عناصر الخطبة
1/حرص الآباء على تفوق الأبناء 2/ عظم مسؤولية الآباء تجاه الأبناء 3/ منافع صلاح الأبناء على الآباء 4/ حسن تربية الأبناء وطرق ووسائل ذلك 5/ واجبات الآباء تجاه الأبناء أثناء الامتحانات 6/ تذكر الامتحان الأكبر يوم القيامةاقتباس
أيها المؤمنون: يأتي مثل هذا الموسم من كل عام -موسم الامتحانات-، فترى كل شيء في كثير من البيوت يتغير, الزيارات تتوقف، وأجهزة الترفيه، إن صحت التسمية تمنع, الحث على الاستذكار مستمر, والمتابعة من الوالدين مستمرة، والوعود إن حصل التفوق تنهال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله إله الأولين والآخرين، قيوم السموات والأرضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا بالتذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح للقلوب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيده، الذي إذا أطيع شكر، وإذا عصي تاب وغفر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون.
أيها المؤمنون: يأتي مثل هذا الموسم من كل عام -موسم الامتحانات-، فترى كل شيء في كثير من البيوت يتغير, الزيارات تتوقف، وأجهزة الترفيه، إن صحت التسمية تمنع, الحث على الاستذكار مستمر, والمتابعة من الوالدين مستمرة، والوعود إن حصل التفوق تنهال, خوف وترقب رغبة ورهبة, المساجد يكثر روادها, والحرص من الآباء تغير، فالاختبارات على الأبواب, ولسان حال الوالدين: "عند الامتحان يكرم المرء أو يهان" وكل هذا يدل على اهتمام الناس بتعلم أبنائهم، وحرصهم على مستقبلهم وغدهم، أن تشرق في سمائه شمس التوفيق والسعادة، والأمن والأمان.
وتلك -لعمري- سجية تحمد، وأمر يسر, ومع هذا فيأتي أوان السؤال المهم: هل يقف الاهتمام بالأبناء عند هذا الحد؟ وهل تنتهي مسؤولية التربية عند هذا؟ هل فهم الناس كلمة المستقبل التي لم تزل ترددها ألسنتهم؟!
نعم، إن الحياة العلمية والعملية مستقبل، ولكنه مستقبل معرَّض للنقص والخلل، والنوائب والعوارض التي توقفه؛ بل هو موعود بالزوال والانقضاء في يومه الشاهد أو غده القريب.
فهل سعى الآباء والأمهات مع هذا لتأمين مستقبل حقيقي لأبنائهم نتيجته فوز وفلاح لا يحول ولا يزول؟
أيها الآباء: كم هي عظيمة تلك الأمانة الملقاة على عواتقكم, أمانة تخريج رجال الغد وتربية شباب المستقبل والنهوض بالأمة, ولأجل ذلك جاءت النصوص مؤكدة عليكم العناية بهؤلاء الأجيال، ورعاية تلك النعمة, ولا عجب ففي صلاح الأبناء خيري الدنيا والآخرة.
فصالح الأبناء والبنات تقر به العيون في الحياة وفي الممات، تقر به عينك في الدنيا، حين تراه عبدًا خيرًا صالحًا، إن أمرته أطاعك، وإن طلبته برّك، وكان لك بعد الله نعمَ المعين، وكان لك الناصح الأمين.
صلاح الأبناء والبنات تقر به العيون في اللحود والظلمات, يوم تغشاك منه صالح الدعوات وأنت في القبور وحيدًا، وأنت في مضاجعها فريدًا، يذكرك بدعوةٍ صالحة، ينعّمك بها الرحمن، ويغشاك منه الروح والريحان.
صلاح الأبناء والبنات تقرّ به العيون في الموقف بين يدي الديان، فهم حجابٌ من النار، قال صلى الله عليه وسلم: "من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات، فأدّبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن، كن له حجاباً من النار".
فلا عجب حينها يوم أن يكون صلاح الأولاد أمنيةَ الآباء والأمهات, ولكن تلك الأمنية تحتاج لعمل, ولئن كان على الآباء حِمل عظيم في التربية، فلهم في ذات الوقت أجرٌ عظيم إذا قاموا بها على ما يرضي الله.
أيها الآباء: في غمرة الاهتمام بدراسة أبنائكم ليستذكر امرؤٌ أن أهم من ذلك أن تهتموا بدينهم واستقامتهم, وبصلاتهم واستصلاحهم, وذاك أمرٌ لكم وللأمة بإذن الله غنمه, فكم نحتاج لئن يكون لدى الأب همِّ تغذية الروح والقلب، مع السعي لتغذية الصورة والبدن.
أيها الأولياء: إن قدوة حسنة يراها الأبناء خير لهم من كثير من كلام تخالفه الفعال, وقد قال الشافعي لمربي أبناء الرشيد: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحَ نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تركته" [حلية الأولياء(9/147)].
فكن -أيها الولي- القدوة الماثلة الخيرة, في سائر أحولك, فتجنب زللًا، وافعل الخير ممتثلًا, وكن على حذر أن يروك في مواقعَ عنها نهيتهم.
أيها الآباء: إن من أعظم الخير الذي تقدمونه لأبنائكم: دعوة ترفعونها في لحظة إجابة ترجونها, فكم كان للدعاء دور في صلاح الأبناء، وانظر لحال أهل الصفاء من الرسل والأنبياء كيف كانوا يدعون لأولادهم, قال الله عن عبده الخليل -عليه من الله الصلاة والسلام-: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) [إبراهيم: 40].
وقال الله عن نبيه زكريا: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران: 8].
وقال ذاكرًا دعوة عباده الأخيار، والصفوة الأبرار: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].
أيها الآباء: إن العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة ينبغي أن تبنى على الاحترام والتواصل، وأن يكون رائدها الإحسان والتوجيه، وما أعظم النصح يكون من الوالدين فهما أشد الناس شفقةً على الأبناء, وفي خبر لقمان في القرآن نموذج للوصية الأبوية التي يحتاجها أبناؤنا: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ...) [لقمان: 16].
وإذا كانت النصيحة مطلوبة، فإنها لا بد أن تكون بقالب حسن، فمن السهل أن تنصح الأبناء, لكن أثر النصيحة يبقى إذا اخترت لها الوقت والأسلوب المناسبين.
أيها الآباء: لم تأت آية ولا حديث يحث الآباء على رحمة أبنائهم، فتلك فطرة جبلت عليها كل الكائنات والمخلوقات, ولكن هذه الرحمة للأبناء متى ما زادت عن حدّها انقلبت إلى ضدها، وأنت راءٍ من الآباء من لا يكلف أبناءه بالصلاة, ولا يردعهم عما يهوونه من المحرمات، وربما ترك الحبل على الغارب للأبناء والبنات، بحجة أنه يرحمهم، ولا يحتمل أن يجرحهم!
والواقع أن الرحمة الحقيقة لون آخر, فرحمة الأب بأبنائه هي التي تدعوه لئن يوقظهم للصلوات، وينأى بهم عن الموبقات، ويقفَ سدًا منيعًا أمام وقوعهم في المحرمات، فهذه الرحمة بهم, بل وأن يؤدبهم إذا قصروا في حق ربهم, وفي القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6].
وقد قيل: ومن يك حازمًا فليقس أحيانًا على من يرحمُ
أيها الولي: في وقت أمرك أولادَك بالاستذكار ذكرهم أن التحصيل لا يكون بمجرد التحصيل الذهني، بل يكون بترك المعاصي, ورب معصية حرمته علمًا أو أغلقت عليه باب فهم، وأنسته محفوظًا, وذكرهم بالاستعانة بالله وتقواه, فمن يتقي الله يجعل له مخرجًا, ومن يراقب الله يوفقه للخير.
أيها الآباء: لقد باتت البيوت اليوم تغزى من داخلها, عبر القنوات الآثمة، ومستنقعات الإعلام الآسنة، حتى تغيرت خِلالُ أبناء وأخلاقهم، وقلّ حياء بناتٍ وحشمتُهن, وتفتح الشباب من الجنسين على مشاهد تهدم ولا تبني، فتأججت الشهوات، واستثيرت الغرائز الكامنات، والوقائع شاهدات.
ماذا ستقول لربك -أيها الولي- حين تسأل عن هذا الأمور التي أقحمتها بيتك, وأنت مأزور بكل نغمة سمعت، أو مشهد آثم شوهد، أو معصية وقعت بسبب ما وضعت في بيتك, فهل نحن مستعدون لئن نحمل ذنوبًا مع ذنوبنا؟ أما إنه لا ينفعك أن تلعن هذا الجهاز بلسانك، لكنه قد قرّ في قلبك، وتبوأ مكانه في بيتك؟
في البديل من القنوات المحافظة كفاية, وأخلاق أبنائنا أهم من علمنا بالأخبار، ومتابعتنا للقنوات, وصعوبة تنظيف البيوت من هذه الشرور يستعان عليها بقول الله: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4].
والعبد موقوف عند ربه، ومسؤول عن رعيته حفظ أم ضيع, فما ذا سيقول لربه أب فتح لهم أبواب الشر, وألقاهم في قعرها, إن سؤال يوم العرض جدير أن نعد له جوابًا، وأن نقدم لنجاتنا يوم لقاء ربنا, والله المسؤول أن يهدينا، وأن يصلح ذرياتنا، وأقول ما سمعتم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أيها الآباء: إذا كانت العناية بالأبناء مطلبًا، فإنها في حقبة الاختبارات تتأكد, حيث تجمُّع الطلابِ والطالبات في مدارسهم, وتهيء الأوقات الطويلة قبل حضور الأولياء مما قد يمكن للصوص الأعراض، وطلاب الشر، أن يستغلوا فرصة غياب الرقيب, وكم تشكو مدارس الأبناء وكذا البنات من مثل هؤلاء, الذين يغررون بالأغرار, ويتحرشون بالطالبات والطلاب, وكم وقع في مثلها من بلاء في غفلةٍ من الرقيب؟ وكم وقعت من فضائح طأطأت رؤوس الرجال؟ فكن -أيها الأب- يقظًا محافظًا على أبنائك وبناتك, تأكد من وصولهم لبيوتهم.
لا تحوج أبناءك إلى أحدٍ، فربما استغل ذلك بعض ضعاف النفوس بما لا يرضي الله.
تول قدر إمكانك إيصالهم وإرجاعهم, ولا تُطل مكثهم وبقائهم في المدارس وحولها؛ فهيئات الأمر بالمعروف تسجل أكبر نسبةٍ في القضايا الأخلاقية في فترة الاختبارات, وكثير من الانحرافات كان مبدؤها في حقبة الاختبارات, والعاقل من وُعظ بغيره.
أيها الأولياء: رجال الأمن يتأذون في فترة الامتحانات من شبابٍ يجعلون ما بعدها حقبة استعراض، ووقت مضايقة للناس بسياراتهم، والعبث بها, وكم وقعت من حوادث ومصائب راح ضحيتها شبابٌ عابثون، وآخرون مشاهدون, فلنكن عونًا لأبنائنا ولأمننا في القضاء على مظاهر العبث والتفحيط، وغيرها.
وبعد -معاشر الكرام من الآباء والأبناء: فليت هذه الامتحانات الصغرى تذكرنا بالامتحان الأكبر، وهناك لا فرصة للمحاولة بعد الفشل، ولا محيص للغش والتدليس، لا واسطة ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولًا، السائل فيه هو رب العباد، والمسؤول هو كل واحد من العباد, والأسئلة عن كل ما اقترفه الإنسان في دنياه, وعن شبابه وعلمه، وعمره وماله, الجبار أمامك، والنار عن يمينك وشمالك، والخلائق من خلفك, لا تسمع حينها إلا صوت النار وهي تزفر، وإلا الرسل وهم يقولون: اللهم سلم سلم, وأنت -أيها العبد الضعيف- الذي لطالما غفلت عن تلك اللحظات, تُجلى لك أعمال نسيتها، وتذكر بأقوال غفلت عنها, فإذا تجلى الامتحان، خرجت بأحد الجوابين وإحدى النتيجتين، وأُمر لك بإحدى الدارين.
هما محلان ما للمرء غيرهما *** فانظر لنفسك ماذا أنت مختار
النجاح هناك إلى الأبد، والمستقر في جنات ونهر، ما دامت السموات والأرض، والعطاء غير مجذوذ، والنعيم لا يوصف، والسعادة لا تحد, أما الخسران فولوج في النار, النهاية إلى الهاوية حيث الزفير والشهيق والزقوم ومقامع الحديد، فماذا أعددنا -أيها الكرام- لهذا الامتحان الصعب, وهل هيأنا أنفسنا وأبناءنا لامتحان نهاية الرسوب فيه نار وقودها الناس والحجارة؟ ألا فليختر كل منا لنفسه إحدى المنـزلتين: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم