التاريخ الهجري سنة عمرية وهوية إسلامية

راكان المغربي

2022-07-29 - 1443/12/30 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/نشأة دولة الإسلام 2/قصة التأريخ الهجري والحكمة من ذلك 3/ضرورة التمسك بالتأريخ الهجري 4/من أحكام شهر الله المحرم

اقتباس

بدون التاريخ الهجري القمري لن نعرف مواسمَ رمضان ولا الحج، ولا عيدَ الفطر والأضحى، ولا عرفةَ وعاشوراء، ولا الأيامَ البيض والأشهرَ الحرم، ولا مددَ العددِ وحولَ الزكاة...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: في حقبة من حقب التاريخ، كانت كل دول الأرض تغرق في أوحال الضلال، وتقبع في ظلمات الغواية..

 

لو نظرت إلى خارطة الأرض في تلك الحقبة لن تجد فيها موضعَ قدمٍ يُذعَن فيه بالتوحيد، ويُحكَم فيه بشريعة سماوية نقية.

 

نعم كان هناك جماعاتٌ قليلةٌ من الناس باقون على الفطرة السليمة، مؤمنون بالدين القويم، ولكنهم مطاردون مضطهدون مفارقون لأقوامهم.

 

وفي أحد الأعوام يأذن اللهُ أن تنتهيَ تلك الحقبة المظلمة، لتبدأَ دولةُ الإسلام من جديد، فيظهرَ التوحيدُ في الأرض عاليا شامخا ظاهرا على الدين كله.

 

وشاء الله أن تنشأ تلك الدولةُ من الصفر؛ فلم تقم على أرض الحضارات، ولا من عواصم الإمبراطوريات، وإنما نشأت من الصحراء القاحلة، وفي أرض الأميين، وبين القبائل المتناحرة، التي ما إن امتزج قلوبُ أهلِها بهذا الدين، فصبغوا بشريعة الله حياتَهم، وطهروا بها قلوبَهم، حتى تحولت تلك الأرضُ إلى منبعٍ للخير، ومصنعٍ للحضارة، ومصدرٍ للنور يصل إشعاعُه إلى مشارقِ الأرض ومغاربِها.

 

نشأت دولةُ الإسلام في ذلك العام الذي انطلق فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجرا إلى المدينة؛ ليقيم دولة الإسلام على تلك الأرض الطاهرة المباركة، لتكون تلك الدولة بركة ورحمة للعالمين.

 

كان هذا العام عاما فارقا في التاريخ، ارتبط بوجدان أهل الصدر الأول؛ ففيه كُشفت الغمة، وأمن المسلمون، وفرّق الله بين الحق والباطل، وفيه قامت أول أرض تُذعِنُ لأحكام الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

عباد الله: في خلافة عمر -رضي الله عنه- جمع أميرُ المؤمنين الصَّحابةَ رضوان الله عليهم، فاستشارهم في وضعِ تأريخٍ يتعَرَّفون به حلولَ الدُّيونِ وغيرَ ذلك، فقال قائل: أرِّخُوا كتأريخِ الفُرسِ، فكَرِه ذلك، وكانت الفُرسُ يؤرِّخون بملوكهم واحدًا بعد واحدٍ. وقال قائلٌ: أرِّخوا بتأريخِ الرُّومِ، وكانوا يؤرِّخون بملك إسكندر المقدوني، فكَرِه ذلك. وقال آخَرون: أرِّخوا بمَولِدِ رَسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال آخرون: بل بمَبعَثِه. وقال آخرون: بل بهِجْرتِه. وقال آخرون: بل بوفاتِه -عليه الصلاةُ والسلامُ-؛ فمال عُمَرُ -رضي الله تعالى عنه- إلى التأريخِ بالهِجرةِ، وقال: "الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ ‌الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَأَرِّخُوا بِهَا" ثم أجمع الصحابة على ذلك.

 

وأرخوا أول تلك السنة من شهر محرم، قال ابن الجوزي في سبب ذلك: "ولم يؤرخوا بالبعثة؛ لأن في وقتها خلافًا، ولا من وفاته لما في تذكره من التألم، ولا من وقت قدومه المدينة، وإنما جعلوه من أول المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه؛ إذ البيعة كانت في ذي الحجة، وهي مقدمة لها، وأول هِلالٍ هَلَّ بعدها المحرم، ولأنه منصرف الناس من حجهم، فناسب جعله مبتدأ -أي للسنة-".

 

وبذلك صار تاريخ الهجرة مرتبطا بحياة المسلمين في كل شؤون حياتهم، ففي كل كتابة للتاريخ يقال في آخره عام كذا وكذا من الهجرة النبوية..

 

واليوم نحن مقبلون على عام جديد هو عام ألف وأربع مئة وأربع وأربعون للهجرة.. نقول ذاك ونستشعر تلك القرون والأعوام المديدة التي مرت على دولة الإسلام العزيزة، كل تلك القرون كان الإسلام فيها راسخةً جذورُه، عاليةً فروعُه، مثمراً عطاؤُه. لم يؤثر فيه تكالبُ الأعداء، ولا كيدُ الفجار، ولا مكرُ الليل والنهار..

 

عباد الله: حين نتمسك بالتاريخ الهجري، ونربط به ديننا ودنيانا، فإننا بذلك نحافظ على هُويتِنا الإسلامية، التي هي مصدرُ عزتنا، وسرُّ قوتنا، والطريقُ إلى التميز والريادة بين الأمم..

 

إن الأمم العظيمة هي التي تتمسك بهُويتها، ولا تذوب في غيرها، وذلك لأنها تعتز بممتلكاتها، وتفتخر بمنجزاتها..

 

وإن من المؤسف اليوم أن نجد بعضَ المسلمين يتجاهلون التاريخ الهجري، الذي به تقوم عباداتنا، وبه عمل سلفنا في كل القرون السابقة؛ فما نقصوا في دين ولا دنيا..

 

بدون التاريخ الهجري القمري لن نعرف مواسمَ رمضان ولا الحج، ولا عيدَ الفطر والأضحى، ولا عرفةَ وعاشوراء، ولا الأيامَ البيض والأشهرَ الحرم، ولا مددَ العددِ وحولَ الزكاة، وغير ذلك من العبادات والمعاملات الكثيرة التي ترتبط بديننا القويم.

 

ولذا فإن ربطَ حياتِنا بهذا التاريخ أمرٌ بالغُ الأهمية، فبه يقوم ديننا، وبقوام الدين تصلح الدنيا.

 

في تفسير قوله -تعالى-: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[البقرة:189]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأخبَرَ أنَّها مواقيتُ للنَّاسِ، وهذا عامٌّ في جميعِ أمورِهم، فجَعَل اللهُ الأهِلَّةَ مواقيتَ للنَّاسِ في الأحكامِ الثَّابتةِ بالشَّرعِ ابتداءً، أو سببًا من العبادةِ، وللأحكامِ التي ثَبَتت بشُروطِ العَبدِ، فما ثبت من الموقَّتاتِ بشَرعٍ أو شَرطٍ فالهِلالُ ميقاتٌ له، وهذا يدخُلُ فيه الصِّيامُ، والحَجُّ، ومُدَّةُ الإيلاءِ والعِدَّة وَصَوْمُ الْكَفَّارَةِ".

 

هذا وقد أجاز العلماء استعمال التاريخ الميلادي الذي تتعلق به بعض المصالح، على أن لا يكون في ذلك نسيان التاريخ الهجري الذي ينبغي أن يكون هو الأساس. قال الشيخ ابن عثيمين: "إذا ابتلينا وصار لا بد أن نذكر التاريخ الميلادي، فليكن أولاً بالعربي الهجري الشرعي، ثم نقول: الموافق كذا".

 

بارك الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: عباد الله: مع بداية شهر الله المحرم شُرع لنا عدد من الأحكام والسنن المتعلقة في هذا الشهر، فمنها:

استحباب صيام شهر محرم، وهو أفضل الصيام بعد صيام رمضان، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ، الصَّلَاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ".

 

وفي هذا الشهر يوم عاشوراء الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، فسن لنا أن نصومه شكرا لله على ذلك، وفي فضل صيامه قال -صلى الله عليه وسلم-: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"، ويسن صيام يوم قبله أو بعده مخالفة لليهود.

 

ومن أحكام هذا الشهر: أنه أحدُ أربعةِ أشهرٍ محرمة، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، والشهور المحرمة تغلظ فيها الآثام، ونُص على النهي عن الظلم فيها في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36]، قال ابن كثير: " (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْأي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها".

 

ومن أحكام الأشهر الحرم: حرمة بدء القتال فيها على الراجح من أقوال العلماء كما قال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)[البقرة:217]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)[المائدة:2]. وما ذاك إلا تعظيما لحرمة هذه الأشهر.

 

اللهم ارزقنا تعظيمك وتعظيم شرعك وتعظيم شعائرك، ووفقنا لما يرضيك وما يقربنا منك، وجنبنا ما يسخطك ويبعدنا عنك.

المرفقات

التاريخ الهجري سنة عمرية وهوية إسلامية.pdf

التاريخ الهجري سنة عمرية وهوية إسلامية.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات