البخل

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ البخل طريق مظلم 2/ الشح والبخل أمراض مهلكة للعبد 3/ الأخلاق منح وعطايا ربانية 4/ دركات البخل وأنواعه 5/ السخي قريب من الله ومن خلقه 6/ البخل عدو الصلاح

اقتباس

لا يزال المرء ممتدحًا بخيار خصاله وأخلاقه، مذمومًا بشرار أفعاله وأخلاقه، وإن أصحاب النفوس الأبية لا ترضى بالدون حتى تبلغ معالي الأمور وتتربع على عرشها، ولقد خلق الله تعالى أخلاقا ذميمة، وحذر الناس منها ابتلاء لهم أيصبرون وكان ربك بصيرًا، وإن من تلك الخصال الذميمة التي ينفر منها أصحاب الفطر السليمة: خصلة البخل أعاذنا الله وإياكم منها، فالبخل خصلة سوء تجر إلى خصال سيئة كثيرة ..

 

 

 

 

إن الحمد لله....

أما بعد فيا أيها الناس: لا يزال المرء ممتدحًا بخيار خصاله وأخلاقه، مذمومًا بشرار أفعاله وأخلاقه.

وإن أصحاب النفوس الأبية لا ترضى بالدون حتى تبلغ معالي الأمور وتتربع على عرشها.

ولقد خلق الله تعالى أخلاقا ذميمة، وحذر الناس منها ابتلاء لهم أيصبرون وكان ربك بصيرا.

وإن من تلك الخصال الذميمة التي ينفر منها أصحاب الفطر السليمة: خصلة البخل أعاذنا الله وإياكم منها.

فالبخل أيها المسلمون: خصلة سوء تجر إلى خصال سيئة كثيرة.

قال الماوردي رحمه الله: قد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة – وإن كان البخل ذريعة إلى كل مذمة – أربعة أخلاق ناهيك بها ذمًّا وهي: الحرص والشره، وسوء الظن ومنع الحقوق، وإذا آل البخيل إلى ما وصفنا من الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير موجود ولا صلاح مأمول. اهـ.

عباد الله: إن البخل طريق مظلم يقع فيه البخيل فلا يسير على هدى بل يتخبط حتى يهوي في الموبقات ومهاوي الهلاك.

فالبخل يؤدي بصاحبه إلى الشح، والشح أعظم من البخل.

قال عبد الله بن عمرو: "الشح أشد من البخل؛ لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويشح بما في يده فيحبسه، والبخيل هو الذي يبخل بما في يده".

قال ابن القيم رحمه الله: "والفرق بين الشح والبخل: أن الشح هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبه وإمساكه فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح والشح يدعو إلى البخل والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقى شره، وذلك هو المفلح ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون". اهـ.

والشح هو المهلك للعبد بل للأمم أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا». ‌

ولنعلم عباد الله: أن البخل دركات كما أن الجود والسخاء على درجات:

قال ابن قدامة: أشد درجات البخل: أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة إليه، فكم ممن بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل، فكم بين من بخل على نفسه مع الحاجة، وبين من يؤثر على نفسه مع الحاجة، فالأخلاق عطايا يضعها الله حيث شاء. اهـ.

معاشر المؤمنين: إن البخيل لا يبخل إلا على نفسه، فهو حارم لنفسه من الخيرات والمسرات، طاعة لهواه وما تمليه عليه نفسه من سوء الظن بالله تعالى. (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ).

لقد كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من البخل وهو أكرم الخلق: أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات».

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث عمر قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل». ‌

حتى لقد عد النبي صلى الله عليه وآله وسلم البخل أدوى الداء أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وأي داء أدوى من البخل»؟.

‌عباد الله :كما أسلفنا أن البخل دركات، وهو كذلك أنواع فليس البخل محصورًا على البخل بالمال بل البخل أيضًا يكون بالنفس كالجبان عن أرض الوغى؛ حمًى عن الدين ونشر للإسلام.

ويكون كذلك بالبخل عن الطاعة، كالذي يبخل بالسلام أخرج الطيالسي من حديث عبدالله بن مغفل قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وأبخل الناس من بخل بالسلام». ‌

وكذلك من يبخل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ورود ذكره أخرج الترمذي في جامعه من حديث علي رضى الله عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البخيل من ذُكرت عنده ثم لم يصل علي صلى الله عليه وسلم».

معاشر المسلمين: البخل داء عضال، بل هو شر الأدواء، خصوصًا إذا تمكن من قلب، أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «شر ما في رجل شحّ هالع وجبن خالع».

‌عباد الله لو لم يكن في البراءة من الشح إلا الفلاح لكان لزامًا على المرء أن يسعى إليه جاهدًا. قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) كان عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: "رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي"، فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد أفلحت.

قال ابن القيم رحمه الله: والسخي قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن أهله وقريب من الجنة وبعيد من النار والبخيل بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار فجود الرجل يحببه إلى أضداده وبخله يبغضه إلى أولاده

ويُظهر عيب المرء في الناس بخلُه *** ويستره عنهم جميعا سخاؤه
تغط بأثواب السخاء فإنني *** أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه
إذا قل مال المرء قل صديقه *** وضاقت عليه أرضه وسماؤه.

اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شح نفوسنا أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده وهو للحمد أهله، جل سبحانه عن الشبيه والمثيل، وهو السميع البصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرم خلق الله وأجودهم وأسخاهم صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الكرام الميامين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد أيها المؤمنون: فرق بين السخاء والتبذير، فإن حد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة، والبخل عكس ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: "وللسخاء حد فمن وقف على حده سمي كريمًا، وكان للحمد مستوجبًا، ومن قصر عنه كان بخيلاً وكان للذم مستوجبًا".

عباد الله لقد فطرت النفس على محبة المال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) وقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)، ولكن السخي الكريم هو الذي يعصي نفسه ويأطرها على الكرم أطرًّا.

قال طلحة بن عبيد الله: "إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاء لكننا نتصبر".

عباد الله: إن البخل عدو الصلاح، قال حبيش بن مبشر: "جلست إلى أحمدَ بن حنبل ويحيى بن معين والناس متوافرون، فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلاً صالحًا بخيلاً".

أخرج النسائي في سننه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا». ‌

وقال الشعبي: "لا أدري أيهما أبعد غورا في نار جهنم: البخل أو الكذب".

أيها المؤمنون: إن البخيل خازن لماله وحارس له حتى يتقاضاه منه الورثة رغمًا عن أنفه. أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان كذا».

فلنعلم أنه ليس لنا من أموالنا إلا ما أنفقنا في هذه الدنيا، وما سواه فللورثة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول العبد: مالي مالي، وإن له من ماله ثلاثًا: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس». ‌

إن من تدبر هذا، عمل لآخرته وقدم لنفسه قبل فوات الأوان، فما أسرع نسيانك يا ابن آدم بعد موتك فإن باكيك سرعان ما يسلو، وكأنك لم تُخلق.

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلم بكتابة وصيته قبل موته أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضى الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده».

عباد الله كم جمع الإنسان من الأموال، وهو يؤمل أن يعمل بها ويبني بها ويفاخر بها، واخترمته المنية قبل ذلك، دخل الحسن البصري على عبد الله بن الأهتم يعوده فقال: يا أبا معمر كيف تجدك قال: أجدني والله وجعًا، ولا أظنني إلا لُمّ بي، ولكن ما تقولون في مائة ألف في هذا الصندوق لم تؤد منها زكاة ولم يوصل منها رحم؟ قال: ثكلتك أمك فلمن كنت تجمعها؟ قال كنت والله أجمعها لروعة الزمان وجفوة السلطان، ومكاثرة العشيرة، فقال الحسن: انظروا هذا البائس أنى أتاه الشيطان، فحذره روعة زمانه وجفوة سلطانه عما استودعه الله إياه وعمره فيه، إن يوم القيامة ذو حسرات، وإن أعظم الحسرات غدا أن يرى أحدكم ماله في ميزان غيره، أو تدرون كيف ذاكم؟ رجل آتاه الله مالاً وأمره بإنفاقه في صنوف حقوق الله فبخل به فورثه هذا الوارث، فهو يراه في ميزان غيره، فيا لها عثرة لا تقال وتوبة لا تنال.

معاشر المسلمين: ليس المقصود من البخل بخلك على نفسك في المأكل والمشرب، وإن كان ذلك مذمومًا، وإنما المقصود الأعظم هو بخلك عن نفسك في عمل الصالحات وإنفاق الأموال في مرضات الرب سبحانه وتعالى، فالله الله في مشاريع الخير وجهات البر والوقوف في سبيل الله، فما كنت ترجو أن تلقاه غدًا في ميزان حسناتك، فادفعه اليوم أمامك، قال جل وعلا: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

اللهم قنا شح أنفسنا... ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا.. اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان... ربنا آتنا في الدنيا حسنة... ربنا اغفر لنا ولإخواننا ... سبحان ربك رب...

 

 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات