة إلى إجماع الصحابة -رضي الله عنهم-.

 

إن مخالفة ما أجمع عليه الصحابة بهذا الشأن جريمة نكراء تعرض صاحبها للهلاك في الدنيا والآخرة.

 

أما آن لهذه الأمة اليوم أن تعود إلى شخصيتها المستقلة، أما آن لها أن تتميز بفكرها وثقافتها وتاريخها، وقد تميزت برسولها وقبلتها وصلاتها وشريعتها.

 

ويلاحظ أيضاً أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومعه الصحابة لم يقبلوا أن يُؤرّخوا بميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بوفاته على أهميتهما، فما الحكمة من ذلك؟

 

لقد تعلم عمر -رضي الله عنه- ومعه الصحابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخالفة اليهود والنصارى، فالنصارى قد أرّخوا بميلاد نبي الله ورسوله عيسى ابن مريم -عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة وأتم التسليم-، وبالغوا في مدحه وتعظيمه، حتى بلغوا به مرتبة الألوهية وقالوا عنه: أنه ابن الله! وتارة قالوا: هو الله! وتارة قالوا: ثالث ثلاثة!

 

وحتى لا يقع المسلمون فيما وقع فيه النصارى من المبالغة في التعظيم، فقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغلو في مدحه؛ كما روى ذلك الإمام البخاري في صحيحه: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم انما أنا عبد، فقولوا: عبدالله ورسوله".

 

وقد استشف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من جعل التاريخ الإسلامي مبتدأً بميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذريعة للإنحراف بالنسبة للأجيال القادمة.

 

ولم يقبل كذلك رضي الله عنه أن يُؤرّخ بالبعثة على أهميتها؛ لأن بعثته صلى الله عليه وسلم والفترة التي تلت البعثة كانت فترة ضعف بالنسبة للإسلام وأهله، فقد كان المسلمون مستضعفين في مكة لا حول لهم ولا قوة، وكانت السيادة لجبابرة قريش أمثال: أبي جهل وأبي لهب والوليد بن المغيرة، وغيرهم. ولا يُعقل أن يؤرخ بهذه الفترة التي انعدمت فيها سيادة المسلمين على شبر واحد من الأرض.

 

إن الأمة لا تؤرخ بفترات الضعف في حياتها، والتاريخ بالهجرة يناسب ما ذكرنا، فقد أصبحت الأمة الإسلامية بعد الهجرة النبوية أمة قوية، وكانت الهجرة بداية القوة عند المسلمين، قاعدة وقيادة، وأسهم الجميع في صنع أحداث الهجرة وما بعدها، فبنوا جميعاً الدولة الإسلامية وثبّتوا أركانها، فالتاريخ بالهجرة يدل على التاريخ للأمة في أقوى فترات جهادها ونضالها وكفاحها، والتاريخ لا يصنعه فرد مهما كانت منـزلته حتى لو كان رسولاً نبيا.

 

إن الذي يصنع التاريخ الأمة بكاملها تلتف حول رسولها أو حول قائدها، فكم من الرسل خذلهم أقوامهم فلم يفعلوا شيئا، وإن الأمة اليوم مدعوةٌ أن تصنع تاريخها بنفسها بأن توجه الأحداث وأن تؤثر فيه.

 

أيها المسلمون: التاريخ الهجري شهوره شهوراً هلالية، التي هي عند الله -تعالى- في كتابة كما قال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة: 36].

 

هذه الشهور الهلالية هي التي جعلها الله -تعالى- مواقيت للعالم أجمع كما قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) [البقرة: 189].

 

مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص، لا فرق بين عرب وعجم، ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه، فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق.

 

أما الشهور الإفرنجية فهي شهوراً وهمية، غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس، بل هي شهور اصطلاحية مختلفة، بعضها واحداً وثلاثون يوماً، وبعضها ثمانية وعشرون يوماً، وبعضها بين ذلك، لا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول أو محسوس.

 

ولهذا طرحت مشروعات عندهم لتغيير هذه الأشهر الإفرنجية على وجه منضبط، لكنها عورضت من قبل الأحبار والرهبان.

 

فتأمل -أيها المسلم- كيف يعارض رجال دين اليهود والنصارى في تغيير أشهر وهمية مختلِفة إلى اصطلاح أضبط لأنهم يعلمون ما لذلك من خطر على فكرهم وثقافتهم، وبعض أمتنا ممن هم محسوبون على الإسلام لا يمانعون من تغيير التوقيت الهجري الإسلامي التي جعلها الله لعباده، وعدلوا عنها إلى التوقيت بالشهور الإفرنجية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: التاريخ يمضي، والعمر يمضي، والدنيا كلها ذاهبة بلا رجعة، فهنيئاً لمن أحسن في دنياه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام.

 

سل نفسك -يا عبدالله- بماذا قضيت تاريخ عمرك، وفتش في كتابك، فإن كان خيراً فاحمد الله واشكره، وإن كان غير ذلك فتب إلى الله واستغفره؟

 

كم يتمنى المرء تمام شهره لاستلام راتبه، وهو يعلم أن ذلك يُنقص من عمره، وأنها مراحل يقطعها من سفره، وصفحات يطويها من دفتره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلى من استعد للقدوم إلى ربه، بامتثال أمره واجتناب نهيه؟

 

أيها المسلمون: إن الأيام والشهور شاهدةً عليكم، فحاسبوا أنفسكم ماذا أسلفتم وماذا قدّمتم؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".

 

ليحاسب كل منا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها، وعن حقوق المخلوقين والتخلص منها، وعن أمواله من أين جمعها وفيم أنفقها.

 

أيها الناس: حاسبوا أنفسكم اليوم فأنتم أقدر على العلاج منكم غداً، فإنكم لا تدرون ما يأتي به الغد.

 

إن الأيام والشهور خزائن تُحفظ فيها أعمالكم، وعما قريب تُفتح لكم فترون ما أودعتم فيها، روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب فقال: "أيها الناس: إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه إلى آخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مُستعتب، وما بعد الدنيا من دار، إلا الجنة أو النار".

 

كم ولد من مولود؟ وكم مات من حي؟ وكم استغنى من فقير؟ وكم افتقر من غني؟ وكم عز من ذليل؟ وكم ذل من عزيز؟: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 26 - 27].

 

قال صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" [أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-].

 

أيها المسلمون: من منا لم يمر بفتنة في نفسه أو ماله أو أهله، ومن منا لم يسمع فنتة في أحد بلاد المسلمين هنا أو هناك، ولكن السعيد من وعظ بغيره، قال الله -تعالى-: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].

 

فهنيئاً لمن تذكّر وتاب واتعظ من الفتن التي مرّت وذهبت، سواء كانت هذه الفتنة في نفسه أو في مجتمعه أو في أمته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عام إلاّ والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" [رواه الترمذي].

 

اللهم...

 

 

المرفقات

الهجري

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات