اقتباس
هذا إذا كانت صفوف المستمعين متصلة، أما إذا لم تكن الصفوف متصلة، ولم يكن هناك حاجة في وجود المستمع خارج المسجد، وإنما اكتفى بسماع صوت الخطيب من خلال مكبرات الصوت، فإن جلوس المستمع خارج الجامع دون رؤية الخطيب مكروه في هذه الحالة؛ لأن في هذا من مخالفة الهدي النبوي وسيرة الصحابة والأئمة-ما لا يخفى، وهب أن القدوة صحيحة، ولكن هل بهذا أمرت السنة النبوية؟ فأين لحوق الصف الأول؟ وأين التراص في الصفوف؟ وأين القرب من الخطيب؟
- وفي هذه المسألة ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الاستماع من داخل المسجد.
المسألة الثانية: الاستماع من خارج المسجد.
المسألة الثالثة: الاستماع عبر الوسائل الحديثة.
المسألة الأولى: الاستماع من داخل المسجد:
الأصل في المستمع أن يكون داخل المسجد حين استماع الخطبة، ويستحب له القرب من الخطيب بقدر الإمكان؛ حتى يرى الخطيب وهو يخطب، فتجتمع الرؤية والسماع، قال النووي -رحمه الله -: "يستحب الدنو من الإمام-بالإجماع-لتحصيل فضيلة التقدم في الصفوف واستماع الخطبة تحقيقاً".
ولم يقل أحد من أهل العلم -فيما أعلم -بوجوب رؤية المستمع للخطيب وهو يخطب، فالاستماع داخل المسجد مجزئ دون رؤية الخطيب، سواء أكان لبعد المسافة وكبر المسجد، كما لو استمع من صحن المسجد أو ساحته أو سطحه أو قبوه (التي هي من أجزائه) أم لوجود حائل من أسطوانة وجدارٍ ونحو ذلك.
ويشترط أن يصل صوت الخطيب إلى المستمع، سواء أكان عن طريق مكبر الصوت أم عن طريق التبليغ أم عن طريق مباشر من الخطيب نفسه؛ لأن وصول الخُطبة إلى المستمع، واستماعه لها واجب.
وإذا كان بين الخطيب والمستمع مكان فارغ، ويمكن للمستمع أن يتقدم ويرى الخطيب، فالاستماع صحيح مع الكراهة؛ لأن المستمع خالف السنة الواردة عن الرسول في هذا، إذ أن السنة الدنو من الخطيب والقرب منه، وإنما شرع التبكير في المجيء إلى المسجد يوم الجمعة لذلك.
ويدل على عدم اشتراط الرؤية ما يلي:
الدليل الأول: القياس على الصلاة، فإنه لا يُشترط رؤية المأموم لإمامه في أثناء الصلاة، إذا كان داخل المسجد، ويدل لذلك ما ورد عن أبي هريرة أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام، وهو تحته".
وجه الاستدلال: أن سطح المسجد داخل في المسجد ويعد منه؛ لأنه سقفه، وإذا كان فوق المسجد لزم منه عدم رؤيته للإمام، وهذا فعل صحابي، في أمر لا مجال للرأي فيه، فيكون في حكم الحديث المرفوع.
قال النووي -رحمه الله -:" ولا خلاف في هذا، ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين " المجموع (4/175). وإذا صح الاقتداء في الصلاة في هذه الحالة، فمن باب أولى صحة الاستماع في أثناء الخُطبة إذا لم يرَ المستمع الخطيب.
الدليل الثاني: أن رؤية المستمع للخطيب وهو يخطب، ليس مقصوداً في الخطبة، وإنما المقصود الاستماع والاستفادة من الوعظ وما يلقيه الخطيب، وما ليس بـمقصودٍ لا يجب.
المسألة الثانية: الاستماع من خارج المسجد:
جلوس المستمع خارج المسجد الجامع في أثناء الخطبة، واستماعه للخطبة في مكانه ذلك جائز ولا شيء فيه، ولا أعلم شيئاً يمنع من عدم صحة الخطبة أو صحة الاستماع في هذه الحالة.
ولإباحة جلوس المستمع خارج المسجد، قيدان:
القيد الأول: سماع الخطبة من ذلك الموضع الذي يجلس فيه المستمع خارج المسجد؛ لأن وصول الخُطبة إلى المستمع، واستماعه لها واجب، ولأن المقصود من الخطبة الانتفاع بما فيها من المواعظ ونحوها، وبدون السماع ووصول الصوت إلى المستمع لا يحصل هذا المقصود.
القيد الثاني: اتصال الصفوف أو رؤية بعض المستمعين داخل المسجد، بحيث لا يكون المستمع منفرداً بمكانه خارج المسجد الجامع، لأن عدم اتصال الصفوف في أثناء الخطبة، يدل على عدم الحاجة في وجود المستمع خارج المسجد، ووجوده خارجه والخطيب يخطب بدون حاجة، دليل على عدم اهتمامه بالخطبة، وقلة الحرص على استماعها مع ما ورد في فضيلة الإنصات لها.
كما أنه لابد من اتصال الصفوف إذا أقيمت الصلاة، وإذا كان المستمع خارج المسجد في أثناء الخُطبة مع وجود فراغ داخل المسجد، فقد يتعذر الاتصال والمراصة بين الصفوف عند الصلاة.
قال في المعيار المعرب: "وسئل (المراد به ابن سريج من المالكية) عن الإمام يصعد المنبر يوم الجمعة، وليس بالمسجد غير ستة رجال أو نحوها، وسائر أهل القرية برحاب المسجد ينتظرون إقامة الصلاة، وحينئذٍ يدخلون المسجد على عادة البادية، فهل تصح خطبة الإمام لأول ئك النفر اليسير أم لا؟ فأجاب: ما يفعل هؤلاء القوم جهل عظيم، يجب أن يؤمروا بالدخول للمسجد لحضور الخطبة، لكن الجمعة صحيحة إذا كانوا عند الباب".
ويدل على صحة الاستماع خارج المسجد دون رؤية الخطيب:
القياس على الصلاة ، حيث تصح صلاة المأموم خارج المسجد، إذا اتصلت الصفوف-يدل على صحة ذلك ما روته عائشة-رضي الله عنها-قالت: " كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يصلي من الليل في حجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي-صلى الله عليه وسلم-فقام أناس يصلون بصلاته حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فلم يخرج ، فلما أصبح ذكر ذلك الناس ، فقال: "إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل "-فتصح صلاة المأموم خارج المسجد-إذا اتصلت الصفوف-دون رؤية الإمام، قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله - : " صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل، فإن كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة " [مجموع الفتاوى: 23/407].
فكذلك المستمع، يجوز له الجلوس والاستماع خارج المسجد، ولو لم يرَ الخطيب، ولا شيء فيه إذا كانت صفوف المستمعين متصلة ببعض، وهذا لا أعلم فيه خلافاً بين الفقهاء، بناء على صحة صلاة المأموم خارج المسجد، مع اتصال الصفوف، ولم يدل على وجوب رؤية الخطيب في أثناء الخطبة دليل.
هذا إذا كانت صفوف المستمعين متصلة، أما إذا لم تكن الصفوف متصلة، ولم يكن هناك حاجة في وجود المستمع خارج المسجد، وإنما اكتفى بسماع صوت الخطيب من خلال مكبرات الصوت، فإن جلوس المستمع خارج الجامع دون رؤية الخطيب مكروه في هذه الحالة؛ لأن في هذا من مخالفة الهدي النبوي وسيرة الصحابة والأئمة-?-ما لا يخفى، وهب أن القدوة صحيحة، ولكن هل بهذا أمرت السنة النبوية؟ فأين لحوق الصف الأول؟ وأين التراص في الصفوف؟ وأين القرب من الخطيب؟ [القاسمي: إصلاح المساجد/ 66].
وإذا أضيف إلى ذلك عدم سماع صوت الخطيب؛ لبعده عنه وكونه خارج الجامع فإنه لا يسلم من الإثم؛ لأنه قد فرَّط بعدم دخوله المسجد مع إمكانه، ويخشى أن تكون جمعته لغو؛ لأنه إذا كان من تكلم بالأمر بالمعروف بقوله: أنصت، تلغو جمعته، مع حضوره الخطبة، فما الظن بمن تعمد ترك استماع الخطبة بالكلية.
المسألة الثالثة: الاستماع عبر الوسائل الحديثة:
المقصود بالوسائل الحديثة ما يمكن توصيل الخطبة به إلى المستمعين الذين لا يمكن لهم الاستماع إلى الخطبة بدونها، إما لكبر المسجد وبعد المستمع عن الخطيب، أو لضعف صوت الخطيب، وتشمل وسائل الإعلام الحديثة: كالراديو والتلفاز، كما تشمل أجهزة توصيل وتكبير الصوت كالسماعات والميكرفونات ونحوها.
وهي في استخدامها تنقسم قسمين:
القسم الأول: ما كان الخطيب فيه داخل المسجد الذي يوجد فيه المستمعون، والمستمعون سيصلون في ذلك المسجد مع ذلك الخطيب.
وهو ما كان المقصود منه: تكبير الصوت وتضخيمه وإيصاله لمن لا يسمعه، وهو مكبرات الصوت وأجهزة تقويته، فهذه لا بأس بها في الخطبة، بل هي مستحبة؛ لأن رفع الصوت بالخطبة مستحب، وما أدى إلى مستحب فهو مستحب أيضاً، وقد تكون لازمة في الجوامع الكبيرة، التي لا يمكن وصول صوت الخطيب فيها إلى جميع المستمعين إلا بتلك المكبرات، وقد جرى على هذا العمل في المملكة العربية السعودية، منذ وجود تلك الأجهزة، ولا تخلو المساجد منها اليوم.
القسم الثاني: ما كان الخطيب فيه خارج ذلك المسجد الذي يوجد فيه المستمعون، كأن يكون في مسجد آخر أو في مكان منعزل.
ويمكن ذلك عن طريق أجهزة المذياع والتلفاز، والاستماع خلف هذه الوسائل لا يجعل الشخص مستمعاً خلف ذلك الخطيب، بمعنى لا تندرج عليه أحكام المستمع من وجوب الإنصات وتحريم الكلام والبيع والشراء والصلاة النافلة ونحو ذلك، ولا تكون له جمعة بذلك.
قال حسنين مخلوف -رحمه الله -: "لا تصح صلاة الجمعة بدون إمام ولا خطبة، ولا يكفي في ذلك سماع الخطبة وحركات الإمام من المذياع " [مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 334].
ويدل لذلك ما يلي:
الدليل الأول: القياس على الصلاة، فإن الصلاة جماعة خلف ما ذكر ليست بصحيحة، فكذلك استماع الخطبة عبر تلك الوسائل دون رؤية الخطيب، لا يجعل الشخص مستمعاً بذلك، ولا تصح له جمعة به، قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله -: "وأما الصلاة خلف المذياع والتلفزيون فإنها لا تصح؛ لعدم الاتحاد في المكان، وللتباعد العظيم بين الإمام والمأموم؛ ولأن في ذلك عرضة لفساد الصلاة، إذ قد ينقطع التيار الكهربائي، فلا يسمع صوتاً ولا يرى شخصاً " [فتاوى ابن عثيمين: 1/370].
الدليل الثاني: أنه يُشترط في صحة الخطبة أن يكون الخطيب داخل المسجد الذي تقام فيه الجمعة، ولا تصح الخطبة إذا كان الخطيب في رحبة المسجد أو في الطرق المتصلة به، فمن باب أولى لا يصح إذا كان الخطيب يذيع خطبته من غير مكان الاجتماع.
الدليل الثالث: أن الأصل في شرعية الجمعة استقلال أهل كل مسجد بإقامتها كما كانت تقام في عهد المصطفى-صلى الله عليه وسلم-والخلفاء الراشدين، فلا بد لكل جامع من خطيب وجماعة حاضرين ومستمعين، كما جرى عليه العمل عند المسلمين [السبكي: الدين الخالص 55].
فإجازة استماع الخطبة من خلال التلفاز أو الراديو محدث في الدين، وكل أمر محدث فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه، لما جاء في حديث عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد "[أخرجه البخاري: 2697].
الدليل الرابع: أن النصوص قد جاءت بفضل التبكير إلى الجوامع، والقرب من الخطيب، وفضل الاغتسال والتطيب والسواك، والمشي إلى المسجد وكثرة الخطى إليه، وعدم التفريق بين الاثنين، أو تخطي رقاب الناس، ووجوب الاستماع والإنصات للخطيب في أثناء الخطبة، وغير ذلك مما رتب عليه الشارع رفعة الدرجات وحط الخطيئات في يوم الجمعة، وهذا ما يؤكد فعل الجمعة في جماعة المسلمين في المساجد، وأن إقامتها فيها شعيرة من شعائر الدين الظاهرة.
وبجعل الاستماع والإنصات جائزاً عبر المذياع ونحوه تفويت لذلك، وتلاعب بفرائض الدين، بل وهدم لها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم