الاستعارة وأثرها الجمالي في أداء الخطيب

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: بلاغة الخطيب

اقتباس

الخطيب البارع يأسر القلوب أسراً، ويسري بالأرواح، فسبحان من أسرى، ويسترق الضمائر فإما منّاً بعد وإما فداءً، وله على مستعمرات النفوس احتلال واستيلاء. فالخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير في العقول صوراً من براعة التعبير، ويبني في الأفئدة خياماً من جلال التصوير. هل تمل من الروضة الغنّاء إذا غنى فيها العندليب، وحل بها الحبيب، وأطفأ نسيمها اللهيب، وكذلك الخطيب النجيب، في خطبه روضات من الجمال، وبساتين من الجلال، ودواوين من الكمال.

 

 

 

لا يزال الأداء الخطابي هو العنصر الأكثر أهمية في بروز وتفوق بعض الخطباء دون غيرهم. فكلما كان الأداء قوياً جميلاً مزداناً ببارع الألفاظ وبليغ العبارات، كلما كان الخطيب مؤثراً في جمهوره، وموصلاً لرسالته وأهدافه من الخطبة. وهنا تبرز كفاءة الخطيب في كيفية استخدام اللغة العربية وأساليبها وتعبيراتها المختلفة من أجل توصيل رسالة الخطبة. ففي الأداء الخطابي الجميل، تبرز قوة المعاني والألفاظ، وقوة الحجة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، عندما يتحدث الخطيبُ بجميل الألفاظ والتشبيهات إلى إرادة سامعيه؛ لإثارة عزائمهم واستنهاض هممهم، ولجمال هذا الأُسلوب ووضوحه شأن كبير في تأثيره ووصوله إلى قرارة النفوس، ومما يزيد في تأثير هذا الأسلوب منزلة الخطيب في نفوس سامعيه وقوة عارضته، وسطوع حجته، ونبرات صوته، وحسن إلقائه، ومحكم إشارته. والتشبيه هو أولُ طريقةٍ دلتْ عليها الطبيعةُ؛ لإيضاحِ أمرٍ يجهلُه المخاطبُ، بذكر شيءٍ آخر، معروفٍ عنده؛ ليقيسه عليه، وقد نتج من هذه النظريةِ، نظريةٌ أخرى في تراكيب الكلامِ، ترى فيها ذكرَ المشبَّهِ به أو المشبَّهِ فقط. وتسمَّى هذه بالاستعارةِ التي تعتبر من أفضل الأساليب الجمالية التي تضفي الرونق والتألق والتأنق على الأداء الخطابي، وما يبتكرهُ أمراءُ الكلامِ وفرسان المنابر من أنواع ِصور الاستعارةِ البديعةِ، الّتي تأخذُ بمجامعِ الأفئدةِ، وتملكُ على القارئ والسامعِ لبَّهما وعواطفهُما هو سرُّ بلاغةِ الاستعارةِ.

 

أولاً: تعريف الاستعارة:

الاستعارةُ لغةً: بمعنى استعارَ المالَ: إذا طلبَه عاريةً.

 

واصطلاحاً: هي استعمالُ اللفظُ في غير ما وضعَ له لعلاقةِ (المشابهةِ) بين المعنَى المنقولِ عنه والمعنِى المستعملِ فيهِ، مع قرينةٍ صارفةٍ عن إرادةِ المعنَى الأصليِّ، (والاستعارةُ) ليست إلا (تشبيهاً) مختصراً، لكنها أبلغُ منهُ كقولك: رأيتُ أسداً في المدرسةِ، فأصلُ هذه الاستعارةِ (رأيتُ رجلا ًشجاعاً كالأسدِ في المدرسةِ) فحذفتَ المشبهَّ (لفظُ رجلٍ)، وحذفتَ الأداةَ (الكاف)، وحذفتَ وجهَ التشبيهِ (الشجاعةَ) وألحقتهُ بقرينةٍ (المدرسةِ)؛ لتدلَّ على أنكَ تريدُ بالأسدِ شجاعاً.

 

 وأركانُ الاستعارةِ ثلاثةٌ:

1-مستعارٌ منه (وهو المشبَّهُ بهِ).

2-ومستعارٌ لهُ (وهو المشبَّهُ).

3-ومستعارٌ (وهو اللفظُ المنقول).

 

وللاستعارةِ أجملُ وقعٍ في الخطابة؛ لأنها تمنحُ الكلامَ قوةً، وتكسوهُ حسناً ورونقاً، وفيها تثارُ الأهواءُ والإحساساتُ. وقد جاءتْ هذه التراكيبُ المشتملةُ على الاستعارة من أبلغ التراكيب، وأشدها وقعاً في نفس المخاطبِ؛ لأنه كلما كانتْ داعيةً إلى التحليقِ في سماء الخيالِ، كان وقعُها في النفسِ أشد، ومنزلتُها في البلاغة أعلَى. وما يبتكرهُ أمراءُ الكلامِ من أنواع ِصور الاستعارةِ البديعةِ، الّتي تأخذُ بمجامعِ الأفئدةِ، وتملكُ على القارئ والسامعِ لبَّهما وعواطفهُما هو سرُّ بلاغةِ الاستعارةِ.

 

فمنَ الصورِ المجملةِ الّتي عليها طابعُ الابتكار وروعةُ الجمالِ قولُ البحتري:

قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم***طارُوا إليه زرافاتٍ وَوُحْدَانا

فإنهُ قد صوَّر لك الشرَّ، بصورة ِحيوانٍ مفترسٍ مكشِّرٍ عن أنيابهِ مما يملأُ فؤادكَ رعباً، ثم صوَّر القومَ الذين يعنيهم بصورِ طيورٍ تطيرُ إلى مصادمةِ الأعداءِ طيراناً مما يستثيرُ إعجابكَ بنجدتِهم، ويدعوكَ إلى إكبارِ حميَّتِهم وشجاعتهِم.

 

ومنهم منْ يعمدُ إلى الصورة الّتي يرسمُها، فيفصل أجزاءها، ويبينُ لكلِّ جزءٍ مزيتَهُ الخاصةَ، كقول امرئ القيس في وصفِ الليلِ بالطولِ:

فَقُلْتُ له لمَّا تَمطَّى بِصُلْبِهِ***وأرْدفَ أعْجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ

 

ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي***بصُبْحٍ وما الإصْباح مِنك بأمثَلِ

 

فإنه لم يكتفِ بتمثيلِ الليلِ، بصورة شخصٍ طويلِ القامةِ، بل استوفى له جملة َأركانِ الشخصِ، فاستعارَ صُلباً يتمطَّى به، إذ كان كلُّ ذي صُلبٍ يزيدُ في طولهِ تمطيهِ، وبالغَ في ذلك بأنْ جعل له أعجازاً يردفُ بعضُها بعضاً، ثم أرادَ أن يصفَه بالثقلِ على قلبِ ساهرهِ، فاستعارَ له كلكلاً ينوءُ به أيْ يثقلُ به، ولا يخفَى عليكَ ما يتركُه هذا التفصيلُ البديعُ في قلبِ سامعهِ من الأثرِ العظيمِ، والارتياح ِالجميلِ.

 

ومنهم منْ لا يكتفي بالصورةِ التي يرسمُها، بل ينظرُ إلى ما يترتبُ على الشيءِ فيعقِّبُ تلك الصورةِ بأخرَى أشدَّ وأوقعَ، كقول أبي الطيب المتنبي:

رماني الدهرُ بالأرْزاءِ حتى *** فؤادي في غِشاء من نِبالِ

 

فصِرْتُ إذا أصابتْني سِهامٌ *** تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ

 

فإنه لم يكتفِ بتصويره ِالمصائبَ سهاماً في سرعةِ انصبابِها، وشدةِ إيلامها، ولا بالمبالغةِ في وصف كثرتِها، بأنْ جعلَ منها غشاءً محيطاً بفؤادهِ، حتى جعل ذلك الغشاءَ من المتانةِ والكثافةِ، بحيث إنَّ تلكَ النصالِ مع استمرار ِانصبابِها عليه، لا تجدُ منفذاً إلى فؤادهِ؛ لأنها تتكسرُ على النصالِ الّتي سبقتْها، فانظرْ إلى هذا التمثيل ِالرائعِ، فهلْ رأيت تصويراً أشدَّ منهُ؛ لتراكمِ المصائب والآلام؟

 

ثانياً: أقسام الاستعارة:

تنقسم الاستعارة إلى تصريحية وإلى مكنية:

أولاً: الاستعارةُ التصريحيةُ: هي ما صرح فيها بلَفظِ المشبَّه بهِ.كقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، والصراطُ: الطريقُ، فقد شبَّه الدينَ بالصراطِ بجامعِ التوصيل إلى الهدفِ في كلٍّ منهما وحذفَ المشبَّه وهو الإسلامُ وأبقى المشبَّهَ بهِ. وقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم:1]، فقد شبَّه الكفرَ بالظلماتِ والإيمانَ بالنورِ وحذفَ المشبَّه وأبقى المشبَّهَ به. وكقول المتنبي:

 

ولم أرَ قبلي مَنْ مشَى البدرُ نحوهُ***ولا رَجلاً قامتْ تعْانقُهُ الأسْدُ

 

فكلمتي البدر والأسد مشبَّهٌ به في الأصلِ، وحُذِفَ المشبَّهُ، فالبدرُ لا يمشي والأسدُ لا تعانق.

 

ثانياً: الاستعارةُ المكنيَّةُ: هي ما حُذِفَ فيها المشَبَّه بهِ ورُمِزَ لهُ بشيء مِنْ لوازمه.
كقوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24]، فقد شبَّه الذلَّ بالطائرِ، وحذف المشبَّه به ولكنْ رمزَ إليه بشيءٍ من لوازمهِ وهو الجناحُ، فلم يذكر من أركانِ التشبيه إلا الذلَّ وهو المشبَّهُ.

وكقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ"، فقد شبَّه الإسلامَ بالبيتِ، ولكن حذف المشبَّهَ به وهو البيتُ وأبقى بعضاً من لوازمهِ الجوهريةِ وهو البناءُ.

وقال الحجَّاجُ بن يوسفَ في أول خطبة بأهل الكوفة: "إني لأرَى رُؤوُساً قَدْ أيْنَعَتْ وحَانَ قِطافُها وإِنّي لَصَاحِبُهَا". فإنَّ الذي يفهَمُ منه أَن يشبِّه الرؤوسَ بالثمراتِ، فأَصلُ الكلام إِني لأرى رؤوساً كالثمراتِ قد أينعتْ، ثم حذف المشبّه به فصار إني لأرى رؤوساً قد أينعتْ، على تخيُّلِ أن الرؤوسَ قد تمثلت في صورةِ ثمار، ورُمز للمشبَّه به المحذوف بشيء من لوازمهِ وهو أينعت، ولما كان المشبَّه به في هذه الاستعارةُ محْتجباً سميت استعارةً مكنيةً.

 

ثالثاً: سر إبداع الاستعارة:

بلاغة الاستعارة آتية من ناحيتين: الأُولى تأْليف أَلفاظها، والثانيةِ ابتكار مشبَّه به بعيد عن الأَذهانِ، لا يجول إِلا في نفسِ أديبِ وهبَ الله له استعدادًا سليماً في تعرُّف وجوه الشَّبه الدقيقةِ بين الأَشياء، وأودعه قدْرةً على ربط المعاني وتوليدِ بعضها من بعض إلى مدًى بعيدٍ لا يكاد ينتهي. وسرُّ بلاغةِ الاستعارة لا يتعدى هاتين الناحيتين، فبلاغتُها من ناحية اللفظ: أنَّ تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحملك عمدًا على تخيُّل صورة جديدة تُنْسيك رَوْعَتُها ما تضمَّنه الكلام من تشبيه خفي مستور.

 

انظر إِلى قول البحتريِّ في الفتح بن خاقان أحد وزراء المتوكل العباسي:

يَسمُو بكَفٍّ، على العافينَ حانيَةٍ***تَهمي، وَطَرْفٍ إلى العَلياءِ طَمّاح

 

فترى كفّه وقد تمثَّلتْ في صورة سحابة تصُبُّ وبلها على العافين السائلين، وأنَّ هذه الصورة قد تتملك مشاعر السامع، وتذهله عما اختبأَ في الكلام من تشبيه.

 

وقوله في رثاء المتوكل وقد قُتلَ غِيلةً:

 

صَرِيعٌ تَقَاضَاهُ السّيُوفُ حُشَاشَةً***يَجُودُ بها، والمَوْتُ حُمْرٌ أظافرُهْ

فلا يستطيعُ السامع أن يبعِدَ عن خياله هذه الصورة المخيفةَ للموت، وهي صورة ُحيوانٍ مفترس ضرِّجتْ أظافره بدماءِ قتلاه.

 

لهذا كانتِ الاستعارةُ أبلغَ من التشبيه البليغ؛ لأنه –وإِنْ بني على ادعاءِ أن المشبَّه والمشبَّه به سواءٌ- فبلاغةُ الاستعارة ِمن حيثُ الابتكارُ ورَوْعَةُ الخيال، وما تحدثُه من أثر في نفوس سامعيها، مجالٌ فسيحٌ للإبداعِ، وميدانٌ لتسابق المجيدين من فُرسانِ الكلام. انظر إلى قوله عزَّ شأْنه في وصف النار: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [سورة الملك:8]، حيث ترتسم ُأمامك النارُ في صورة مخلوقِ ضَخْمٍ بطَّاشٍ مكفهرِّ الوجه عابسٍ يغلي صدرُه حقدًا وغيظاً.

ثم انظر إلى قول أبي العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة:

أتتْهُ الخِلاَفَةُ مُنْقادَةً*** إلَيْهِ تُجَرِّرُ أذْيالَها

تجد أن الخِلافة غادةٌ هيفاءُ مُدَلَّلَة ملولٌ فُتِن الناسُ بها جميعاً، وهي تأْبى عليهم وتصدُّ إِعراضاً، ولكنها تأْتي للمهدي طائعة في دلال وجمال تجرُّ أَذيالها تيهاً وخفرًا. هذه صورةٌ لا شك رائعةٌ أَبْدع أَبو العتاهية تصويرَها، وستبقى حُلوةً في الأسماع حبيبةً إِلى النفوس ما بقيَ الزمانُ.

 

الخطيب الناجح والمؤثر الذي يمتلك من الألفاظ أعذبها وأشوقها وأقربها إلى القلوب والشعور، يأسر المستمعين بكلماته التي هي واحة المتعبين وأنس السامرين، ودليل الحائرين، يربطهم بالمسجد ربط الطائر بعشه وأفراخه.

 

 الخطيب البارع يأسر القلوب أسراً، ويسري بالأرواح، فسبحان من أسرى، ويسترق الضمائر فإما منّاً بعد وإما فداءً، وله على مستعمرات النفوس احتلال واستيلاء. فالخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير في العقول صوراً من براعة التعبير، ويبني في الأفئدة خياماً من جلال التصوير. هل تمل من الروضة الغنّاء إذا غنى فيها العندليب، وحل بها الحبيب، وأطفأ نسيمها اللهيب، وكذلك الخطيب النجيب، في خطبه روضات من الجمال، وبساتين من الجلال، ودواوين من الكمال.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
kader
10-04-2018

meeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeerci

عضو نشط
بللو محمد اشولا
06-09-2020

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عضو نشط
زائر
16-01-2021

مثل ما قالته المعلمة لنا🌹🌹🌹🌹🌹

 

عضو نشط
زائر
04-12-2023

ماهو اثر الاستعارة في المعنى مع الشرح؟