عناصر الخطبة
1/فضل الصدقة والإنفاق 2/مشروعية الوصية بثلث المال 3/الأمر بالإِنفاق والصدقة بالقليل 4/خطر مَنْع الصدقة 5/الإِنفاق من المال الطيب 6/بعض موانع قبول الصدقة 7/آفة الشح والبخل 8/الصدقة بين إخفائها وإظهارها 9/فضل الصدقة على المتعفِّفين عن السؤالاقتباس
اعلَمُوا: أنَّ إخفاءَ الصدقة أفضلُ من إظهارِها، لِما فيه من البُعْدِ عن الرياء، والسترِ على الفقير الذي يستحي من أخذ الصدقة. وإذا كان في إظهار الصدقة مصلحةٌ شرعية، بأنْ يكونَ قدوة لغيره في التصدق، أو تكون في مشروع خيري ظاهر، ف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين على فضلِه وإحسانه، خلَقَنا ورَزَقَنَا. وأمرَنا بالإِنفاقِ مما أَعطانا ليدخِّرَ ثوابَه لنا.
وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريك له، شهادةً نقولُها ونعتقدُها سرّاً وعَلَناً، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسوله ما تَرَكَ خيراً إلا بيَّنَه لنا, وحَثَّنا عليه وأمرَنا, ولا شَرّاً إلا نهانا عنه وحَذَّرنا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يُنفقون أموالَهم في سبيل الله، ويؤثرون على أنفُسِهم ولو كان بهم خصاصةٌ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- واشكروه على ما رَزَقَكُم، وأنفقوا مما آتاكم، واعَلمُوا أنَّه ليس لكم إلا ما قدمتُم لآخرتكم، قال صلى الله عليه وسلم: "أيُّكم مالُ وارثِهِ أحبُّ إليه من مالِهِ؟ قالوا: يا رسولَ الله، ما مِنَّا أحدٌ إلا مالهُ أحبُّ إليه, قال: "فإنَّ مالَه ما قدَّمَ، ومالَ وارثِه ما أَخَّرَ"[رواه البخاري].
ومعناه: أنَّ ما يُنفقُه الإِنسان من ماله في حال حياتِهِ في وجوه البر والإِحسان من صدقات، وإقامة المشاريع الخيرية, والأوقاف النافعة، وكفالة اليتامى، وإطعام الجائعين، وسدّ حاجة المحتاجين، وإعانة المعسرين.
كلّ هذا يقدّمُه أمامَهُ، ويجدُ ثوابه مدخراً عندَ الله، ومضاعفاً أضعافاً كثيرة, فهو مالُه الحقيقي الذي يبقى لديه، ويجري نفعُه عليه, وما عداه فإنَّ ملكيتَهُ له محدودةٌ بحالِ صحته، وسلامة فكره؛ لأنَّه إذا مَرِضَ مَرَضَ الموت, فإنه يُحْجَرُ عليه، فلا يتصرَّفُ فيه بصدقةٍ ولا هبةٍ, بل ولا يَصِحُّ في هذه الحالة إقراره بحقٍّ عليه لأحد.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ، فقال: يا رسول الله: أيُّ الصدقةِ أفضلُ أو أعظم أجراً؟ قال: "أنْ تَصَّدَّقَ وأنت شحيح صحيح تخشَى الفقرَ، وتأمْلُ البقاءَ، ولا تُمْهِلْ حتى إذا بَلَغَتِ الحلقومَ، قلتَ: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كانَ لفلانٍ"[رواه البخاري ومسلم وغيرهما].
ففي هذه الحال يُمنع الإِنسانُ من التصرف في ماله الذي أتعبَ جسمَه وفكره، وقضى عمره في جمعِه؛ لأنَّه على وشك زوالِ ملكه، وانتقاله إلى غيره.
وقد فَرَّطَ في حال الصحة يومَ أن كانَ ملكه عليه تامّاً، وتصرُّفُهُ فيه نافذاً, فينبغي أن يقدم منه شيئاً لنفسه يبقى له, وينعَمُ به في الدار الآخرة نعيماً مؤبَّداً.
نَعَمْ، قد رَخَّصَ الله له قبل الموت أن يُوصيَ بشيءٍ منه في وجوهِ البِرِّ بعد وفاته في حدودِ الثلث، فأقلَّ لغير وارث.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله تصدَّقَ عليكم بثُلُثِ أموالكِم عند وفاتِكم زيادة في حسناتكم، ليجعلَها لكم زيادةً في أعمالِكم".
فينبغي للمسلمِ: أن يستفيد من هذه الصدقة التي تصدَّقَ الله بها عليه فيما ينفَعُه، فيوصي بثُلُثِ ماله فأقلَّ في وجوِهِ البر والإحسان، ولا يُضيعَ ذلك فيما لا يَحلُّ له، كأن يُوصيَ به في الإِعانة على إثمٍ أو إحياء بدعة، أو يُوصي به لأحدٍ ورثته محاباة له.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الرجلَ ليعمَلُ أو المرأة بطاعةِ الله ستينَ سنةً، ثم يحضرهُما الموتُ، فيُضارَّان في الوصية، فتجبُ لهما النار" وقرأ أبو هريرة: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) [النساء:12] إلى قوله: (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء:13] [رواه أبو داود والترمذي].
فيا من أنعمَ الله عليهم بالأموال: قَدِّموا لأَنفُسِكم من أموالكم ما تشترون به منازلَ لكم في الجنة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة:111].
بعض الناس يجمَعُ المال، ويقولُ: أؤمن به مستقبلي, يعني مستقبلَه الدنيوي، وهو لا يدري هل يعيشُ مستقبلاً يتمتع فيه بهذا المال أو يموت ويتركه لغيره, لكنه لا يفكِّرُ في تأمين مستقبله الذي لا بُدَّ له منه في الدار الآخرة، بأن يقدِّمَ من ماله ما يجده مدخراً مضاعفاً أضعافاً كثيرة، وهو أحوجُ ما يكون إليه.
ثم انظروا -يا عبادَ الله- إلى كرمِ الله وفضله علينا, فإنه يشتري منكم ما تفضَّلَ به عليكم, ويأمرُكمُ بالإِنفاق مما أعطاكم، ويقترضُ منكم مما آتانا, فيقول سبحانه: (وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) [المنافقون:10].
ويقول سبحانه: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [الحديد: 18].
ويقول سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [البقرة:245].
عباد الله: ليس طلبُ التصدق خاصّاً بالأغنياء، بل إنَّ الفقيرَ مطلوب منه أن يتصدَّقَ بما يقدرُ عليه ولو كانَ قليلاً, قال صلى الله عليه وسلم: "فاتَّقُوا النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تصدَّقَ بعَدْلِ تمرةٍ من كسبٍ طيب, ولا يقبلُ الله إلا الطيبَ, فإنَّ الله يقبلُها بيمينه، ثم يربيها لصاحبِها كما يربي أحدُكم فَلْوَه, حتى يكونَ مثلَ الجبل".
وقد مَدَحَ سبحانه وتعالى الذين يُؤثرون على أنفسِهم ولو كان بهم خصاصة.
ثم إنَّ التصدقَ، سببٌ لحصول الرزق، والخلف من الله, قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].
أي: يعطي بدلَهَ وخيراً منه في الدنيا والآخرة، ويعوِّض عنه أكثر منه.
فالصدقةُ لا تُنقصُ المال, وإنما تَزيدُه, قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مالٍ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ أُقسمُ عليهن وأحدِّثُكم حديثاً فاحفظوه: ما نقصَ مالُ عبدٍ من صدقة, ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظْلَمةً فصَبَرَ عليها إلا زادَه الله عزاً, ولا فَتَحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فَتَحَ الله عليه بابَ فقرٍ" الحديث [رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"].
فلا يتصور الإِنسانُ منَّا أَنَّ ما يتصدَّقُ به من المالِ قد تَلِفَ وذَهَبَ، بل يَثِقُ ويوقن أنَّه هو الذي يبقَى له ويُضاعَفُ، وما أمسكَ بيده هو الذي يذهب.
عن أم المؤمنين عائشة -رضيَ الله عنها-: أنهم ذَبَحُوا شاةً، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما بَقِيَ منها؟" قالت: ما بَقِيَ منها إلا كتفُها، قال: "بقيَ كلُّها غيرَ كتفها" [رواه الترمذي، وقال: "حديث صحيح"].
ومعناه: أنهم لما تصدَّقُوا بها كلِّها إلا كتفَها، أخبرَ صلى الله عليه وسلم أنها بقيَتْ لهم في الآخرة إلا كتفَها الذي لم يتصدَّقُوا به، فإنه لم يبق لهم ليبيِّنَ صلى الله عليه وسلم لأمتِهِ: أنَّ الذي يتصدق به من المال هو الذي يبقى لصاحبه، وأنَّ الذي لا يُتَصَدَّقُ به هو الذي يذهَبُ ويزولُ عن صاحبه.
ومَنْعُ الصدقةِ سببٌ لتلف المال، قال صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ يوم يُصبحُ العبادُ فيه إلا ملكانِ يَنْزلانِ، فيقولُ أحدُهما: اللهُمَّ أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفَاً"[متفق عليه].
عباد الله: عليكم بالإِنفاقِ من جيِّدِ المال ،ولا تنفقوا من رديئه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة:267].
يأمر تعالى بالإِنفاق من جيدِ المال، وينهي عن الإِنفاق من رديئهِ, ويقولُ: كما أنكم لا ترضَوْنَ بالرديء لو دفعَه إليكم غيرُكم، فلا تدفعوه إلى غيرِكم, فإنه لا يرضاه, فكيفَ ترضَوْنَ للناس ما لا ترضونه لأنفسكم.
ثم أخبرَ سبحانه: أنه غني عن صدقاتِكم، وإنما أمركم بالتصدق لأنفسِكم، فلا تُقدموا لها الرديءَ، فإنه لا ينفَعُكم، كما قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
أي: لن تكونوا من أهلِ الإِحسان والتقوى، والمنازل العالية في الجنة، إلا تصدَّقْتُم بأحبَّ أموالِكم إليكم.
ولمَّا نزلت هذه الآيةُ بادَرَ الصحابةُ -رضي الله عنهم- بتقديم أنفَسِ أموالهِم وأحبِّها إليهم تقرباً إلى الله -تعالى-، فتصدَّقَ أبو طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- بحائطه الذي هو أحبُّ ماله إليه، وكانَ عند عمر جاريةٌ تعجبه، فأعتقها، وقال: إنَّ الله -عز وجل- يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
وكذلك ابنه عبدُ الله كان إذا أعجبه شيءٌ من ماله تصدَّقَ به ابتغاءَ وجهِ الله.
وقد وَصَفَ الله الأبرارَ بقوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8-9].
وكثير من الناس اليومَ لا يتصدَّقون إلا بالشيء الذي تعافُه أنفسُهم، أو يريدون أن يرموه في المزابلِ مما ذَهَبَ نفعُه، وقَلَّتِ الرغبةُ فيه، وهذا لا يفيدُهم شيئاً، كما قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
فعليكم -عبادَ الله- بالإِنفاق من الطيبات، فإنَّ الله -تعالى- طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّباً.
والطيبُ هو الحلالُ الجيد.
واحذَروا -عبادَ الله- من موانعِ قَبولِ الصدقة، التي منها: أن يتصدق الإِنسانُ وهو كارهٌ, قال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة:54].
أي: ينفقون بغيرِ انشراح صدر وطيب نفس، ورغبة في ثواب النفقة.
ومن كان كذلك، فإنه يعتبرُ النفقةَ مغرماً لا مغنماً.
ومن موانع قبول الصدقة: المنُّ بها: قال تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [البقرة: 263- 264].
أخبر سبحانه: أنَّ الصدقَة تَبْطُلُ بالمَنِّ والأذى، وهي أن يفعلَ مع من تصدَّقَ عليه مكروهاً من الأقوال والأفعال، فهذا يُحْبِطُ به ثوابَ صدقته؛ لأنَّ إثْمَ المَنِّ والأذى لا يُغطيه ثواب الصدقة.
وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المنِّ بالصدقة، منها ما في صحيح مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهُم الله يومَ القيامةِ ولا ينظر إليهم ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: المنَّانُ بما أَعْطَى، والمُسْبِلُ إزارَه، والمنفِّقُ سلعتَهُ بالحَلِفِ الكاذب".
ومن موانع قبول الصدقة: أن يقصد بها الرياء والسمعة، قال تعالى: (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) [البقرة:264].
و(رِئَاءَ النَّاسِ) مراءاتُهم.
والمرائي: هو الذي يُحِبُّ أن يَرَى الناسُ عملَه، ويريد مدحهم، وثناءهم عليه، ولا يريد ثواب الله؛ لأنه ليس في قلبه إيمانٌ، وقد شبَّهَ الله قلبه بالحجر الأملس المغطَّى بالتراب، فيظن الرائي أنه إذا أصابه المطرُ أنبتَ كما تُنبتُ الأرضُ الطيبة.
ولكن المطر يُزيلُ عنه الترابَ، ويُظهرُهُ على حقيقته حجراً لا يقبل الإِنْبَاتَ، وهكذا قلبُ المرائي الذي لا إيمانَ فيه، فأعمالُه ونفقاته باطلة لا أصلَ لها تؤسَّسُ عليه.
عباد الله: إنَّ الشحَّ والبخلَ آفتان نفسيتان يمنعان من التصدُّقِ والإِنفاق في سبيل الله, قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
وقال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:180].
وعن جابرٍ -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقُوا الظلمَ، فإنَّ الظلم ظُلُماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهلَكَ مَنْ كان قبلكم، حملَهم على أَنْ سفكوا دماءَهم واستحلُّوا محارمهم"[رواه مسلم].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنه سَمِعَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَثَلُ البخيل والمنفقِ كَمَثَلِ رجلين عليهما جُنَّتانِ من حديدٍ من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المُنفقُ، فلا يُنْفِقُ إلاَّ سَبَغَتْ، أو وفرَتْ على جلدِه حتى تُخفي بَنانَه، وتعفو أثرَه, وأما البخيلُ، فلا يريد أن يُنْفِقَ شيئاً إلا لَزِقَتْ كلُّ حلقةٍ مكانَها، فهو يوسعُها فلا تتسع" [متفق عليه].
والجُنَّةُ: الدرعُ.
ومعناه: أنَّ المنفقَ كُلَّما أنفقَ توسَّعَ درعُه، وطالَ حتى يُضفي عليه كلِّه.
والمرادُ: أنَّ الجوادَ إذا هَمَّ بالصدقةِ انفسحَ لها صدره، وطابَتْ نفسُه، وتوسَّعت في الإِنفاق, والبخيلُ إذا حدَّثها بها شَحَّت بها، فضاقَ صدرُه، وانقبضَتْ يداه.
فاتَّقُوا الله -عبادَ الله- واحذَرُوا الصفاتِ المذمومة، واتصفوا بالصفات الحميدة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) إلى قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 9-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، أغنى وأقنى، ووَعَدَ مَنْ أعطى واتَّقى، وصَدَّق بالحسنى، بأنْ يُيسره لليُسرى، وتوَّعدَ مَنْ بَخِلَ واستغنى، وكَذَّبَ بالحسنى، بأنْ يُيسرهَ للعُسرى.
وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، له الآخرة والأولى، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله المخصوص من بين الرسل بالشفاعة العظمى، صَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهَدُوا بأموالهم وأنفسهم لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
وأما بعدُ:
أيها الناس: اتَّقُوا الله، وقدِّموا لأنفسهم من أموالكم، قبلَ مماتكم وانتقالِكم، واحرِصُوا على وضعِ الصدقات في مواضعها الصحيحة من إعطائها للمحتاجين من الفقراء واليتامى والمساكين والمدينين المعسرين.
واعلَمُوا: أنَّ إخفاءَ الصدقة أفضلُ من إظهارِها، لِما فيه من البُعْدِ عن الرياء، والسترِ على الفقير الذي يستحي من أخذ الصدقة.
وإذا كان في إظهار الصدقة مصلحةٌ شرعية، بأنْ يكونَ قدوة لغيره في التصدق، أو تكون في مشروع خيري ظاهر، فلا بأسَ بذلك، قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271].
وتحرَّوْا -عبادَ الله- لصدقاتكم المحتاجين المتعفِّفين عن السؤالِ؛ لأنَّ هذا الصنفَ أفضلُ ما وُضِعَتْ فيه الصدقاتُ، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة:273].
فهم لا يستطيعون الاكتسابَ، ولا يسألون الناس تعفُّفاً، يحسبُهُم مَنْ يجهَلُ حالَهم أغنياءَ مِنْ تستُّرهم، قال صلى الله عليه وسلم: "ليسَ المسكينُ الذي يطوفُ على الناس تَرُدُّه اللقمةُ واللقمتانِ، والتمرةُ والتمرتان، ولكنَّ المسكينَ الذي لا يجدُ غنًى يُغنيه، ولا يُفْطَنُ له فيُتَصَدَّقُ عليه، ولا يقومُ فيَسأَلُ الناسَ"[متفق عليه].
والسائل له حقٌّ على المسؤولِ، فإن كان صادقاً في أنه محتاج فلا إثمَ عليه، وإن كان كاذباً فإنه آثمٌ، وما أخذَه حرامٌ وسُحْتٌ وجمرٌ من جهنم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سألَ الناس تكثُّراً -أي من غير حاجة، وإنما يسألُ ليُكَثَّرَ مالَه- فإنما يسألُ جمراً، فليستَقِلَّ أو ليَسْتَكْثِرْ"[رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المسألة كدٌّ يَكُدُّ بها الرجلُ وجهَه، إلاَّ أَنْ يسألَ الرجلُ سلطاناً أو في أمرٍ لا بُدَّ منه"[رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"].
والكدُّ: الخَدْشُ ونحوه.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزالُ المسألة بإحدِكم حتَّى يلقَى الله -تعالى- وليس في وجهِه مُزْعَةُ لَحْمٍ"[متفق عليه].
وعن أبي عبد الله الزُّبيرِ بن العوَّام -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لئنْ يأخُذَ أحدُكم حبلَه، ثُمَّ يأتي الجبلَ، فيأتي بحزمةٍ من حَطَبٍ على ظهره فيبيعها، فيكُفّ الله بها وجهَه خيرٌ له من أن يسألَ الناسَ أعطَوْه أو مَنَعُوه"[رواه البخاري].
نسأل الله أن يُغنِيَنا بحلالِه عن حرامه، وأن يكفيَنَا بفضلِهِ عمَّن سواه.
إنَّ خيرَ الحديثِ كتاب الله... إلخ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم