عناصر الخطبة
1/العلاقة بين الإيمان والابتلاء 2/معينات على الصبر على الابتلاءات 3/الصبر على الابتلاءات 4/صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى والابتلاءات.اقتباس
ومَن رزقه الله العِلْم والعمل والدعوة فقد تحمَّل أمرًا عظيمًا، وقام مقام الرسل في الدعوة، وقصد الحيلولة بين الناس وشهواتهم وأهوائهم واعتقاداتهم الباطلة، وحينئذ لا بد أن يؤذوه، فعليه أن يصبر ويحتسب، وأن يجعل موقفه موقف المصلح لا موقف المعاند والمنتقم...
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله المبدئ المعيد الغني الحميد، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير؛ أحمده -تعالى- على نعمه وأسأله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، الذي خلق الخلق ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فسبحانه من إله عظيم، وملك كريم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الحوض المورود والمقام المحمود، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: فلا يخفى أن الله يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان؛ فقد يبتلي الله العبد بالفقر أو المرض أو الخوف أو الإيذاء على دينه؛ ليظهر صدقه في طاعة الله وصبره واحتسابه ورضاه بقضاء الله وقدَره، وغير ذلك من الحِكَم في الابتلاء، قال -تعالى-: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[سورة آل عمران:186].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية كقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[سورة البقرة: 155-156]، أي: لا بد أن يُبتَلى المؤمن في شيءٍ من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، فيُبْتَلى على قَدْر دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ له في البلاء، وفي الصحيح: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل؛ يُبتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء".
أيها المسلمون: ومما يُروِّض النفس ويعينها على الصبر وتحمُّل الابتلاء: ما يتذكره المسلم من تكفير الخطايا ومحو الذنوب، ففي الصحيحين عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يُصيب المسلم من نَصَب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه"، وفي حديث آخر: "ما من مسلم يُصيبه أذى شوكة فما فوقها، إلا كفَّر الله بها سيئاته وحطّت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها"(متفق عليه).
أيها المسلمون: وحيث إنّ أهم شيء في حياة الفرد والجماعة الاعتناء بالدين الحنيف، فعلى المسلم أن يعتني بذلك علمًا وعملاً ودعوةً، ومَن رزقه الله العِلْم والعمل والدعوة فقد تحمَّل أمرًا عظيمًا، وقام مقام الرسل في الدعوة، وقصد الحيلولة بين الناس وشهواتهم وأهوائهم واعتقاداتهم الباطلة، وحينئذ لا بد أن يؤذوه، فعليه أن يصبر ويحتسب، وأن يجعل موقفه موقف المصلح لا موقف المعاند والمنتقم، وأن يتذكر مواقف الرسل مع أممها ونتائج دعوتهم.
فتأمل -يا عبد الله- ما ذكره الله عنهم في نسبة المستجيبين لهم والمعارضين، مع فضل الأنبياء وشرفهم، وحُسن دعوتهم، ومقامهم عند ربهم، وكذلك ما حصل لهم من الإيذاء، ولا يخفى مواقفهم في ذلك في آيات كثيرة من القرآن وفي أحاديث نبوية، منها قوله -تعالى-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[سورة القصص:56]، وقوله -تعالى-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[سورة يوسف:103]، وقوله -تعالى-: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ)[سورة ص:14]، وقوله -تعالى-: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)[سورة الذاريات:52-53].
ومِن أعظم من أُوذي في الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، حين عارَض أهواء الناس وشهواتهم، وعاداتهم السيئة، فقد آذاه جماعة من قريش، واستهزأوا به، ومنهم عمه أبو لهب، فقد كان شديدًا عليه، وعلى المسلمين، عظيم التكذيب له، دائم الأذى، فكان يطرح العذرة والنتن على باب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويُؤلِّب عليه أعداءه.
وقال الوليد بن المغيرة في شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحرًا، لأنه يفرّق بين المرء وأخيه وزوجته، ولقد اشتد الإيذاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موت عمه أبي طالب، فنثر بعضهم التراب على رأسه، وطرح بعضهم عليه رحم الشاة وهو يصلي، ولم يُثْنِ ذلك عزمه عن القيام بهذا الدين، بل كان عنده من الصبر والحزم والصلابة في دين الله ما عبر عنه بقوله لعمه: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر -حتى يظهره الله أو أهلك فيه- ما تركته"؛ هكذا كان شأنه -صلى الله عليه وسلم- مع أعدائه، وهكذا كان موقفه معهم، فما أعظمه من شأن! وما أحسنه من موقف!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم؛ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ)[سورة القلم:1-6].
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُوفِّق مَن شاء من عباده لعبادته وطاعته، ومُعينه بالصبر عليها وعلى الإيذاء فيها، فسبحانه من إله عظيم وملك كريم، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، القادر على كل شيء فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القدوة الحسنة لمن مَنَّ الله عليه بهداية، فما مِن ابتلاء إلا وقد حصل له منه شيء، المربّي أصحابه أحسن تربية وأكمل توجيه، فحين مرَّ بعمار وأبيه وأمه وهم يُعذَّبُون بالأبطح بِحَرّ الرمضاء؛ لصدّهم عن دينهم، قال لهم: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين بلغوا الذروة في الصبر في ذات الله، رغبة فيما عنده ويقينًا بوعده، وخوفًا من عذابه، وكذا من تبعهم بإحسان وسار على نهجهم، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: فإن الإيذاء على دين الله وإقامته كما يحصل من الكفار كذلك يحصل من المنافقين والفساق المنتسبين إلى الإسلام، ومن أبرز ما ظهر من ذلك الاستهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته في غزوة تبوك، حين قال أحد الغزاة ما أرى قراءَنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء.
فرُفِعَ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجاء أحدهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته، فقال يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 65- 66]، وفي حادثة الإفك وغيرها ما يدل على عظم الابتلاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغيره من الصحابة.
فاتقوا الله -عباد الله-، واصبروا على طاعة الله، وخذوا من نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته أُسوة حسنة في الصبر على الابتلاء، واختاروا لأنفسكم أعلى المنازل في الآخرة، مادام لكم هذا الاختيار، قبل أن يُغلَق الباب ويُسدَل الحجاب.
اللهم أعنَّا على طاعتك، اللهم أفرغ علينا صبرًا عند البلاء، وارزقنا نشاطًا في العمل في الرخاء، وثبِّتنا على ذلك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا، يا أرحم الراحمين.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم