الاعتبار بالحوادث والكوارث

عبد الله بن ناصر الزاحم

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/ الابتلاءات ودلالاتها 2/ من الحكم الإلهية في الابتلاء بالآيات الكونية 3/ الهدي النبوي في مخافة الآيات والنذر 4/ المَنجَى والمَخرَج

اقتباس

فالكون كُلُّه، وما به من مخلوقات، حية وغير حية، كُلُّه مُسخَّرٌ بأمر الله -سبحانه وتعالى-، يُمسِكُ ما يشاء عمَّن يشاء، ويرسل ما يشاء إلى مَن يشاء؛ وفي ذلك آياتٌ للموقنين، ودليلٌ على قدرة الله -جل وعلا-، وضعفِ جبابرة الأرض، مهما أُوتوا من قُوَّةٍ وعلم.

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأرسل إلينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- هاديا وبشيرا ونذيرا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...

 

أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: لقد قَضَتْ سنةُ الله -عز وجل- أن تُبتَلَى النفوس في هذه الدنيا، تارة بالخير وتارة بالشر، وأناس يبتلون بالأمن وآخرون يبتلون بالخوف، وأناس تَنْصَبُّ عليهم الخيرات والمنح، وجماعات تتخطفهم الفتن والمحن، قال -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].

 

عباد الله: إن هذه الابتلاءات بأنواعها تفتحُ في قلوب المؤمنين منافِذَ للتفكر، وتهيئ في نفوسهم وقفات للتدبر، ما كانت لهم تلك الوقفات إلا بسبب تلك الحوادث.

أيها المسلمون: إن من يدقق التفكر والتدبر في الأحوال الكونية على هذه الأرض، وخاصة في السنوات القليلة الماضية، يَرَ أنها تضاعفت أعدادها عما كانت عليه في القرن الماضي، أمواج وأعاصير، وفيضانات وزلازل، وأوبئة وأمراض، يُرسِلُ الله الرياح والأعاصير فتتحرك، ويأمر الأنهار والبحار فتفيض، ويأمر الأرض فتموج وتتحرك في زلزال عنيف، أو بركان مخيف، ويسلط أمراضا تحملها حيوانات أو طيور،  ولا يملك أحدٌ من البشر ردَّهَا، مهما أوتي من قوة أو علم أو تقنية، ولا يستطيعُ السيطرة عليها، ولا الحد من انتشارها؛ إنها جنود الله في البر والبحر والجو: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].

فالكون كُلُّهُ، وما به من مخلوقات، حية وغير حية، كُلُّه مُسخَّرٌ بأمر الله -سبحانه وتعالى-، يُمسِكُ ما يشاء عمَّن يشاء، ويرسل ما يشاء إلى مَن يشاء؛ وفي ذلك آياتٌ للموقنين، ودليلٌ على قدرة الله -جل وعلا-، وضعفِ جبابرة الأرض، مهما أُوتوا من قُوَّةٍ وعلم.

 

إنها نُذُرٌ وآياتٌ، وعقوباتٌ وتخويفاتٌ، لا تدفعها القوى، ولا يقدر عليها البشر، ولا تُفيدُ فيها التقنيات، تأتي الناسَ من حيث يحتسبون، ومن حيث لا يحتسبون.

 

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النحل:45-47].

 

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) [الملك:16-18].

عباد الله: إن الله يرسل هذه الآيات والنذر لتُوقِظُ القلوب الغافلة، وليستفيق أولئك الذين غرَّهم سلطانهم، وظنوا أنهم قادرون على كل شيء بقوّتهم، ليعلم أولئك أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، فلا يغرنهم ما بلغوا من العلم، فقد أهلك الله أسلافهم وهم أكثر منهم عددا وأشد منهم قوة، قال -تعالى-: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15].

 

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [غافر:82-85].

أحبتي في الله: إن الله -عز وجل- يقول: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء:59]، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول في كسوف الشمس وخسوف القمر: "إنهما آيتان من آيات الله يُخوِّفُ الله بهما عباده". فكم رأينا من الناسِ ممن حولنا يُتخطَّفون، ويُقتّلون ويُشردون، وتصيبهم الكوارث والحوادث والأمراض، وهي من آيات الله، لكن؛ أين المعتبرون؟ إنها ذكرى لمن تذكر وتبصر، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].

واعلموا -عباد الله- أن الله -جل وعلا- قد أمّن هذه الأمة بأمرين كانا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما اليوم فالأمان لنا بشيء واحد فقط، ذلك في قول الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].

ومع هذا فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعرف في وجهه الخوف، ويُقبل ويدبر، ويدخل البيت ويخرج، إذا هبَّتْ ريح شديدة، أو رأى غيما ينعقد في السماء، فقالت له عائشة -رضي الله عنها- يوما عن ذلك، فقال: "ما يؤمِّنُني أن يكون عذابًا؟ إن قومًا رأوا ذلك فقالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف:24]"، حتى إذا نزل المطر سُرِّي عنه -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها المؤمنون: كم ولّدت لنا تلك الأحداث من المواقف العظيمة السارة، التي لا نراها إلا في مثلها.

 

أناسٌ موسرون أشغلتهم الدنيا، فينسَونَ ربهم، وينسَونَ إخوانهم، ويعيشون في غفلتهم، وفي خضم الأحداث ترى منهم مواقف عظيمة، أنواعا من الإغاثات يبذلها من وفقهم الله، من غذاء وكساءٍ، وعلاجٍ، وتعليمٍ، وإيواءٍ، وأنواعٍ من المساعدات التي يصعب حصرها، يرحمون أهل الأرض؛ ليستنزلوا بذلك رحمه رب السماء؛ لما روى أبو داود من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه- يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ".

عباد الله: إن معرفة الأسباب المادية والتفسيرات العلمية لهذه الحوادث والكوارث لا يصرفها عن أنها آياتٌ يخوِّف الله بها عباده، فهي آيات الله ومقاديره يُقدِّرُها متى شاء، ويُرسِلُها كيف شاء، ويُمسِكُها عمَّن يشاء.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإذا كان الكسوف له أجلٌ مُسمًّى لم يُنافِ ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سببًا لما يقتضيه من عذابٍ وغيره فيمن يُعذِّبُ اللهُ في ذلك الوقت، أو لغيره ممن يُنزل الله به ذلك، كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء، كما ذكره أهل التفسير وقصص الأنبياء".

وقال -رحمه الله-: "وكذلك الأوقات التي يُنزِلُ الله بها الرحمة؛ كالعشر الآخرة من رمضان، والأُوَلِ من ذي الحجة، وكجوف الليل، وغير ذلك، هي أوقاتٌ مُحدَّدة لا تتقدَّمُ ولا تتأخَّر، ويُنزِلُ فيها من الرحمة ما لا يُنزِلُهُ في غيرها" انتهى كلامه -رحمه الله-.

 
فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تكونوا ممن قسَتْ قلوبُهم، وغلُظَت أكبادُهم، وعظُمَ عن آيات الله حجابُهم، فلا يعتبِرون ولا يتذكرون، ولا تكونوا من أقوامٍ جاءتهم آياتُ ربهم، فكانوا منها يضحكون، وإذا أتتهم آية وهي أكبر من أختها، إذا هم عنها معرضون.

لقد تنوعت مشارب الناس ومسالكهم، فمنهم من زادت جرأتهم على حُرُماتِ الله فانتهكوها، وضيعوا أوامر الله وحدوده وتجاوزوها، وفرطوا في مسئولياتهم، وقصروا في عباداتهم، وأساءوا معاملاتهم، وأكلوا حقوق غيرهم...

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى.

 

عباد الله: إن عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإن الله إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضِيَ فله الرضا، ومن سَخِطَ فعليه السخط، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عجَّلَ له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده شرًّا أمسك عنه بذنبه حتى يُوافِيَ به يوم القيامة.

عباد الله: خرّج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل...، حتى يكثر فيكم المال فيفيض".

 

وقد حدث زلزال في الكوفة في زمن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فقال: "يا أيها الناس! إن ربكم يستعتِبُكم فأعتبوه".

فعليكم بكثرة الاستغفار؛ فإن الله يبعثُ النُّذُر والآيات ليرجع العباد إلى ربهم.

اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم ارفع عن الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

ثم صلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على رسول النعمة، ونبي الرحمة، فقد أمركم بذلك ربكم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...

 

 

 

 

المرفقات

بالحوادث والكوارث

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات