عناصر الخطبة
1/ مراعاة الشرع لفطرة حب الإنسان للمال 2/ فضل التجارة وحض الشرع عليها 3/ فضل التاجر الصدوق 4/ تصحيح فهم خاطئ متعلق بالتجارةاقتباس
فإن من الغرائز الكامنة في النفس، والمنطوية في ثنايا الفطرة، حبَّ المال، قال الله -تعالى-: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8]، أي: حب المال. وقال -سبحانه-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]... ولقد راعى الشارع الحكيم هذه الفطرة، فوضع التدابير التي توجهها للخير، وتدابير تقوم بالدور الوقائي؛ لئلا تنزلق في حمأة الشهوات.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الآمر بالعمل، والناهي عن الكسل، سبحانه عز وجل، قسم الرزق وقدر الأجل، له الحمد الأكمل، يحب -سبحانه- أن يسأل، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والفشل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائلُ في كتابه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
ونشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولهُ المبعوث بالهدى، والمنقذُ من الردى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن من الغرائز الكامنة في النفس، والمنطوية في ثنايا الفطرة، حبَّ المال، قال الله -تعالى-: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8]، أي: حب المال. وقال -سبحانه-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]، وقال -جل شأنه-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [الأعلى:16]، وقال -جل ذكره-: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) [القيامة:20].
ولقد راعى الشارع الحكيم هذه الفطرة، فوضع التدابير التي توجهها للخير، وتدابير تقوم بالدور الوقائي؛ لئلا تنزلق في حمأة الشهوات.
والتجارة أقوى وسيلة للحصول على المال؛ ولهذا حض الإسلام عليها، ورغب فيها، مع مراعاة ضوابطها.
بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد، ولعبد الرحمن بن عوف بالبركة.
وفسر قتادة التجارة الواردة في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [النساء:29]، بأن قال: "التجارة رزق من رزق الله، حلالٌ من حلال الله لمن طلبها صدقها وبرها". وهذا الأثر عن قتادة صحيح، وله شواهد مرفوعة منها: "تسعة أعشار الرزق في التجارة، والعشر في المواشي" رواه سعيد بن منصور وغيره مرسلاً، وله شواهد.
وقد ورد في فضل التاجر الصدوق، وأنه مع النبيين والشهداء، حديث حسن في ذلك موصولاً ومرسلاً وموقوفاً، فالمرفوع حديث ابن عمر، ولفظه: "التاجر الصدوق الأمين المسلم مع الصديقين والشهداء يوم القيامة" رواه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي. وقال عنه الذهبي: حديث جيد الإسناد، وحديث أبي سعيد الخدري، ولفظه: "التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء" رواه الدارمي والترمذي والدارقطني والحاكم وغيرهم. قال الذهبي: صحيح المعنى، ولا يلزم من المعية أن يكون في درجتهم، ومنه قوله -تعالى-: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].
عباد الله: لقد استقر في أذهان قطاع كبير من الناس، ومن أولئك بعض من طلبة العلم، مفهومُ أن التجارة تشغل عن طلب العلم والدعوة، وهذا مفهوم ضيق وخاطئ، والحقيقة خلاف ذلك إذا أخذت التجارة مأخذها الشرعي، بأن كانت وسيلة تقوية للطاعة والدعوة، وليست باباً يلج منها للدنيا، وينصرف بها عن الآخرة. عن عائشة أمِ المؤمنين -رضي الله عنها-، قالت: "كان أبو بكر أتجر قريش، حتى دخل في الإمارة"، أي: تولى الخلافة. والحديث صحيح. أي انقطع عن التجارة للتفرغ لمشاغل المسلمين، وفرض له من بيت المال. ومعنى هذا أنه كان يتاجر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ.
وهذا قد رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "لقد خرج أبو بكر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تاجراً إلى بُصرى، لم يمنع أبا بكر الضنَّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- شحُّه على نصيبه من الشخوص للتجارة، وذلك لإعجابهم بكسب التجارة -والحديث لا يزال لأم المؤمنين أم سلمة- وحبهم للتجارة، ولم يمنع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر من الشخوص في تجارته بحب صحبته، وضنه بأبي بكر، فقد كان بصحبته معجباً، لاستحسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للتجارة، وإعجابه بها". قال الهيثمي: رجال الكبير ثقات.
فهذا خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعمل بالتجارة، ولم يكن يمنعه عنها ويشغله إلا عندما تولى الخلافة.
ورؤى على علي -رضي الله عنه- إزار غليظ، فقال: "اشتريته بخمسة دراهم، من أربحني فيه درهماً بعته". ولقد ذهب الفاروق -رضي الله عنه- إلى معنى عميق في تشجيعه على التجارة، والندب إليها، إذ يقول -رضي الله عنه-: "كتب عليكم ثلاثة أسفار: الحج، والعمرة، والرجل يبتغي بماله في وجه من هذه الوجوه، فالمستغني والمتصدق -يعني أفضل- واللهِ! لأَن أموت في وجه من هذه الوجوه أبتغي بمالي من فضل الله، أحبّ إلى من أن أموت على فراشي، ولو قلت إنها شهادة، لرأيت أنها شهادة" والرواية إسنادها حسن صحيح. فانظر كيف عدَّ الفاروق الموت في وجه من وجوه التجارة المباحة شهادة؟.
ثم يمضي -رضي الله عنه- يعطي توجيهاته لمن عمل في إحدى سبل التجارة وفشل فيها قائلاً: "من اتجر في شيء ثلاث مرات، فلم يصب فيه؛ فليتحول إلى غيره"، وقال ابن عمر: إذا لم يرزق أحدكم في البلد، فليتحول إلى بلد غيره.
هذا وأسأل الله -تعالى- أن يعفو عنا ويغفر لنا ويتوب علينا، وأن يتقبل منا ولا يجعلنا من القانطين.
اللهم أغننا بفضلك عمن سواك، وبحلالك عن حرامك. اللهم صل على نبينا محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم