الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته

من اختيارات الشيخ رحمه الله

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المتفرِّد بكمال الصفات، المتنزِّه عن العيوب والنقائص والآفات، خلَق السموات والأرض وما بينَهما في ستة أيام، له الملك وله الحمد، وله الخلق والأمر في جميع الأوقات، فسبحانه من إله عظيم، وملك رب رحيم، ولطيف بالعباد عليم. وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم النبيين، وسيد الموقِنين، آمَنَ فأيقَن، وعَمِلَ فأتقَن، واستمر على ذلك حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامينَ، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

أيها الإخوة في الله: الإيمان بأسماء الله وصفاته، أحد أركان الإيمان بالله -تعالى-، ومنزلتُه في الدين منزلة عالية، وأهميته عظيمة وكبيرة، فلا يمكن لأحد أن يعبد الله على الوجه الأكمل، حتى يكون على علم بأسماء الله وصفاته، ليعبد الله على بصيرة.

 

صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةٍ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" ألا وإنَّ إحصاءها أن يعرف العبد لفظها ومعناها، وأن يتعبد الله بموجبها ومقتضاها.

 

فإن معرفة أسماء الله وصفاته زيادة في الإيمان، وبصيرة في دين الله وعرفان، وتثبيت على الحق وإيقان، وعبادة لله على بصيرة وبرهان.

 

أيها الإخوة في الله: آمِنُوا بأن الله حي قيوم، حياته كاملة، لم يسبقها عدم، ولا يلحقها فَناء، كل شيء هالِك إلا وجهه، هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخِر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.

 

هو قيُّوم السموات والأرض، قام بنفسه، فلم يحتج إلى أحد مِنْ خَلْقِه، وهو الذي قامت السموات والأرض بأمره، ولم يستغنِ عنه أحدٌ من خلقه، فالعباد مضطرُّون إليه، في جميع أحوالهم وأوقاتهم، والخَلْق لا غنى لهم عن ربهم طرفةَ عين ولا أقل من ذلك.

 

آمِنُوا بأن الله هو الملك، ذو السلطان الكامل، والْمُلْك الشامل، المتصرف بخلقه كما يشاء، من غير مُمانِع ولا مُدافِع، (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)[هُودٍ: 56]، له الملك المطلق، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسأَلون، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

 

بيده ملكوت السموات والأرض، يحيي ويميت، يغني فقيرًا، ويُفقِر غنيًّا، ويرفع وضيعا، ويضع شريفًا، يبتلي عباده بالنعم ويبتليهم بالنقم، أيشكرون أم يكفرون، أيصبرون أم يجزعون؟

 

يقلِّب الله الليل والنهار، بالرخاء والشدة، والأمن والمخافَة، (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرَّحْمَنِ: 29].

 

ملكه ظاهر في السموات والأرض، وله الملك يوم التلاق، (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[غَافِرٍ: 16].

 

آمِنُوا بأن الله هو الخالق، خلق السموات والأرض، وما فيها من المصالح، وما بينَهما من المخلوقات، خلَقَها وأحسَن خلقَها، في ستة أيام، (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)[الْمُلْكِ: 3-4]، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ)[الزُّمَرِ: 6]، (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آلِ عِمْرَانَ: 6]، فسبحان الله رب العالمين، ما غاب عنا من مَشاهِد قدرته، أعظم بكثير مما نشاهده.

 

أيها الإخوة في الله: آمِنوا بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء حفيظ رقيب، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الْأَنْعَامِ: 59].

 

فجميع حركاتكم وسكناتكم، وأقوالكم وأفعالكم معلومة عند ربكم، محفوظة لكم، مسجلة عليكم، في كتاب مبين، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً)[الْكَهْفِ: 49]، آمِنوا بأن الله هو السميع البصير، يسمع كل شيء، ويرى كل شيء، ولا يخفى عليه دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، إن جهرتَ بقولك سمِعَه، وإن أسررتَ به لصاحبكَ سَمِعَه، وأبلَغُ من ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسُكَ، وإن لم تنطق به، إن فعلتَ فعلًا ظاهرًا رآكَ، وإن فعلتَ فعلًا باطنًا، ولو في جوف بيت مظلم رآكَ، وإن تحركتَ بجميع بدنك رآكَ، وإن حركتَ عضوًا من أعضائكَ رآكَ، وأبلغُ من ذلك: أنه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غَافِرٍ: 19].

 

آمِنوا بأن الله هو العزيز، (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فَاطِرٍ: 10]، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[الْمُنَافِقُونَ: 8]، فهو العزيز الذي لا يُغلَب، فما من جموع ولا أجناد، إلا وهي ذليلة أمام عزة الله.

 

ذلَّت لعزته الصعابُ، ولانت لقوتِه الشدائدُ الصلابُ؛ (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الْمُجَادَلَةِ: 21]، (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[الْمُنَافِقُونَ: 8-9].

 

آمِنوا بأن الله هو الرَّزَّاق، الذي عمَّ برزقه كلَّ شيء، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، رزَق الأجنة في بطون الأمهات، والحيات في قُعُور البحار، والسباع في مهامه القفار، والطيور في أعالي الأوكار، ورزق كلَّ حي، وهداه لتحصيل معاشه؛ فأعطى كلَّ شيء خلقَه ثم هدى، ولو توكلتُم على الله حقَّ توكله، لرزقَكم كما يرزق الطير، تغدو في الصباح خماصًا، ثم تروح في المساء بطانًا؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطَّلَاقِ: 2-3].

 

يقول أعرف الناس بربه؛ محمد -صلى الله عليه وسلم-: "إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحَّاءَ الليل والنهار، أرأيتُم ما أنفَق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يُغِضْ ما في يمينه".

 

وفي الحديث القدسي أن الله -تعالى- يقول: "يا عبادي، لو أنَّ أولَكم وآخِرَكم، وإنسَكم وجنَّكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه، ما نقص ذلك ممَّا عندي، إلا كما ينقص المخيطُ إذا أُدخِلَ البحر".

 

آمِنوا بأن الله -سبحانه وتعالى- هو المعطي المانع، فكم من سائل أعطاه سؤله، وكم من محتاج أعطاه حاجتَه، ودفع ضرورتَه، وإنه -تعالى- ليستحيي من عبده إذا رفَع يديه أن يردهما صفرًا، كم من بلاء انعقدت أسبابُه، منعه عن عباده، ودفَعَه عن خلقه، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منَع، وهو -سبحانه- الذي بيده النفع والضر، إن جاءك نفع فمن الله، وإن حصَل عليكَ ضر لم يكشفه إلا الله، ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لكَ، ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليكَ، فربُّك هو المدبِّر، المتصرِّف بخلقه كما يشاء، فَالْجَأْ إليه عند الشدائد، تجده قريبًا، وافزع إليه بالدعاء، تجده مجيبًا، وإذا عملتَ سوءًا أو أظلمَتْ نفسُكَ فاستغفِرْه، تجده غفورًا رحيمًا.

 

علِّقوا رجاءكم بالله، عند الشدائد، واسألوه ما تحبون عند المطالب، واعلموا أن قدرته وإرادته فوق الأسباب، كم من أمور حدثت، كان الناس يستبعدون حدوثَها، وكم من أمور عدمت، كان الناس يستبعدون عدمها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَعْرَافِ: 180].

 

أيها الإخوة في الله: آمِنوا بأن الله حكيم، يضع الأمور في مواضعها، فلم يخلق خلقًا عبثًا، ولم يشرع شرعًا سفهًا، لم يترك خلقَه سُدًى، لا يُؤمَرون ولا يُنهَون، ولا يثابون ولا يعاقَبون، فما أعطى الله شيئًا إلا لحكمة، وما منع شيئًا إلا لحكمة، ولا أنعم بنعمة إلا لحكمة، ولا أصاب بمصيبة إلا لحكمة، وما أمر بشيء إلا والحكمة في فعله والتزامه، ولا نهى عن شيء إلا والحكمة في تركه واجتنابه.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 

أيها الإخوة في الله: استَمِعُوا إلى قول الله -عز وجل-، وهو يقرِّر هذه الصفةَ العظيمةَ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[الْمُؤْمِنَونَ: 115-116]، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)[الْقِيَامَةِ: 36]، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص: 27-28]، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[الدُّخَانِ: 38-39].

 

فإذا آمنتُم بأن الله حكيم، فلا تعترِضوا على شرعه وخَلْقه، وتأدَّبُوا بالأدب الواجب، تجاهَ حكمة الله، فإن تبينَتْ لكم حكمتُه، فذلك فضلٌ مَنَّ اللهُ عليكم، ونعمةٌ من الله أسداها إليكم.

 

وإن لم تتبين لكم حكمتُه، فكِلُوا الأمرَ إلى العليم الحكيم، واعرفوا كمال عِلْم الله وحكمته، ونَقْص علمكم وحكمتكم، وقولوا: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا؛ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النِّسَاءِ: 65]، فاتقوا الله -عباد الله-، وتفكَّروا في أسماء الله وصفاته، واعرِفوا معناها، وتعبَّدوا الله -تعالى- بمقتضاها.

 

وصلوا وسلموا على نبيكم.