الاعتبار بما في حديث أهل الغار (1)

الرهواني محمد

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الغاية من قصص القرآن والسنة 2/ نص قصة أصحاب الغار 3/ استجابة الله للدعاء وتفريجه للكربات 4/ الالتجاء إلى الله وحده

اقتباس

إنها قصص وأخبار ذهبت أحداثها، ومات أصحابها، لكن بقيت آثارُها ودروسها وعبرُها، لكي يستفيد منها الناس وترشُدَهُم نحو مبادئ الدين وتعاليمه السامية‏، والغاية من ذلك هو...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أخبار السابقين، وقَصص الأولين في كتاب ربنا وأحاديث نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أهم وسائل تربية النفوس وتأديبها على الصالح من الأفعال والأقوال، أحسن القَصص ونفعها، ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنها كلّها صدق وحق لا كذبَ فيها، وموعظةٌ وذكرى لا لغوَ فيها.

 

إنها قصص وأخبار ذهبت أحداثها، ومات أصحابها، لكن بقيت آثارُها ودروسُها وعبرُها، لكي يستفيد منها الناس وترشُدَهُم نحو مبادئ الدين وتعاليمه السامية‏، والغاية من ذلك هو إيجاد الفرد الصالح والمجتمع السليم.‏

 

ومن أعجب القَصص في السنة النبوية: قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتي قصها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمته لتتعظ وتعتبر، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ، أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَأَوَوْا إلى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ، قَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ، كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ، فَرَأَوُا السَّمَاءَ. وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ مِنْهَا، فَأَبَتْ عَلَيَّ حَتَّى أَتَيْتُهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَبَغَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَفْتَحِ الخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ. فَقُمْتُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فَرْجَةً. فَفَرَجَ. وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ، قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي. فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ. فَقُلْتُ: اذْهَبْ إلى ذَلِكَ البَقَرِ وَرُعَاتِهَا، فَخُذْ. فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَسْتَهْزِئْ بِي. فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَخُذْ. فَأَخَذَهُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللَّهُ، فخرجوا يمشون" انتهى.

 

تأملوا -معاشر المؤمنين والمؤمنات- في هذه القصة العظيمة، إنها قصة ثلاثة رجال خرجوا من ديارهم لغرض من الأغراض، وبينما هم كذلك إذ نزل مطر غزير فبحثوا عن مكان يحتمون فيه من شدة المطر فلم يجدوا إلا مغارة في جبل.

 

ولشدة غزارة الأمطار انجرفت صخرة كبيرة مع السيول من أعلى الجبل فسدت عليهم باب الغار، فلم يستطيعوا تحريكَها فضلا عن دفعها وإزالتها.

 

فجلسوا وقد ضمهم الليل الدامس في تلك المغارة المظلمة المغلقة التي لا ماء فيها ولا طعام ولا ضوء، لقد انقطعت صلتهم بالعالم الخارجي، فلا مغيث ولا وسيلة من وسائل الاتصال، ولا سبيل لإيصال خبرهم إلى خارج المغارة، وحتى لو صاحوا بأعلى أصواتهم، فلن تصل أصواتهم إلى أبعد من جدران الغار الذي يحيط بهم.

 

إنه موقف حرج فلا قوتُهم ولا أنسابهم ولا أموالهم ولا شيء من أمور الدنيا الفانية أصبح يُغني عنهم شيئا.

 

وهنا كما بين لنا ربنا -سبحانه- في كثير من الآيات وكما بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كثير من الأحاديث وكثير من المواقف أن حال المؤمن إذا وقع في كرب، وضاقت عليه الدنيا وسُدت في وجهه جميع الأبواب عليه أن يعلم أن هناك بابًا لا تُعجزه النجاة، وسبيلًا لا يُعجزه الفرج، وهو باب الله وسبيله سبحانه وتعالى.

 

وإن شئتم الدليل على ذلك اقرؤوا سورة الأنبياء على سبيل المثال لا الحصر، وتأملوا كنوزها فإنكم ستجدون فيها أن الله لا يخيب دعاء من دعاه.

 

فنوح -عليه السلام- يدعو أن ينجيه الله من ظلم قومه، قال ربنا: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الأنبياء: 76].

 

تأملوا: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء: 76].

 

ويأتي من بعده أيوب -عليه السلام- بعد أن أنهكه المرض فيدعو الله أن يشفيه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 83 - 84].

 

وتأملوا: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء: 84].

 

ثم ينقلنا السياق القرآني إلى موقف أشد حرجا: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87 - 88].

 

كذلك: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء: 88].

 

ثم زكريا فقد كان دعاؤه مختلفاً، فلم يكن يعاني من مرض أو شدة أو ظلم، بل كان يريد ولداً تَقر به عينه، فدعا الله: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء: 89 - 90].

 

أيضا: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء: 90].

 

وغيرهم الكثير استجاب لهم الله ونجاهم مما هم فيه.

 

ثم ختم ربنا ذلك مبينا أن سبب الاستجابة هي قوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].

 

فسارع بالخيرات، وادع ربَّك في الرجاء والخوف، وما بين الرغبة والرهبة، وكن خاشعاً لله في دعاءك وفي جميع أحوالك، يستجيب الله لك الدعاء.

 

 

الخطبة الثانية:

 

كما بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: أن الثلاثة تشاوروا فيما بينهم، وعلموا أن المخرج الحق والطريقَ الذي يُرجى منه النجاة هو: طريق الالتجاء إلى الله وحده.

 

علموا أنه لو أُغلقت جميع الأبواب فالباب الذي بَيْنَ الله والعباد يبقى مفتوحا ولن يُغلق أبداً.

 

نعم، قد يعم اليأس ويُخيِّم القنوط لكن لا بد أن نعلم أن الله -سبحانه- من فوق سبع سموات مطلع على عباده، يكشف البلاء، ويزيل الضراء، ويسمع النداء، قال سبحانه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].

 

بل هو القريب سبحانه من عباده يجيب دعواتهم، ويرى مكانهم، ويرفع بلواهم، وهو القائل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].

 

فالله -سبحانه- لا يٌخيِّب رجاء من دعاه، ولا يُضِيع سعي من التجأ إليه، ولا يرد من وقف على بابه، هو الملاذ في الشدة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القلة، هو قوةُ المستضعفين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين من تكلم سمع كلامه، ومن سكت علم سره، لا يغيب عن علمه غائب، قال سبحانه: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61].

 

سبحانه: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [غافر: 62].

 

(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام: 102].

 

وللحديث بقية -بإذن الله-.

 

 

المرفقات

بما في حديث أهل الغار (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات