اقتباس
ومن ذلك ما يتعرض له العالم من التأثيرات الكلية لجائحة فيروس كورونا والتي أثَّرت كثيراً على عمق العلاقات العَقْدية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بما يقود لإعمال ما يعرف في القانون بالظروف الطارئة أو القوة القاهرة...
لما كانت الحياة تعتبر سلسلة من العقود والاتفاقات أهمها ما كان عهداً مع الله، ثم مع رسوله، ثم ما كان بين الخلق بإرادة منفردة أو بإرادتين فأكثر، سواء كان تبرعاً أو معاوضةً، وهي بالطبع تقتضى من الأهلية والرضا والمحل والسبب وسلامة الأحوال والأمان وغيرها مما يناسب كلا، وأي اهتزاز لذلك ينعكس عليها سلبا أو إيجابا، ويرتب أوضاعاً جديدة تتناسب كماً ومقداراً وكيفاً معها أو ضدها.
ومن ذلك ما يتعرض له العالم من التأثيرات الكلية لجائحة فيروس كورونا والتي أثَّرت كثيراً على عمق العلاقات العَقْدية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بما يقود لإعمال ما يعرف في القانون بالظروف الطارئة أو القوة القاهرة، وإلى أي مدى ينطبق كلاهما أو أحدهما على ذلك، وبالتالي نحن أمام إشكال قانوني واقتصادي حول اعتبار تلك الجائحة قوة قاهرة أم ظرفا طارئا، حيث أنه من المرجح أن يتأثر الاقتصاد العالمي بهذه الجائحة بما يقود إلى انهيارات واسعة على كبريات الدول وينعكس على الدول الأقل نمواً، وما انهيار أسعار العقود البترولية الآجلة عنا ببعيد.
كما تتأثر اقتصاديات الشركات ورجال الأعمال وسوق العمل والصناعة والإنتاج وقطاع النقل وقطاعات التمويل وغيرها بصدمات قوية في التزاماتها كافة واستيفاء حقوقها، سواءً داخلياً أم خارجياً.
وليس ببعيد أن ساحات المحاكم ستمتلئ بكم هائل من الدعاوى التي يُستند في دفعها إلى النظريتين أو إحداهما، ولربما يسعى أطراف تلك العقود لاستصدار ما يسمى بشهادات القوة القاهرة ليدافع بها عن نفسه في حال إقامة دعاوى الإخلال بالالتزامات التعاقدية التي تقع على عاتقه.
الأمر الذي يفرض علينا التعاطي مع كل جوانبه وآثاره الأخرى الممكنة والمحتملة بأنه ستصبح دعاوى "القوة القاهرة" معقدة، ومحل خلاف بين الأطراف في وطننا بين موسع لنفسه ومضيق لغيره والعكس ؛ فتتداخل الطلبات وتكثر الدفوعات مما يتطلب اجتهادًا قضائيًّا، وفكرًا قانونيًّا في تبني حلول لأفكار مماثلة، تستشف منها الوسائل المعينة لعلاج تلك الحالات التي يصبح فيها الالتزام التعاقدي مستحيل التنفيذ "القوة القاهرة" أو صعب التنفيذ "الظروف الطارئة" وبين حالات أخرى تقترب أو تبتعد من كليهما.
وغني عن البيان أن السودان كان يعرف نظرية الاستحالة تأثرا بالفقه الانجلوسكسوني والتي تم النص عليها في قانون العقود لسنة ١٩٧١ م وقانون ١٩٧٤ م، ثم تضمنها قانون المعاملات المدنية لسنة ١٩٨٤ م حيث نصت المادة ١١٧ على الآتي: "إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلا صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للمحكمة تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن ترد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك".
على أن الفكر القانوني والاجتهاد القضائي عبر العالم تبني آليتين تعتبران من وسائل حماية المدينين الذين يصبحون مهددين بالإفلاس أو على الأقل أصبحت ذممهم المالية مصابة بتصدع خطير.
هاتان الآليتان هما نظريتا "القوة القاهرة" و"الظروف الطارئة" واللتان ترميان إلى علاج الحالات التي يصبح فيها الالتزام التعاقدي مستحيل التنفيذ "القوة القاهرة" أو صعب التنفيذ "الظروف الطارئة".
وهما في الأصل تعدان تطبيقا لمبدأ أخلاقي عام قررته الشريعة الإسلامية الغراء (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:286] وذلك يعني أن المسؤولية العَقْدية قد ترفع عن صاحبها إذا ما تمسك بأحد الأسباب الأجنبية عنه والتي تمثل في جوهرها كل الظروف والوقائع المادية أو القانونية التي يمكن للمدعى عليه في دعوى المسؤولية المدنية أن يستند إليها لكي يثبت أن الضرر لا ينسب إليه ولا دخل له فيه وإنما هو نتيجة حتمية لذلك السبب، وتمثل "القوة القاهرة" أهم صور هذا السبب الأجنبي.
ومن الناحية الشرعية فقد سبق صدور قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة بإقراره نظرية الضرورة، حيث تعد الظروف الطارئة تطبيق من تطبيقات نظرية الضرورة، بغية رفع الضرر عن أحد المتعاقدين الناشئ عن تغير الظروف التي تم إبرام العقد فيها.
ولقد ساقوا عدة أدلة للقول بصحة الأخذ بنظرية الظروف الطارئة لإعادة التوازن المالي للعقد نتيجة الأزمات الاقتصادية كوسيلة من وسائل إقامة العدل الذي هو من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية في باب المعاملات.
ومن المعلوم أن الله -عز وجل- لم يحصر طرق العدل في طريقة دون غيرها، ولكن أينما يكون العدل فثم شرع الله ودينه، وضرورة رفع الضرر عن المضرور، وذلك بتعويض المتعاقد عن الضرر الذي حاق به لسبب لا دخل لإرادته فيه، وذلك تطبيقاً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار"، والقواعد الفقهية القائلة : "الضرر يزال"، "الضرورات تبيح المحظورات"، "درء المفاسد أولى من جلب المنافع" وأخيراً "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف".
وتأكيداً لما سبق فقد انتهى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في دورته الخامسة عام ١٤٠٤ ھ إلى الأخذ بتطبيق نظرية الظروف الطارئة وذلك أثناء حدوث الأزمات الاقتصادية، على سبيل المثال العقود المتراخية التنفيذ؛ كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات.
وإن تحقيق مبدأ العدالة في التعامل هو الأساس الذي نهضت عليه تلك النظريات، إضافة إلى إصلاح ما اختل من التوازن الاقتصادي للعقد في الفترة ما بين إبرامه وتنفيذه نتيجة للظروف الاستثنائية التي طرأت عليه.
وهذا الأساس كما ينطبق على العقود المستمرة والعقود المؤجلة التنفيذ ينطبق كذلك على العقود الفورية غير مؤجلة التنفيذ إذا وقع الظرف الطارئ المؤدي إلى اختلال التوازن العَقْدي، ما يتطلب منا اجتهادًا قضائياً، وفكرًا قانونيًّا في تبني حلول لأفكار مماثلة، نستشف منها من وسائل الحماية في علاج الحالات التي يصبح فيها الالتزام التعاقدي مستحيل التنفيذ "القوة القاهرة"، أو صعب التنفيذ "الظروف الطارئة" ؛ وبين حالات أخرى تشبه القوة القاهرة بظروفها الطارئة ؛ وذلك بمقاربة حكيمة، تضمن التوازن العَقْدي، وتكرس الدور الأساسي للقضاء في تحقيق الأمن القانوني والاجتماعي المنشود بعد إبرام العقد مباشرة وقبل تنفيذه.
عليه لابد من:
١- إعمال العفو والتسامح بين المتعاقدين؛ فبه تسمو النفوس ويزداد صاحبه عزاً كما دل على ذلك الخبر الصحيح.
٢- الإنظار والتساهل في طلب الوفاء من صاحب الالتزام حال عدم قيامه بالوفاء كلاً أو جزءً "مَنْ أَنْظَر مُعْسِرًا أوْ وَضَعَ لَهُ، أظلَّهُ اللَّه يَوْمَ القِيامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ"(الترمذي وصححه).
٣- اقتضاء الحقوق بميزان العدل مراعاة للأحوال وعسرها وإسقاطها على الدعاوى، وهو أمر ينهض به القضاء المستنير والذي يوازن بين الالتزامات وما يعتريها في بيئة المحاكم التي تكتسي بحلل العدل لتصبح بيئةٌ جاذبة للعمل والتنمية والإنتاج والاستثمار، ومعززة للثقة بين أطراف العقود؛ وذلك منعاً لاهتزاز مراكز المال والعمل والخدمات وخروج رؤوس الأموال الأجنبية من سوق العمل الوطني، وخوفاً من هروب أرباب العمل فيها إلى بيئاتٍ استثماريةٍ أكثر ثقةً وأماناً وعدالةً.
ومن المناسب أن نجدد أن قضاءنا لا يزال مهنياً وعادلاً ومستوعباً لتلك التغيرات وإنما يطلب المزيد منه.
٤- عدم الشطط في المطالبة بالتعويض متى ما وهنت بينة الطرف الملتزم وعدم رجحانها؛ فالجوائح ينبغي أن تستخرج عند أطراف العقد أفضل ما عندهم من المعاملة.
٥- الدور المجتمعي للحاكم وأصحاب الأموال ومنظمات المجتمع ومكوناته المتعددة في بذل الجهد الإنساني المتعاظم لمقابلة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والتي تتأثر بها فئات عديدة من المجتمع خاصة العمالة الضعيفة وصغار المهنيين ومقدمي الخدمة ومن في حكمهم.
هذه قصاصة عسى أن تفيد في بابها تيسيراً لمفاهيم قانونية وشحذاً لقيم أخلاقية يدافع بها المجتمع عن نفسه وضعفائه.. والله الموفق.
ونسأل الله أن يرفع البلاء ويحفظ الاستقرار والسلم والأمان لبلدنا وسائر بلاد المسلمين..
والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم