اقتباس
من الناس من لا يرغِّبه في الإسلام ابتداء إلا طعم دنيوي يتقاضاه؛ مال أو منصب أو غيره، وبعض من خرجوا إلى حنين كانوا من هذه الصنف، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك أصحاب تلك النفوس فتعامل...
الحمدلله والصلاة والسلام على رسوله وأصحابه والتابعين؛ ثم أما بعد:
أيها القارئ الكريم: سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها هدايات وتشريعات، وفي كل حدث منها فيه للناس تعليم وتربية ودروس وحكمة، ومن أعظم تلك المواقف موضوع قسمة غنائم حنين، حيث تجلت فيها عبقريته صلى الله عليه وسلم وظهرت حكمته، وهذا المشهد الحكيم (رواه أبو سعيد الخدري أورده الوادعي في الصحيح المسند 402 حسن وأصله في الصحيحين). صحيح البخاري: (3985)، ومسلم: (1758).
وفي سطور هذه المقالة -إخواني- نستعرض وإياكم أبعاد النبي -عليه الصلاة والسلام- الاستراتيجية وحكمته في توزيعه الغنائم في سياق القصة -مستعينين بالله تعالى-:
حب المال جبلة عند بني آدم كما ذكر الله ذلك في كتابه كونه من أهم مقوم حياتهم، وصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يرغبون في المال والعطاء ويحتاجون له كغيرهم؛ لكن نفوس ذلك الجيل هذبت وزكت وتعالت؛ فزهدت في الدنيا كثيرا ورغبت فيما عند الله؛ بل قدمت الغالي في سبيل مرضاته فرضي الله -عنهم ورضوا عنه-.
الهزيمة الفادحة التي مني بها تحالف الشر؛ ثقيف وهوازن بعد انتصار مبدئيٍ حققوه أول المعركة؛ وما هي إلا لحظات حتى استعاد النبي القائد -صلى الله عليه وسلم- زمام المعركة بعد تكتيكات حكيمة وترتيبات دقيقة قلبت الهزيمة إلى نصر مظفر وغنيمة باردة عظيمة، ولم يسمح لهم باستنشاق نشوة النصر ولم تطل فرحتهم به أول أمرهم.
من نوادر المعارك التي جمع للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيها بين النصر المظفر وبين الغنيمة العظيمة والدروس الدقيقة والتربية الإيمانية هي غزوة حنين.
مكر الله بالماكرين بالحق وحملته لا يخيب؛ فحين ساق جيش الكفر إلى وادي حنين كل ما يملك من (نساء، وذرية، وفضة، وأنعام)؛ بدافع أنها أدعى لانتصارهم وأقوى لثباتهم؛ كان ما لم يكن في حسبانهم هو خسارتهم وما يملكون، ثم ملكها الله عباده وأولياءه.
القصد الشريف للنبي -صلى الله عليه وسلم- والبعد الاستراتيجي العميق في توزيعه غنائم حنين؛ حيث أعطى منها أشخاصا لا يستحقونها في الأصل؛ وكان قصده تأليفهم للإسلام؛ فاستهدف شخصيات اجتماعية مرموقة لأن إسلامها سيمنح الإسلام وأهله منعة، كما أعطى شخصيات ذات منزلة شريفة رفيعة يخشى ضررها ويخاف مكرها كانت تشكل خطرا على الإسلام وأهله.
من الناس من لا يرغِّبه في الإسلام ابتداء إلا طعم دنيوي يتقاضاه؛ مال أو منصب أو غيره، وبعض من خرجوا إلى حنين كانوا من هذه الصنف، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك أصحاب تلك النفوس فتعامل معها بما يعالج ذلك السلوك ويحقق تلك المصلحة.
عبقرية النبي -صلى الله عليه وسلم- الفذة في تشخيص طبائع الناس ومعرفة أهوائهم وأحوالهم؛ فقد كان يميز أصحاب الإيمان الراسخ الذي ارتبط همه بعالم الغيب فصار ملائكيا من غيرهم الذين تعلقت نفوسهم بالعالم المادي فكان دنيويا.
جلالة قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أصحابه وعظيم مكانته ومنزلته فيهم؛ فبالرغم أن كل من شارك في غزوة حنين له الحق في الغنيمة إلا أنهم تورعوا أن يعترضوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في قسمته؛ لأن النبي لن يفعل إلا ما هو خير فهو الخير وجاء بالخير وقسمته خير.
من الحكمة استئصال المرض قبل استفحاله حتى لا ينتشر في جميع الجسد، وهو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سمع موقف الأنصار من قسمته؛ حيث قام -صلى الله عليه وسلم- من ساعته ودعاهم للاجتماع ليسمع منهم ما أشكل عليهم وما وجدوه في نفوسهم تجاه قسمته، ويسمع كل من الطرفين وجهة نظر الآخر.
القائد الحكيم لا يتسرع في الحكم والقاضي المنصف لا يستعجل في القضاء، ولا يصح أن تتخذ التصورات أو تبنى الأحكام على معلومات مستقاة من هنا وهناك قبل الوقوف على القضية وأطرافها؛ ثم بعدها تؤخذ القرائن والمعطيات والأقوال والشواهد وغيرها ويستعان بالله -تعالى- ويُسأل أن يلهم الصواب والرشد، وهذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-.
من الحكمة في حلحلة الخلاف وفصل القضايا أن يحصر الحديث بين أطراف المشكلة ويخصوا بالاجتماع دون غيرهم، فذلك أدعى لحلها وأيسر للبت فيها؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستدع سوى الأنصار الذين وجدوا في نفوسهم من قسمته -صلى الله عليه وسلم-، فجمعهم في مكان خاص، ولم يجعل الأمر عاما حتى لا تتعقد المشكلة ويكثر اللغط، وربما ولَّد ذلك حرجا لدى بعضهم أن يقول ما في نفسه أو أصاب بعضهم الحمية فبغى وساء فتتفاقم المشكلة وتتسع الهوة.
تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الجمع؛ إذ لم تمنعه منزلته ومكانته أن يجلس للأنصار وأن يستمع لهم ويأخذ منهم ويعطي بكل ترو وتريث وتفهم وسلامة صدر وحكمة؛ بحجة أنه نبي ورسول من عند الله وأنه لن يقول إلا صوابا ولن يتصرف إلا في دائرة الحق وما فيه مصلحة.
من النصيحة لولاة أمر المسلمين إبلاغهم بما يكون عند الرعية من مظالم وقصور وشكاوى؛ وليس هذا من قبيل التجسس إذا قصد به التعاون على البر والتقوى وتحقيق مصالح شرعية واجتماعية، وكان بدافع الإصلاح والمعالجة لا بقصد النكاية والانتقام، وهو ما فعله سعد بن عبادة -رضي الله عنه-.
أهمية المصارحة والشفافية بين القائد والأتباع؛ فهذه تساهم في معرفة العلل وتشخيص الخلل؛ وحينها تمكن من معرفة العلاج الناجع والدواء النافع، وفي التكتم وعدم الوضوح والمصارحة ترحيل للمشاكل وتعميق للخلاف وتوسيع للهوة بين المكون الواحد، وربما تفاقمت فولدت تفرقا وخصومة وأنتجت حروبا طويلة وقتالا داميا.
حسن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أنصف من نفسه بذكره محاسن الأنصار واعترافه بجميلهم عليه وامتنانه لمعروفهم نحوه، وكان هذا أدعى لتطييب خواطرهم وقطعا لنزغات الشيطان وما أثاره في نفوسهم -رضي الله عنهم-.
الكرم الواسع الذي كان يتمتع به صلى الله عليه وسلم وشواهد ذلك كثير في حياته، وفي حنين من أعظمها؛ حيث أعطى بعضهم أربعين أوقية فضة وآخر أربعين من الإبل وآخر غنما بين جبلين حتى رجع هذا إلى قومه فقال إن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر؛ فسحرهم بتلك الأعطيات وخفف على الإسلام العداء وعلى المسلمين الخصومات.
أيها الأفاضل: هذا ما تيسر استنباطه من الحكم وسهل استخراجه من العبر من حادثة تقسيم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين والمتمعن فيها سيجد أخرى وأخرى، نسأل الله تعالى أن يلهمنا جميعا الرشد وأن يعلمنا الفهم وحسن الاستنباط والتأويل.
وصلى ربي على القائد الحكيم والنبي الكريم والرسول الرحيم سيدنا محمد خير الأولين والآخرين وآله وأصحابه والتابعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم