الإيمان بالجن (2)

ناصر بن محمد الأحمد

2012-05-06 - 1433/06/15
التصنيفات: الإيمان
عناصر الخطبة
1/ الغاية من خلق الجن 2/ شبهة تعذيب الجن بالنار 3/ العلاقة بين الإنسان والشيطان 4/ أهداف الشيطان في إغواء الإنسان 5/ هل للشيطان قدرة على إيذاء الإنسان 6/ طرق الشيطان وأساليبه في إضلال بني آدم

اقتباس

إن العداء بين الإنسان والشيطان عداء قديم، بعيد الجذور، يعود تاريخه إلى اليوم الذي شكل الله فيه آدم قبل أن ينفخ فيه الروح، فأخذ الشيطان يطيف به، ويقول: لئن سلطت عليَّ لأعصينك، ولئن سلطت عليك لأهلكنك ..

 

 

 

إن الحمد لله..

أما بعد:

عباد الله: بدأنا في الجمعة الماضية حديثنا عن الجن وما يتعلق بهم، وذكرنا طرفاً من أوصافهم وقدراتهم التي أعطاهم إياها الله سبحانه وتعالى.

ثم تعرضنا بعد ذلك لبعض جوانب النقص والضعف عند الجن والشياطين، التي لو تعرف عليها الإنسان لاستطاع بعد توفيق الله عز وجل أن يتغلب على كثير من حيل وألاعيب الشيطان، وسوف نواصل في هذه الجمعة أيضاً الحديث عن بعض الأمور والأحوال المتعلقة بالجن.

أيها الإخوة: قد يتبادر سؤال على أذهان بعض الناس وهو السبب من وجود الجن، ولماذا خلق الله عز وجل هذا العالم الغريب وجعل منهم هذه الصفات التي لا نستطيع إدراكها ومعرفة كنهها. فنقول بأن خلق الجن هي نفس غاية خلق الإنس، يقول الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الجن: 56] فالجن على ذلك يا عباد الله مكلفون بأوامر ونواهي، فمن أطاع منهم رضي الله عنه وأدخله الجنة، ومن عصى وتمرد فله النار، ويدل على ذلك نصوص كثيرة.

ففي يوم القيامة يقول الله مخاطباً كفرة الجن والإنس : (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأنعام: 130]، والدليل على أنهم سيعذبون في النار قوله تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) [الأعراف: 38] وقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف: 179] وقال تعالى: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 119].

عباد الله: وهناك شبهة قد يوردها بعض الجهلة من الناس وهو قولهم، أنكم تقولون أن الجن خُلقوا من نار، ثم تقولون أن كافرهم يعذب في نار جهنم فكيف تؤثر النار فيهم وقد خلقوا منها؟ فنقول رداً على هذه الشبهة أن الأصل الذي خُلقوا منه النار، أما بعد خلقهم فليسوا كذلك إذ أصبحوا خلقاً مخالفاً للنار. يوضح هذا أن الإنسان خُلق من تراب، ثم بعد إيجاده أصبح مخالفاً للتراب ولو ضربت إنساناً بقطعة من الطين، ولو رميته بالتراب لآذاه، ولو دفنته فيه فإنه يختنق، فمع أنه خُلق من تراب، إلا أن التراب يؤذيه، فكذلك مع أنها خُلقت من نار، فإن النار تؤذيها.

عباد الله: إن العداء بين الإنسان والشيطان عداء قديم، بعيد الجذور، يعود تاريخه إلى اليوم الذي شكل الله فيه آدم قبل أن ينفخ فيه الروح، فأخذ الشيطان يطيف به ويقول: لئن سلطت عليَّ لأعصينك، ولئن سلطت عليك لأهلكنك. ففي صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما صور الله آدم في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خُلق خلقاً لا يتماسك"، فلما نفخ الله في آدم الروح، وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وكان إبليس يتعبد الله مع ملائكة السماء فشمله الأمر، ولكنه تعاظم في نفسه واستكبر وأبى السجود لآدم (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص: 76].

لقد فتح أبونا آدم عينيه فإذا به يجد أعظم تكريم يجد الملائكة ساجدين له، ولكنه يجد عدواً رهيباً يتهدده بالهلاك والإضلال. وطرد الله الشيطان من جنة الخلد بسبب استكباره، وحصل على وعد من الله بإبقائه حياً إلى يوم القيامة (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الأعراف: 14- 15]، وقد قطع اللعين العهد على نفسه بإضلال بني آدم والكيد لهم : (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16- 17].

وقوله هذا يصور مدى الجهد الذي يبذله لإضلال ابن آدم، فهو يأتيه من كل طريق ممكن. وقد أطال القرآن تحذيرنا من الشيطان لعظيم فتنته، ومهارته في الإضلال، ودأبه وحرصه على ذلك قال تعالى : (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]، وقال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر: 6]، وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [النساء: 119]، وعداوة الشيطان لا تحول ولا تزول، لأنه يرى أن طرده ولعنه وإخراجه من الجنة كان بسبب أبينا آدم، فلابد أن ينتقم من آدم وذريته من بعده : (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 62].

عباد الله: وللشيطان أهداف كثيرة في غواية بني آدم وفي مقدمة ذلك :"إيقاع العباد في الشرك والكفر، وذلك بدعوتهم إلى عبادة غير الله والكفر بالله وشريعته (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [الحشر: 16- 17].

ومن أهدافه أيضاً إذا لم يستطع تكفيرهم فيوقعهم في الذنوب، فإنه لا ييئس، ويرضى مما دون ذلك من إيقاعهم في الذنوب والمعاصي، وغرس العداوة والبغضاء في صفوفهم، ففي سنن الترمذي وابن ماجه، بإسناد حسن، قال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم فيرضى بها".

وفي صحيح البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام : "إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" أي بإيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وإغراء بعضهم ببعض، كما قال تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة: 119]، وهو لا يكتفي بدعوة الناس إلى الكفر والذنوب والمعاصي بل يصدهم عن فعل الخير، فلا يترك سبيلاً من سبل الخير يسلكه عبد من عباد الله إلا قعد فيه يصدهم ويميل بهم.

ففي الحديث: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال، تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك، حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قُتل، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة .. "إلى آخر الحديث.

ومصداق هذا الحديث في كتاب الله ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال لرب العزة : (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16- 17].

ومن أهداف الشيطان أيضاً يا عباد الله إفساد الطاعات. فإذا لم يستطع الشيطان أن يصدهم عن الطاعات. فإنه يجتهد في إفساد العبادة والطاعة، كي يحرمهم الأجر والثواب، فقد جاء أحد الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له :"إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلبسها عليّ ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ذلك شيطان يقال له خِنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً" قال ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني رواه مسلم في صحيحه.

فإذا دخل العبد في صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له، ويشغله عن طاعة الله، ويذكره بأمور الدنيا، ففي الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :"فإذا قضى التثويب – أي الإقامة – أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه ويقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لِما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى" وهذا حاصل وكلنا يشعر بهذا إلا من رحم ربي. والشيء الذي نخلص إليه أن الشيطان يأمر بكل شر ويحث عليه وينهى عن كل خير، ويخوف منه، كما قال تعالى : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].

عباد الله: وللشيطان أيضاً القدرة على إيذاء الإنسان الإيذاء البدني والنفسي.

فمن ذلك القدرة على أن يرى الإنسان في منامه أحلاماً تزعجه وتضايقه، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرؤى التي يراها المرء في منامه ثلاثة، رؤيا من الرحمن ورؤيا من الشيطان، ورؤيا حديث النفس وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره".

ومن إيذائه أيضاً، إحراق المنازل بالنار وذلك بواسطة بعض الحيوانات التي يغريها بذلك، ففي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "إذا نمتم فأطفئوا سرجكم، فإن الشيطان يَدُلُّ مثل هذه (الفأرة) على هذا السراج فيحرقكم". أي أن الشيطان يحرك هذه الفأرة لتعبث بالسراج فيقع ويكون بسببه حرق المنزل.

ومن إيذائه أيضاً، إيذاؤه الوليد حين يولد يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه :"كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها" وفي صحيح البخاري أيضاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :"ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها" والسبب في حماية مريم وابنها من الشيطان استجابة الله دعاء أم مريم حين ولدتها كما قال تعالى: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [مريم: 36].

ومن صور إيذاء الشيطان أيضاً لبني آدم مرض الطاعون فإنه من الجن كما جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :"الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة". ولعل ما أصاب نبي الله أيوب كان بسبب الجن قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [ص: 41].

فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظنا وإياكم من الشيطان وجنوده.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) [الإسراء: 61- 65].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله :

أما بعد: عباد الله: بعد أن تكلمنا عن أهداف الشيطان التي يحاول الوصول إليها إلى غواية الإنسان، فإنه للوصول إلى أهدافه له أساليب كثيرة، وسنحاول في هذه الخطبة بعد توفيق الله عز وجل، أن نتعرف على هذه الأساليب التي لا يأتي الشيطان إلى الإنسان ويقول له : اترك هذه الأمور الخيرة، وافعل هذه الأمور السيئة، كي تشقى في دنياك وأخراك، لأنه لو فعل ذلك فلن يطيعه أحد، ولكنه يسلك سبلاً كثيرة يغرر بها بعباد الله.

فأولى هذه السبل: تزيين الباطل فهو يظهر الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، ولا يزال الإنسان يحسن له الباطل، ويكرهه بالحق، حتى يندفع إلى فعل المنكرات ويعرض عن الحق، كما قال اللعين لرب العزة (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 39- 40].

فهذه الدعوات إلى الشيوعية والاشتراكية… يزعمون أنها هي المذهب التي تخلص البشرية من الحيرة والقلق والضياع والجوع، وهذه الدعوات التي تدعو إلى خروج المرأة كاسية عارية باسم الحرية، وتدعو إلى هذا التمثيل السخيف الذي تداس فيه الأعراض والأخلاق وتنتهك فيه الحرمات باسم الفن.

وتلك الأفكار المسمومة التي تدعو إلى إيداع المال في البنوك بالربا لتحقيق الأرباح، باسم التنمية، وتلك الدعوات التي تزعم أن التمسك بالدين رجعية وجمود وتأخر، والتي تسِمُ دعاة الإسلام بالجنون والعمالة لدول الشرق والغرب، كل ذلك امتداد لسبيل الشيطان الذي كاد به آدم منذ عهد بعيد، وهو تزيين الباطل وتحسينه وتقبيح الحق وتكريه الناس به قال تعالى : (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 63]، وهو والله سبيل خطر؛ لأن الإنسان إذا زين له الباطل حتى رآه حسناً، فإنه يندفع بكل قواه لتحقيق ما يراه حقاً، وإن كان فيه هلاكه قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103- 104]، وهؤلاء يندفعون لصد الناس عن دين الله ومحاربة أولياء الله، وهم يظنون أنفسهم على الحق والهدى كما قال تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 37] وهذا هو السبب الذي من أجله آثر الكفار الدنيا وأعرضوا عن الآخرة كما قال تعالى : (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) [فصلت: 25].

ومن سبل الشيطان أيضاً تسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة، وهذا من تغرير الشيطان بالإنسان وتزيينه الباطل أن يسمى الأمور المحرمة التي هي معصية لله بأسماء محببة للنفوس، خداعاً للإنسان وتزويراً للحقيقة، كما سمى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد، كي يزين لآدم الأكل منها كما قال تعالى: (قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120] يقول الإمام ابن القيم : ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، وسموا أخاها بلقمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية، وفي هذه الأيام يسمون الربا بالفائدة، ويسمون المسكرات بالمشروبات الروحية، وسموا الرقص والغناء والتمثيل فناً.

ومن أساليب الشيطان أيضاً، التدرج في الإضلال فهو كما عرفه الإمام ابن القيم أنه ملحاح بطيء، أي لا يزال يلح على العبد ولا يستعجل النتائج، وهو أن يسير بالإنسان خطوة خطوة، لا يكل ولا يمل، كما روضه على معصية ما، قاده إلى معصية أكبر منها حتى يوصله إلى المعصية الكبرى فيوبقه ويهلكه، وتلك سنة الله في عباده أنهم إذا زاغوا سلط عليهم الشيطان وأزاغ قلوبهم (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف: 5].

ومن أساليبه أيضاً: إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه: ومن ذلك ما فعله بآدم فما زال يوسوس له حتى أنساه ما أمره به ربه (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 115]، وقال صاحب موسى لموسى عليه السلام (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف: 63] ونهى الله رسوله أن يجلس هو أو أحد من أصحابه في المجالس التي يستهزأ فيها بآيات الله، ولكن الشيطان قد يُنسى الإنسان مراد ربه منه فيجالس هؤلاء المستهزئين قال تعالى : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 68] وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً فإنه ينسيه ربه بالكلية (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 19].

ومن أساليب الشيطان أيضاً يا عباد الله التي من خلالها يوقع الإنسان في الشر، النساء وحب الدنيا.وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم ، أنه ما ترك بعده فتنة أشد على الرجال من النساء، ولذلك أمرت المرأة بستر جسدها كله، وأمر الرجال بغض أبصارهم، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالمرأة، وأخبر أنه ما خلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.

وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه النسائي في سننه بإسناد صحيح "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان". ونحن اليوم نشاهد عظم فتنة خروج غالب النساء، كما وصفهن الرسول صلى الله عليه وسلم كاسيات عاريات، وقامت مؤسسات في الشرق والغرب، تستخدم جيوشاً من النساء والرجال، لترويج الفاحشة، بالصور المرئية، والقصة الخليعة أو الأفلام التي تحكي الفاحشة وتدعو لها. أما حب الدنيا، فهو رأس كل خطيئة، وما سفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وغصبت الأموال، وقطعت الأرحام، إلا لأجل حيازة الدنيا، والصراع على حطامها الفاني، وحرصاً على متاعها الزائل.

اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين وصلوا وسلموا على إمامكم ونبيكم كما أمركم الله بذلك في كتابه "إن الله وملائكته ..

اللهم صل …
 

 

 

 

 

المرفقات

بالجن (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات