عناصر الخطبة
1/وقفات مع حديث السام عليك يا أبا القاسم 2/التعامل مع المعاهد والمستأمناقتباس
نَظَّمَتْ الشريعةُ الإسلاميةُ العلاقاتِ بينَ جميعِ الناسِ، على أُسُسٍ وَطِيدَةٍ مِنَ التَّسَامُحِ والعدالةِ، وهِيَ أُسُسٌ لَمْ تَعْرِفهَا الْبَشَرِيَّةُ مِنْ قَبْل، ولمْ يَجِدْ غَيْرُ المسلمينَ مُعَامَلَةً كَالَّتِي...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ما تعاقب الملَوَان. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إلَى الإنس والجان، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
أَمَّا بَعْدُ: جاءَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينةِ، فتعامَلَ مع أعدائهِ بعظمتهِ الأخلاقيةِ التي وصفهُ بها ربُه يومَ قالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
تعامَلَ معهم بعظمتهِ، حتى ولو ظلت قلوبُهم صاغرةً صغيرةً مغلقةً على سوادِ الحقدِ والحسدِ؛ ولذلك كانت تصرفاتُهم وكلماتُهم تُعلنُ ما تُضمرُه قلوبُهم، ومن ذلك: أن رهطاً منهم استأذنُوا على رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيتهِ فلما حيّوه، قالوا: السامُ عليك يا أبا القاسمِ، ولم يقولوا: السلامُ عليكم -والسامُ هو الموتُ- لكنَ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهمَها، فقال مجيباً لهم: وعليكم. وفهمَتْها عائشةُ -رضيَ الله عنها- والتي كانت الزيارةُ في بيتِها؛ فغضبت لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالت لهم: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. فأقبل عليها رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، فَإِنَّ اللهَ رَفِيقٌ، يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ"، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ. فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ".
فلنقف وقفاتٍ مع هذا الحديثِ:
أولها: التعاملُ النبويُ الكريمُ العظيمُ مع اليهودِ؛ فعلى الرغمِ من مسلسلِ مكائدِهِم المتوالي، ومع ذلك عامَلَهم بالتي هي أحسنُ ما وسِعهُ، ودفعَ بالتي هي أحسنُ ما وسِعهُ، وكان يُبقِي حبالَ التواصلِ معهم لعلَ قلوبَهم أن تُقبِلَ، ولتقومَ مع ذلكَ حجةُ اللهِ البالغةُ عليهم.
ثانياً: العجيبُ أن يَستعمِلَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرفقَ ويأمرَ به حتى مع يهودَ، الذينَ أخبرَه ربُه أنهم أشدُ الناسِ عداوةً، وهم الذينَ بادَؤوهُ بالسُوءِ، وبطريقةٍ تدلّ على الاستخفافِ بالمخاطبِ؛ فلو كان أحدٌ يُستثنَى من الرفقِ لكانوا هم اليهودُ. فإذا كان النبيُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استعملَ الرفقَ، وأمرَ به مع أشدِ الناسِ عداوةً، فما مدى استعمالِنا الرفقَ في حياتِنا، وفيما بينَنا، ومع إخوانِنا الذين تربطُنا بهم وشيجةُ الدينِ وولايةُ الإسلامِ؟
ثالثًا: نُلاحظُ أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد فهِمَ خطابَهم، ومع ذلك لم يتجاوَز في ردّهِ عليهم بأكثرَ مما قالوا. وهذا غايةُ العدلِ في الردِّ؛ فهم لو حيّوهُ بتحيةٍ طيبةٍ لردَّها بأحسنَ منها، أما عندما حيَّوا بتحيةٍ سيئةٍ ردَّها عليهم بمثلِها، بل لم يترتَضب على هذا الموقفِ أيُ تداعياتٍ أخرى لاحقةٍ، وقد كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في موقعِ القيادةِ والقدرةِ على ذلك لو أرادَ.
رابعاً: نُلاحظُ الأمنَ العامَ الذي بثّه النبيُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينةِ بحيث أصبحَ كلٌّ يَشعرُ أنه في خفارةِ محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فاليهودُ يدخلونَ على النبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حُجراتهِ وهم آمنونَ، ويعلمونَ أنه لا يُمكن أن يَبغِيَ أو يتجاوَزَ في عقوبتِهم أو يتشفَّى بالانتقامِ منهم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا كما أمرَ، وصلى اللهُ وسلمَ على محمدٍ سيدِ البشرِ.
أما بعدُ: فقد جاءَ الإسلامُ بالتعاملِ مع الكافرِ بالحسنى، وهذه هي سمةُ المجتمعِ المسلمِ منذ صدرِ الإسلامِ، قال ربُنا -سبحانه-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)[الممتحنة:8].
قال الإمامُ ابنُ بازٍ -رحمهُ اللهُ: "لا يجوزُ للمسلمِ أن يَظلِمَ مستأمَنًا أو معاهَدًا، فلا يظلمُه في مالهِ لا بالسرقةِ ولا بالخيانةِ ولا بالغشِ، ولا يظلمُه في بدنهِ لا بضرٍب ولا بغيره".
وقال ابنُ عثيمينَ -رحمهُ اللهُ-: "الفرقُ بين المعاهَدِ والمستأمَنِ أن المعاهَدَ من كان في بلدِهِ، لكنه لا يعتدِي علينا ولا نعتدِي عليه. وأما المستأمَنُ فهو خاصٌّ بفردٍ معينٍ نعطيهِ الأمانَ حتى يبيعَ سلعتَه إن كان تاجرًا وحتى يسمعَ كلامَ اللهِ إن كان يريدُ الإسلامَ وما أشبهَ ذلكَ؛ لقولهِ تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)[التوبة:6]".
نسأل اللهَ -عز وجل- أن يُديمَ أمنَ بلادِنا وأن يكفيَنا شرَ الأشرارِ، وأن يكشفَ من المجرمينَ كلَ ستارٍ، ويحفظَ حدودَنا وجنودَنا وعتادَنا واقتصادَنا، ونسأله أن يباركَ في أوقاتِنا وأعمارِنا، وأن يجعلَ الفراغَ لنا نعمةً لا نقمةً.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وخَيْرَ أعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وخَيْرَ أيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاك.
اللهم لا تخيِّبنا ونحن نرجوكَ، ولا تعذِبنا ونحن ندعوكَ.
اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
اللهم وفقْ إمامَنا ووليَ عهدِه بتوفيقِك، اللهم ارزقُهم باطنةَ الصلاحِ والسدادِ.
اللهم صلِّ وسلِمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم