الافتقار

تركي بن عبدالله الميمان

2022-03-18 - 1443/08/15 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/عظم عبادة الافتقار 2/حقيقة الافتقار 3/من ثمار الافتقار 4/عظم الحاجة إلى عبادة الافتقار عند الشدائد 5/الافتقار إلى الله عز ولغيره ذل

اقتباس

الاِفْتِقَارُ إِلَى المَخْلُوْقِيْنَ ذُلٌّ في غَيرِ مَوْضِعِه؛ فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ بِيَدِ الله، لَا بِيَدِ العَبْد، وَمِفْتَاحُ الخَيْر هُوَ الدُّعَاءُ والاِفْتِقَار، فَاطْلُبْ حَاجَتَكَ مِنْ خَالِقِهَا الَّذِي لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا هُوَ،...

الخُطْبَةُ الأُولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْد: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تعالى، فَبِالتَّقْوَى: تُدْفَعُ البَلايا والنَكَبَات، وتُجْلَبُ الخَيْراتُ والبَرَكات؛ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3].

 

عِبَادَ الله: إِنَّهُ أَوْسَعُ الأَبْوَاب لِلدُّخُوْلِ عَلَى رَبِّ الأَرْبَاب، إِنَّهُ رُوْحُ الْعُبُودِيَّةِ وَسِرُّهَا؛ إِنَّهُ الاِفْتِقَارُ إِلَى الوَاحِدِ القَهَّار، قَالَ بَعْضُ الْسَّلَف: "دَخَلْتُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، فَمَا دَخَلْتُ مِنْ بَابٍ إِلَّا رَأَيْتُ عَلَيْهِ الزِّحَامَ، حَتَّى جِئْتُ بَابَ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ، فَإِذَا هُوَ أَقْرَبُ بَابٍ وَأَوْسَعُهُ، وَلَا مُزَاحِمَ فِيهِ".

 

وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ نَسَبٌ إِلَّا الْعُبُوْدِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فَاطِرٍ:15-16].

 

وَسَعَادَةُ العَبْدِ في كَمَالِ افْتِقَارِهِ إلى رَبِّه، قَالَ بَعْضُهُمْ: "إِنَّهُ تَكُونُ لِي حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَأَسْأَلَهُ إِيَّاهَا؛ فَيَفْتَحَ عَلَيَّ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ: مَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ عَنِّي قَضَاءَهَا، وَتَدُومَ لِي تِلْكَ الْحَالُ"، قَال تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)[النحل:97]، قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِيْن: "الحَيَاةُ الطَيّبَة: الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْخَلْقِ، وَالِافْتِقَارُ إِلَى الْحَقِّ".

 

وَأَحْسَنُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وأَنَّهُ لَا غِنَى لَهُ عَنْه طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ كما قالَ مُوْسَى عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص:24].

 

وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو؛ فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ"(رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني).

 

وَحَقِيْقَةُ الاِفْتِقَار: أَلَّا يَسْتَغْنِيَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ، قالَ شَيْخُ الإِسْلَام: "الخَلْقُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُوْنَ، لَكِنْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ نَوْعَ اسْتِغْنَاءٍ فَيَطْغَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالى: (كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[العلق:6-7] ".

 

وَمَنْ أَرَادَ الغِنَى والعِزَّةَ فَلْيَفْتَقِرُ إِلَى رَبِّ العِزَّة، قالَ بَعْضُ السَّلَف: "لَا عِزَّ إِلَّا فِي التَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ، وَلَا غِنًى إِلَّا فِي الِافْتِقَارِ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَمَا أَعَزَّهُ مِنْ مَقَامٍ، وَأَعْلَاهُ مِنْ مَشْهَدٍ، وَمَا أَنْفَعَهُ لِلْعَبْدِ، وَهَذَا الاِفْتِقَارُ هُوَ عَيْنُ الغِنَى بِه".

 

وَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ بِالاِفْتِقَارِ إلَيْهِ أَجَابَ دُعَاءَهُ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ افْتِقَارًا، اِزْدَادَ إلَى اللَّهِ قُرْبًا؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"(رواه مسلم).

 

قالَ العُلَمَاء: "لِأَنَّهُ مَقَامُ ذُلٍّ وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، فَيُلْقِي نَفْسَهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ، يُمَرِّغُ خَدَّهُ فِي ثَرَى أَعْتَابِهِ".

 

وَالمُؤْمِنُ يَفْتَقِرُ إِلَى رَبِّهِ؛ لأَنَّ نَجَاتَهُ بِاللَّهِ لَا بِعَمَلِهِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ"، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا أَنْتَ؟" قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ"(رواه مسلم).

 

 وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ بَابَ التَّوْبَةِ والاِنْكِسَار، واللَّجَأِ إِلَى الوَاحِدِ القَهَّار، وَأَوَّلُ مَنْ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ عَلَى وَجْهِ الِافْتِقَارِ: هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَام، حِيْنَ قَالَ: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23].

 

وَإِذَا أُغْلِقَتْ فِي وَجْهِكَ الأَبْوَاب؛ فَاقْرَعْ بَابَ الاِفْتِقَار، قالَ ابْنُ القَيِّم: "شَهِدْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ إذَا أَعْيَتْهُ الْمَسَائِلُ، وَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ: فَرَّ مِنْهَا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِاَللَّهِ، وَاسْتِنْزَالِ الصَّوَابِ مِنْ عِنْدِهِ؛ فَقَلَّمَا يَلْبَثُ الْمَدَدُ الْإِلَهِيُّ أَنْ يَتَتَابَعَ عَلَيْهِ، وَتَزْدَلِفُ الْفُتُوحَاتُ إلَيْه".

 

وَالاِفْتِقَارُ إِلَى اللهِ مَطْلُوْب؛ حَتَّى في أَدَقِّ الأُمُوْر، قال  : "لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا؛ حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

 

وَتَرْكُ الدُّعَاءِ والاِفْتِقَار سَبَبٌ لِلذِّلَّةِ والصَّغَارِ، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]؛ أَيْ صَاغِرِيْن. 

 

والإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ؛ إِظْهَارٌ لِلْاِفْتِقَارِ. وَمَنْ يُكْثِرُ قَرْعَ البَاب: يُوْشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَه، قالَ المُنَاوِي: "مِنْ أَسْبَابِ الإِجَابَةِ، بَلْ مِنْ أَعْظَمِهَا: الإِلْحَاحُ عَلِيْهِ تَعَالَى".

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

عِبَادَ الله: أَقْرَبُ الأَبْوَابِ إِلَى الله بَابُ الاِفْتِقَار، قالَ ابْنُ القَيِّم: "وَأَقْرَبُ بَابٍ دَخَلَ مِنْهُ العَبْدُ عَلَى اللهِ: هُوَ الاِفْتِقَارُ الصِّرْف، والاِفْلَاسُ المَحْض، دُخُوْلَ مَنْ كَسَرَ الفَقْرُ قَلْبَه".

 

والاِفْتِقَارُ إِلَى المَخْلُوْقِيْنَ ذُلٌّ في غَيرِ مَوْضِعِه؛ فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ بِيَدِ الله، لَا بِيَدِ العَبْد، وَمِفْتَاحُ الخَيْر هُوَ الدُّعَاءُ والاِفْتِقَار، فَاطْلُبْ حَاجَتَكَ مِنْ خَالِقِهَا الَّذِي لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا هُوَ، قالَ ابنُ رَجَب: "اِعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ اللهِ دُوْنَ خَلْقِه؛ هُوَ المُتَعيِّنُ عَقْلًا وَشَرْعًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ سُؤَالَ اللهِ عُبُوْدِيَّةٌ عَظِيْمَة؛ لِأَنَّهَا إِظْهَارٌ لِلْاِفْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَفِيْ سُؤَالِ المَخْلُوْقِ ظُلْم؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ جَلْبِ النَّفْعِ لِنَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِغَيْرِه" (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)[فاطر:2].

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا أَغْنَى خَلْقِكَ بِك، وأَفْقَرَ عِبَادِكَ إِلَيْك، وَأَغْنِنَا بِالاِفْتِقَارِ إِلَيْك، وَلَا تُفْقِرْنَا بِالاِسْتِغْنَاءِ عَنْك.

 

اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، وَاخْتِمْ بالصالحاتِ أَعْمَالَنَا.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

 

فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].

 

المرفقات

الافتقار.pdf

الافتقار.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات