الاعتبار بمرور الليالي والأيام

الشيخ أ.د عبدالله بن محمد الطيار

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ حقيقة الدنيا وزوالها 2/ خطورة التعلق بالدنيا والركون إليها 3/ قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة، وقيمة الآخرة بالنسبة للدنيا 4/ الحث على التزود من الدنيا بالعمل الصالح 5/ التعليق على القرارات الاقتصادية 6/ التحذير من الرسائل البدعية التي تنتشر في نهاية كل عام.

اقتباس

فهذه الدنيا دار التواء لا دارَ استواءِ، ومنزلُ ترحٍ لا منزلَ فرح، فمن عَرفها لم يفرح منها برخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دارَ بلوى، وجعل الآخرة دارَ عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرةِ من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي. فاحذروا يا عباد الله من التعلق بها ، فالهلكة كلُّ الهلكة في ذلك، ولا نجاة للعبد إلا بالزهد فيها والعمل من أجل الآخرة..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

 أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

 

عباد الله: جعل الله -جل وعلا- الدنيا دار َعمل وابتلاء، والآخرةَ دار مقام وجزاء، قال -جل وعلا- (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 1، 2].

 

فمن علم أن الدنيا دار عناءٍ وهمٍّ وشقاءٍ وفناءٍ، وأن الآخرةَ هي دارُ السعادةِ والهناءِ والراحةِ والخلود والبقاءِ لم تتعلق بالدنيا نفسُه، ولم ينشغل بها قلبُه، واستغلها فيما يقرِّبه إلى ربه، فأطاع مولاه -جل وعلا-، وجاهد نفسه للعمل بما يرضيه فلعله ينال الرحمة والرضوان وسكنى الجنان بجوار الرحيم الرحمن.

 

لقد عرّفنا الله -جل وعلا- على الدارين؛ دار الدنيا ودار الجزاء، وذكرهما لنا في كتابه، وأرشدنا إلى عدم التعلق بالدنيا والركون إليها، قال -جل وعلا- حاكيا عنها: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 32].

 

وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهف وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [سورة الحديد: 20].

 

يقول ابن القيم -رحمه الله-: " الدنيا كلها زينة، والمقصد الآخرة، وكلُّ من نسي المقصد تعلق بالزينة: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا)[الكهف: 7، 8]. والأنبياء والرسل وأتباعهم يشتغلون بالمقاصد، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأهل الدنيا يشتغلون بالزينات واللهو واللعب، ويغفلون عن المقصد.

 

والله أمرنا أن نأخذ من الدنيا بقدر الحاجة، ونعمل للآخرة بقدر الطاقة، وإذا تعارضت في حياتنا الزينات والأشياء مع المقصد وهو عبادة الله وحده، والدعوة إلى الله، قدَّمنا ما يحب الله وهو عبادته، وطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-". انتهى كلامه رحمه الله.

 

فهذه الدنيا دار التواء لا دارَ استواءِ، ومنزلُ ترحٍ لا منزلَ فرح، فمن عَرفها لم يفرح منها برخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دارَ بلوى، وجعل الآخرة دارَ عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرةِ من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.

 

فاحذروا يا عباد الله من التعلق بها ، فالهلكة كلُّ الهلكة في ذلك، ولا نجاة للعبد إلا بالزهد فيها والعمل من أجل الآخرة، يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر: 5 ].

 

عباد الله: لقد خلق الله -جل وعلا- الجن والإنس لغاية واحدة؛ ألا وهي عبادته وحده لا شريك له، قال -جل وعلا-:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 58]، وهذه الدنيا مكان تكميل محبوبات الله من الإيمان والأعمال الصالحة.

 

وقد جاء بيان قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة، وقيمة الآخرة بالنسبة للدنيا في كثير من آيات القرآن والسنة النبوية:

 

فقيمة الدنيا الذاتية: بيَّنها الله -جل وعلا- بقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64].

 

وقيمة الدنيا بالمساحة: بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (رواه البخاري).

 

وقيمة الدنيا بالنقد: بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال جابر -رضي الله عنه-: مرَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِجَدْيٍ أسَكَّ –أي: مقطوع الأذنين- مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأخَذَ بِأذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أيُّكُمْ يحب أنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟" فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: "أتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟" قَالُوا: وَاللهِ! لَوْ كَانَ حَيّاً كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنَّهُ أسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: "فَوَاللهِ! لَلدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ" (رواه مسلم).

 

وقيمة الدنيا بالوزن: بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ" (رواه الترمذي).

 

وقيمة الدنيا بالكيل: بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ" (رواه مسلم).

 

أما قيمة الدنيا الزمنية: فقد بينها الله -عزَّ وجلَّ- بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة: 38]. فهذه هي الدنيا عند خالقها، فما وزنها عندنا نحن كمخلوقين.

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: اعلموا أن جميع ما أُوتيه الخلق من الذهب والفضة، والطير والحيوان، والأمتعة والنساء، والبنات والبنين، والمآكل والمشارب، والجنات والقصور، وغير ذلك من ملاذ الدنيا ومتاعها، كل ذلك متاع الحياة الدنيا وزينتها، يتمتع به العبد وقتاً قصيراً، محشواً بالمنغصات، ممزوجاً بالمكدرات، ويتزين به الإنسان زماناً يسيراً للفخر والرياء، ثم يزول ذلك سريعاً، ويعقب الحسرة والندامة: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص: 60].

 

وما نراه من مرور الأيام والشهور والأعوام كأنها لحظات آيات لكل ذي لبٍّ، فليعمل كل واحد منا على ما ينفعه ويقربه إلى ربه، وينال به المقام الأعلى في دار الخلد والنعيم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 14 - 17].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فاتقوا الله -جل وعلا-، واعلموا أن ما تم من ترشيد اقتصادي هو في مصلحة الجميع، وهو أمر طبيعي يُحمد الله عليه، وليعلم الجميع أن هذه النعم التي بين أيديهم، من أمن وأمان، وسلامة وعافية، ورغد عيش هي من فضل الله -جل وعلا-؛ فيجب علينا أن نشكره عليها، وأن نبتعد عن كل ما يكون سبباً في ذهابها، فما دام الدين سالماً، والأمن وارفاً والناس في عافية فكل شيء بعد ذلك يهون.

 

 وإذا لم نتعاون مع ولاة الأمر في هذا الباب فلا خير فينا، كل واحد منا على ثغرة، فينبغي أن يحرسها، وألا يتسلل من خلالها شياطين الجن والإنس.

 

وأن نلجم كل من يتكلم في هذه الأمور بسلبية وجهل، ونوضح أن دولاً كثيرة مرت بأزمات اقتصادية فحصل عندها خلل عظيم، وما البلاد القريبة منا عنكم ببعيد، فاحمدوا الله واشكروه، واسألوه المزيد من فضله، وكونوا عوناً لولاة أمركم على تخطي هذه الأزمات، ولو تطلب الأمر أن تبذلوا من فضول أموالكم، فبلادنا عرفت بسخائها وكرمها وتماسكها وقوة بنائها وهذا يغيظ الأعداء.

 

عباد الله: احذروا من الرسائل البدعية التي تنتشر في نهاية كل عام، منها ما يدعو لختم العام بالاستغفار، أو الصيام، أو طلب الإباحة من الآخرين، وأحياناً يشار فيها إلى ختم الصحائف؛ وهذا كله لا أصل له، بل هي رسائل بدعية قابلوها بصفاء التوحيد ونقاء الفطرة، وأميتوها لئلا تنتشر، فأعداؤكم يحرصون كل الحرص على خلخلة المعتقد وتشويهه.

 

رد الله كيدهم في نحورهم وثبتنا وإياكم على المعتقد الصحيح حتى نلقاه به، وعليكم بالتمسك بهدي حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- القائل في سنته: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد" (رواه البخاري ومسلم)، وقال أيضاً: "وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" (رواه الترمذي).

 

وفقنا الله وإياكم لاتباع سنته والسير على منهجه، وجمعنا وإياكم ووالدينا ووالديهم في دار الكرامة والنعيم.

 

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].

 

 

المرفقات

بمرور الليالي والأيام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات