الاختلاط: تحرير، وتقرير، وتعقيب، واستدراك

فتاوى الشبكة الإسلامية

2022-10-10 - 1444/03/14

اقتباس

الاختلاط: تحرير، وتقرير، وتعقيب، واستدراك

 

 

السؤال

أخي يقول إن الاختلاط ضمن ‏المنزل، أو حتى في الأسواق ضمن ‏ضوابط شرعية، ليس بمشكلة شرعا. ‏ويقول إن عمر-رضي الله عنه- عين ‏امرأة تأخذ الفلوس من الأسواق. ‏ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم ‏لم يذكر عنه أنه أعطى دروسه من ‏وراء الحجاب إلا مرتين، أو ثلاثا ‏ليس أكثر، وأن باقي دروسه كانت ‏بغير حجاب، أي هناك اختلاط.‏ ‏ ويقول في الحج أو العمرة تختلط ‏النساء بالرجال.‏ فما المانع أن يختلطوا في الأسواق، ‏والمنازل، بينما في العبادة مثل الحج ‏والعمرة يختلطون.! ‏ وأنا أعاني من مسألة الاختلاط في ‏منزلنا، حيث إن أخي وزوجته، وكل ‏العائلة يجلسون سويا، معظم الوقت ‏أنعزل في غرفتي حتى لا أعصي ‏ربي. ‏ هل من الممكن إفادتنا في ما تقدم هل ‏هناك مستند لما يقول؟ وهل ما أفعله ‏صحيح من الانعزال؛ لأنهم لا ‏يقتنعون أن الاختلاط لا يجوز؟ ‏وهل من الممكن أن تفيدونا بأدلة ‏جازمة على أن الاختلاط لا يجوز ‏شرعا؟ ‏ وجزاكم الله خيرا. ونفع الله بكم.‏

الإجابــة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 

فإن من المعلوم ما فطر الله عليه بني آدم من ميل الجنسين إلى بعضهما؛ لذا جاء الشرع بالمباعدة بين الرجال والنساء الأجانب، سدا للباب الفتنة ودرءا لها، والأدلة على ذلك  كثيرة جدا، منها قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ظِيمًا {الأحزاب:53}.

 

قال سيد قطب في تعليقه على هذه الآية: فلا يقل أحد غير ما قال الله. لا يقل أحد إن الاختلاط، وإزالة الحجب، والترخص في الحديث واللقاء، والجلوس، والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب، وترقيق المشاعر والسلوك.. إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف، المهازيل، الجهال المحجوبين. لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول: «وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» .. يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات. أمهات المؤمنين. وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ممن لا تتطاول إليهن، وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولا. ويقول خلق من خلقه قولا. فالقول لله- سبحانه- وكل قول آخر هراء، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين، أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد! والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله، وكذب المدعين غير ما يقول الله. والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول. وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه، أظهر في هذا، وأقطع من كل دليل.اهـ.

 

وقال محمد الأمين الشنقيطي: أما القرآن العظيم، فمن أدلته العظيمة التي لا ينبغي العدول عنها بحال من الأحوال أن الله أنزل فيه أدباً سماوياً، أدب به خير نساء الدنيا وهن نساء سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر فيه جميع الرجال أن لا يسألوهن متاعاً إلا من وراء حجاب، ثم بين أن الحكمة في ذلك أن تكون قلوب كل من الجنسين في غاية الطهارة من أدناس الريبة بين الجنسين. وقد تقرر في علم الأصول أن العلة تعمم معلولها، وتخصصه، والعلة في هذه الآية المتضمنة هذا الأدب السماوي الكريم، الكفيل بالصيانة، والعفاف وحفظ الكرامة والشرف، معممة لحكم الآية الكريمة في جميع نساء المسلمين إلى يوم القيامة، وإن كان لفظها خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ .اهـ.

 

ومنها : حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء». فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله؛ أفرأيت الحمو. قال: « الحمو الموت» متفق عليه.

 

قال الأمين الشنقيطي: وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهنّ ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرّم تحريمًا شديدًا بانفراده . وقال : فتأملوا قوله في دخول قريب الزوج على زوجته « الحمو الموت» لتدركوا أن اختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبيات أنه هو الموت .اهـ.

 

ومنها : حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» أخرجه مسلم.

 

قال النووي في شرحه لمسلم: وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك. اهـ.

 

فإذا كانت أشرف البقاع المساجد، وأشرف العبادات الصلاة حث الشرع على المباعدة فيها بين الجنسين فكيف بغيرها؟

 

ومن الأدلة : ما أخرجه البخاري عن الزهري، عن هند بنت الحارث، أن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيرا قبل أن يقوم» قال ابن شهاب: «فأرى -والله أعلم- أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم» .

 

قال ابن حجر في فوائد الحديث: كراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت .اهـ.

 

ومن الأدلة: حديث أبي أسيد الأنصاري، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-للنساء: استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق. قال: فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. أخرجه أبو داود، وحسنه الألباني.

 

وأما الاستدلال الذي نقلته بقولك: (‏ويقول إن عمر-رضي الله عنه-- عين ‏امرأة تأخذ الفلوس من الأسواق) فإن كان المقصود به الاستدلال بتولية عمر للشفاء على السوق، فهي قصة واهية لا تثبت، فلا يصح الاستدلال بها.

 

 قال ابن سعد في ترجمة الشفاء: ويقال إن عمر ولاها أمر السوق، ولكن ولدها ينكرون ذلك، ويغضبون منه.اهـ.

 

وقال ابن العربي في تفسيره: وقد روي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح؛ فلا تلتفتوا إليه؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث.اهـ.

 

وقوله : (إن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يذكر عنه أنه أعطى دروسه من وراء الحجاب، إلا مرتين أو ثلاثا، ليس أكثر، وأن باقي دروسه كانت بغير حجاب، أي هناك اختلاط)

 

فهذا مجرد اختلاق مخالف للأدلة الصحيحة، فقد بوب البخاري في صحيحه: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟ وذكر تحته حديث أبي سعيد الخدري قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: «ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها، إلا كان لها حجابا من النار» فقالت امرأة: واثنتين؟ فقال: «واثنتين»

 

وقد أخرج الشيخان  عن جابر بن عبد الله، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر، فصلى، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل، وأتى النساء، فذكرهن ..

 

فدل على أن النساء لم يخالطن الرجال في خطبة العيد.

 

وأما الاستدلال بالاختلاط الحاصل في الحج والعمرة، فاستدلال باطل غير صحيح، ويوضحه: أن النساء لم يكن يخالطن الرجال في الطواف في الصدر الأول، كما في صحيح البخاري عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء: إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن؟ وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري، لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: «انطلقي عنك»، وأبت، يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت، قمن حتى يدخلن، وأخرج الرجال.

 

وعن أم سلمة، أنها قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» متفق عليه.

 

  قال النووي في شرح مسلم: إنما أمرها صلى الله عليه وسلم بالطواف من وراء الناس لشيئين: أحدهما: أن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف. والثاني: أن قربها يخاف منه تأذي الناس بدابتها.اهـ.

 

وفي أخبار مكة للفاكهي عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر رضي الله عنه أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة.

 

 والاختلاط الذي يحصل في الحج أو العمرة ما كان منه للحاجة الشديدة، فهو مرخص فيه؛ لأنه عارض يسير للحاجة إليه، وليس اختلاطا دائما مقصودا، فلا يصح أن يقاس عليه الاختلاط المقصود غير اليسير، والذي لا يحتاج إليه.

 

وعلى كل حال: فالاختلاط بين الجنسين ليس له صورة واحدة حتى يحكم له بحكم واحد، بل هو صور متعددة متفاوتة، فالحكم يختلف حسب طبيعة الاختلاط ،ومدى إفضائه للفتنة، وكذلك يختلف الحكم حسب الحاجة الداعية إليه.

 

وبخصوص الاختلاط في الجلسات العائلية وضوابط جوازه؛ راجع الفتويين: 125106  150049.

 

وراجع للمزيد حول قضية الاختلاط : كتاب الاختلاط تحرير، وتقرير، وتعقيب للشيخ عبد العزيز الطريفي، وكتاب الاختلاط بين الجنسين  للدكتور عامر بهجت، ومقالة: أقيسة الاختلاطيين، للشيخ إبراهيم السكران، وكلها متوفرة على شبكة الإنترنت.

 

والله أعلم.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات