الإمامُ الشَّافعىُّ حياته وآراؤه وفقهُه

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

بدأ الشافعيُّ في طلب العلم بعد أن جاوز الثانية عشر من عمره، فأقبل على حفظ كتاب الله حتى أتمَّه ودخل المسجد الحرام وجلس إلى علماء مكة خاصة مسلم بن خالد الزّنجي مفتي مكة، وتخرج فيه وهو في سنِّ المراهقة، وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وتنقَّل في البادية لفترة طويلة حتى أتقن لهجات العرب وأشعارها، وساعدته مهارتُه اللُّغويَّة الفائقة في كثير من استدلالاته الفقهية..

 

 

 

 

التَّعريف به:

هو فقيه الأمة حقّاً وعَلَمُها المقدَّم، الفذُّ العبقريُّ، ناصر الحديث، أستاذ الفنون، الأصوليُّ اللغويُّ البديع، الشَّريف النَّسيب، فقيهُ الرأي والأثر، الطَّبيبُ الصَّيدلانيُّ، العالم الكبير أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السَّائب المطلبيُّ الهاشميُّ القرشيُّ، ابن عمِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ولد في غزَّة وقيل عسقلان من أرض فلسطين 150هـ، وقيل في نفس اليوم الذي مات فيه الإمام أبو حنيفة في سجن المنصور، وقد مات أبوه شاباً والإمام ما زال في المهد، فانتقلت أمُّه به إلى اليمن، لأنها كانت من الأزد أكبرِ بطون اليمن، ومكثت به في اليمن عدة سنوات، فخافت عليه ضَيعة نسبه الشريف، فتحوَّلت به إلى مكة، فنشأ بها وترعرع، وأقبل على الرَّمي حتى فاق أهل زمانه في هذا الفن، تم ألقى الله -عز وجل- في قلبه حبَّ الحديث والفقه، وذلك من إرادة الله -عز وجل- الخير له وللأمة، فأقبل على هذا الطريق ينهل منه بكلِّ سبيل.

رحلته العلميَّة:-

بدأ الشافعيُّ في طلب العلم بعد أن جاوز الثانية عشر من عمره، فأقبل على حفظ كتاب الله حتى أتمَّه ودخل المسجد الحرام وجلس إلى علماء مكة خاصة مسلم بن خالد الزّنجي مفتي مكة، وتخرج فيه وهو في سنِّ المراهقة، وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وتنقَّل في البادية لفترة طويلة حتى أتقن لهجات العرب وأشعارها، وساعدته مهارتُه اللُّغويَّة الفائقة في كثير من استدلالاته الفقهية.

بعد أن جاوز الشَّافعيُّ العشرين وأتم علوم شيوخ مكة، انتقل إلى المدينة واجتمع مع الإمام مالك وقرأ عليه الموطأ من حفظه، فانبهر الإمامُ مالك بقوة حفظه وفهمه، وطلب منه إعادة القراءة، وتفرَّس فيه النَّجابة والمستقبل العلميَّ الباهر فأوصاه بوصايا نافعة، من أهمها قوله: "إنَّ الله تعالى قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية".

 

بعد أن نهل من علوم أهل المدينة، انتقل الشَّافعيّ إلى اليمن للعمل بالقضاء، لأنه كان فقيراً ويريد أن ينفق على نفسه وأمه ورحلته في طلب العلم، فلمَّا استلم المنصب كان شُعلة نشاط، وذكاء يتوقد ذهنه بالعلم والفهم، فاشتغل بنشر العلم والفقه، فجالس العلماء والمحدثين، وعلا قدره، وظهر أمره، وتَكلم عن فضله وشأنه أهلُ اليمن، وذلك كله وهو في أوائل الثلاثينيات، وكان ذلك من أسباب محنته باليمن.

ثناء الناس عليه:-

الإمام الشَّافعيّ من أكثر علماء الأمة تقديراً وثناءً من الناس عالمهم وعامِّيِّهِم، وهو من أكثر علماء الأمة الذين أُلِّف في مناقبهم وفضائلهم المؤلفات والمصنفات، من أشهرها: "مناقب الشَّافعيّ" للبيهقيّ، و"مناقب الشَّافعيّ" للبغداديّ، و"توالي التأسيس" لابن حجر، ويكفي الإمام فضلاً وفخراً تلاميذُه النُّجباء الأفذاذ، مثل أحمد بن حنبل والبويطي والمزَنيّ والحميدي وغيرهم، وهذه طائفة من ثناء العلماء عليه:

قال الحافظ أبو نعيم: "الإمامُ الكامل، الإمامُ العامل، ذو الشَّرف المنيف، والخُلق الظريف، له السَّخاء والكرم، وهو الضِّياء في الظُّلَم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات، المنتشرُ علمُه شرقاً وغرباً، المستفيض مذهبُه براً وبحراً، المتَّبع للسنن والآثار، المقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، اقتبس عن الأئمة الأخيار، فحدث عنه الأئمةُ الأحبار، الحجازيُّ، المطَّلبيُّ، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، حاز المرتبة العالية، وفاز بالمنقبة السَّامية، إذ المناقب والمراتب، يستحقُّها من له الدِّين والحسب، وقد ظفر الشَّافعيُّ بهما جميعاً".

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلتُ لأبي: يا أبَتِ أيُّ شيءٍ كان الشافعيُّ؟ فإني سمعتك تكثر الدُّعاء له، فقال لي: يا بُني، الشَّافعيّ كالشمس للدُّنيا، وكالعافية للناس، انظر هل لهذين من خَلَف أو منهما عِوَض".

وكان الإمام أحمد من أخصِّ تلاميذ الشَّافعيّ، وأشدِّهم لصوقاً به وحباً له بالعراق، حتى إن الشَّافعيّ كان يركب حماره وأحمد يمشي بجواره يذاكره، ولما أنكر يحيى بن معين على أحمد بن حنبل في ذلك قال له: "لو كنت في الجانب الآخر من الحمار لكان خيراً لك، ولقد أخذ أحمد بيد إسحاق بن راهويه يوماً، وقال له: تعالى حتى أذهب بك إلى من لم ترَ عيناك مثله، فذهب به إلى الشَّافعيِّ".

قال أحمد عنه أيضاً: "ما أحدٌ مسَّ محبرةً ولا قلماً إلا والشَّافعي في عنقه منَّةٌ عليه، ولقد كان أفصح الناس، وما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي، وصاحبُ الحديث لا يشبع من كتب الشافعي".

قال عنه عبدُ الرحمن بن مهدي وهو شيخه: "ما أصلي صلاةً إلا وأنا أدعو للشافعي".

 

قال يونس بن عبد الأعلى: "كانت ألفاظ الشافعي مثل السُّكر، فلقد أوتي عذوبة منطق فيها وحسن بلاغة وفرط ذكاء وسيلانَ ذهنٍ وكمال فصاحة، وحضور حجة".

قال أبو ثور: "كان الشافعي من معادن الفقه ونقَّاد المعاني وجهابذة الألفاظ".

قال يحيى القطان: "ما رأيتُ أعقل ولا أفقهَ من الشافعي".

قال ابنُ عبد الحكم: "ما رأيت الشَّافعيّ يناظر أحداً إلا رَحِمْتُه، ولو رأيتَ الشَّافعيَّ يناظرك لظننت أنه سبُعٌ يأكلك".

 

منهجه الفقهي :

أصدقُ وصف لمنهج الشافعي الفقهي والعلمي أنه المنهج المتكامل، أو كما قال عنه العلماء: طبيبٌ صيدلاني، فلقد كان الناس كلُّهم قبل زمان الشَّافعي فريقين؛ أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، أمَّا أصحاب الحديث: فكانوا حافظين لأخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا إنهم كانوا عاجزين عن النَّظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحدُ أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً؛ بقوا على ما في أيديهم، عاجزين متحيِّرين، وأما أصحاب الرأي، فكانوا أصحاب الجدل والنظر، إلا أنهم كانوا فارغين من معرفة الآثار والسنن، وأما الشافعيُّ؛ فإنه كان عارفاً بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم، محيطاً بقوانينها، وكان عارفاً بآداب النظر والجدل وقوياً فيه، وكان فصيح اللسان، قادراً على قهر الخصوم، فأخذ في نصرة أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان كلُّ من أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً، أجاب عنه بأجوبة شافية كاملة، فانقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث، وتخلَّص بسببه أصحابُ الحديث من شبهات أهل الرأى، فلهذا السبب انطلقت الألسنة بمدحه ولقَّبوه بناصر الحديث.

فمدرسة الشافعيِّ الفقهية مزيج من فقه المدرستين؛ النقلية والعقلية، ومع ذلك كان أثرياً سلفياً يعتمد على الوحيين: القرآن والسنة ثم القياس والإجماع، وكان يقول: "كلُّ من كان على الكتاب والسنة هو الجِدُّ، وما سواه هو الهذيان"، ويقول: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وإذا صحَّ الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، فأيُّ سماء تظلُّني وأيُّ أرض تقلُّني إذا رويتُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً فلم أقل به"!.

وكان الشافعيُّ شديداً على أهل الأهواء والبدع، وكان كثيراً ما يقول: "لأن يلقى اللهُ العبد بكلِّ ذنب ما خلا الشرك بالله، خيرٌ من أن يلقاه بشيءٍ من الهوى"، ويقول: "حكمي في أهل الكلام؛ أن يُضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام"، وكان ينهى أصحابه عن الخوض في كلام المبتدعة، وينهى عن الصلاة خلف الرافضيِّ والمرجئيِّ والقدريِّ المعتزليِّ، وأفتى بكفر من يقول بخلق القرآن.

وهذا الاتِّباع التام للحديث والعمل بالأثر جعل الإمام الشَّافعيّ يرجع عن كثير من أقواله بعد أن دخل مصر، وسمع ما عند المصريِّين من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وصار في مذهبه قولان: القديم وهو في العراق حتى سنة 198هـ، الجديد وهو في مصر حتى حتى وفاته سنة 204 هـ، وهذا الرجوع للحديث والعمل به لا يقدم عليه إلا العلماء والعاملون المخلصون الربانيون، وكم من متفقه ومتعالم يُقدِّم رأيَ إمامه وشيخه على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يُبالي هل يخالفه أم لا، وهذا هو عين نكبة المسلمين الآن!

أثره العلميُّ :

يعتبر الإمام الشافعيُّ من أكثر علماء الأمة تأثيراً في الحياة العلمية، فالشافعيّ هو الإمام الوحيد الذي نشر مذهبه بنفسه، فلقد طاف البلاد والأقاليم، فلقد ولد بفلسطين ثم انتقل إلى اليمن وترعرع في مكة وبها تعلم وتفقه، ثم ذهب إلى المدينة وسمع من علمائها وشيوخها، ثم عمل بالقضاء في اليمن، ثم دخل العراق أيام محنته مع هارون الرشيد، ثم عاد إلى اليمن، ومنه إلى العراق مرة أخرى، ثم دخل مصر ومكث بها فترة ثم عاد إلى العراق لفترة وجيزة ثم عاد مرة أخرى إلى مصر واستقر بها حتى وفاته.

وخلال هذه الرحلات العلمية كان الشافعيُّ يصنف التصانيف ويدوِّن العلوم، ويرد على الأئمة والكبار متبعاً الأثر، فبعد صيته وتكاثر عليه الطلبة، وبورك له في تلاميذه، فلم يُعلم أحد من الأئمة له تلاميذ نجباء أفذاذ مثل الشافعي.

يعتبر الشافعي -رحمه الله- أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، وذلك في كتابه الشهير "الرسالة" وقد أجاب فيه على بعض أسئلةٍ بعث إليه بها شيخه عبد الرحمن بن مهدى، ولقد بارك الله -عز وجل- في مصنَّفات الشافعي، وتسابق العلماء على اقتنائها وتحصيلها واستخراج كنوزها، بل إن إسحاق بن راهوية تزوج أرملة رجل بمرو كانت عنده كتب الشافعي، لم يتزوجها إلا للكتب، ولقد ذكر البيهقيُّ مصنفات الشافعي في الأصول والفروع فعدَّها زيادة على مائة وأربعين كتاباً، من أشهرها كتاب "الأم" وقد جُمع بعد وفاة الشافعيّ بواسطة بعض تلاميذه، وهو عبارة عن آراء الشافعيِّ وأقواله، وله كتاب "المسند" واختلاف الحديث، والعقيدة، وأصول الدين، وغيرها كثير، وكان الإمام أحمد يقول: "صاحبُ حديثٍ لا يشبع من كتب الشافعيِّ"، وقال الجاحظ الأديب: "نظرت في كتب هؤلاء النَّبَغَة الَّذين نبغوا في العلم، فلم أرَ أحسن تأليفاً من المطَّلبيِّ، كأنَّ لسانه ينظم الدرر"، وقال العلا ًّمة أحمد شاكر: "كُتب الشافعي كلها مُثل رائعة من الأدب العربي النقي في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجية وعلى فطرته ولا يتكلف ولا يتصنع، أفصح نثر تقرؤه بعد القرآن والحديث، ولايساميه قائل، ولا يدانيه كاتب".

قال تلميذه الإمام المزني: "قرأت كتاب الرسالة للشافعي؛ خمسمائة مرة، ما من مرة منها، إلا واستفدت منها فائدة جديدة، لم أستفدها في الأخرى".

أخلاقه وعبادته :

الإمام الشَّافعيّ جمع بين النسب الشريف وعراقة المحتد وسعة العلم وعلو القدر، فلا عجب أن تكون أخلاقه وخصاله وعبادته في نفس المستوى، فالشافعي -رحمه الله- كان من رجالات الكمال وأئمة الرجال.

وعلى الرغم من انشغال الشافعي الكبير بالعلم الشرعي والدرس والبحث وإيثاره لطلب العلم على صلاة التطوع والنَّوافل وكلماته المؤثرة في ذلك؛ مثل "قراءة الحديث خير من صلاة التطوع"، "طلبُ العلم خير من صلاة النافلة"، على الرغم من ذلك إلا أنه كان عابداً ربانياً زاهداً مقبلاً على شأنه، قال عنه تلميذه الحسين الكرابيسي: "بتُّ مع الشافعى ثمانين ليلة، فكان يصلي نحو ثلث الليل، وما رأيته يزيد عن خمسين آية، فإذا أكثر فعن مئة، وكان لا يمرُّ بآية رحمةٍ إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمرُّ بآية عذابٍ إلا تعوَّذ بالله منها، وسأل النجاةَ لنفسه ولجميع المؤمنين، فكأنّما جمع له الرَّجاء والرُّهبة معاً".

وقال عنه راويته الربيع بن سليمان: "كان الشافعيُّ قد جزَّأ الليل: فثُّلثه الأول يكتب، والثاني يصلِّي، والثالث ينام، وكان لا تمرُّ عليه آية عذاب أو حديثٌ فيه ترهيب إلا خرَّ مغشياً عليه، وكان قارئاً مُجيداً أخذ القراءات عن أكبر علماء مكة في وقته "إسماعيل بن قسطنطين"، وعن بحر بن نصر، قال: "كنَّا إذا أردنا أن نبكي؛ قلنا بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطَّلبيِّ نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن، حتى تتساقطَ الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته، فإذا رأى ذلك أمسكَ عن القراءة".

أما عن زهده فكان على شاكلة إخوانه من علماء الأمة الربانيِّين في الزهد والورع، تمرَّس عليه حتى صار له سجيَّة وطبعاً، فعن يونس بن عبد الأعلى، قال لي الشَّافعيُّ: "يا أبا موسى، آنَست بالفقر؛ حتى صرت لا أستوحش منه" وقال لتلميذه الربيع بن سليمان: "يا ربيع، عليك بالزُّهدِ، فالزهد على الزاهد، أحسنُ من الحُلي على المرأة الناهد".

قال عنه أحد معاصريه وهو عمر بن نباتة: "والله، ما رأيت رجلاً قطُّ، أورع، ولا أخشع، ولا أفصح، ولا أسمح، ولا أعلم، ولا أكرم، ولا أجمل ،ولا أنبل، ولا أفضل، من محمد بن إدريس الشافعي".

 

وقد قيل للشافعي: "مالك تُدمن إمساك العصا، ولست بضعيف؟! قال: لأذكرَ أنِّي مسافر، يعني في الدُّنيا".

أما أكثرُ ما يُميِّز الشافعيَّ فهو سخاؤه وكرمه الشديد، وله أمثلة ونوادر في ذلك مشهورة، فعن الحميديِّ، قال: "قدم الشَّافعيُّ من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل، فضرب خباءه في موضعٍ خارجاً من مكة، فكان الناس يأتوه فما برح حتى ذهبت كلُّها".

وكان من سخائه أنه يُعطي على الشيء الصغير المال الوفير، فكان ربما يقع سوطه فيُعطي الغلام الذي يُناوله إياه تسعة أو عشرة دنانير، وانقطع شسع نعله فأعطى الرجل الذي أصلحه سبعة دنانير، وكان كثيراً ما يقول: "السَّخاء والكرم، يُغطيان عيوب الدنيا والآخرة، بعد أن لا يلحقهما بدعة".

وكُتب المناقب زاخرة بالآثار والأخبار عن فضائل الإمام الشافعي وأخلاقه ومكارمه وعبادته، غير أننا نودُّ أن نشير إلى أنَّ معظم هذه الآثار والأخبار لا تَصِحُّ وهي من باب المبالغات في شأن هؤلاء الأئمَّة الأعلام، والحقيقة أنَّ كتب التراجم والمناقب تحتاجُ لجهد مجموعةٍ من العلماء والمتخصِّصين لتمحيصها وتنقيتها.

محنته:

تعرَّض الإمام الشافعي لمحنة في أوساط عمره كادت أن تُغيِّر مسار حياته بالكلية وتلقيه في طيِّ النسيان وغياهب السجون، حيث لا ذِكْر ولا أثر إلا من جدران الزنازين، وأما عن سبب محنته فيلخصها لنا تلميذه الأنجب الإمام أحمد بن حنبل عندما سأله بعض طلبة العلم عن سبب هجوم البعض على الإمام الشافعي، إذ قال: "لقد منَّ الله علينا به، لقد كنَّا تعلمنا كلام القوم، وكتبنا كتبهم، حتى قدم علينا، فلما سمعنا كلامه، علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالى، فما رأينا منه إلا كلَّ خير، واعلموا حكم الله تعالى أنَّ الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئاً من العلم وحرمه قرناءه وأشكاله، حسدوه فرمَوه بما ليس فيه، وبِئْست الخصلة في أهل العلم".

الإمام الشافعي كان أعلم أهل عصره بلا منازع، وفي نفس الوقت كان شريف النسب، جميل الصورة، بهيَّ الطلعة، مما جعله موضع حسد الناس، وقد بدأت محنته عندما كان قاضياً باليمن وقد صار أحدوثة اليمن مما جعل حُسَّاده يسعون في حقه عند الخليفة العباسيِّ هارون الرشيد، وكان الذي سعى بالوشاية ضد الشافعيِّ رجلٌ للأسف يُنسب لأهل العلم اسمه مطرف بن مازن دفعه الحسد والغيرة المذمومة للسَّعي في حقِّ الإمام الشَّافعيّ ، والتُّهمة كانت في غاية الخطورة، وهي قيادةُ تنظيمٍ شيعيٍّ باليمن لقلب نظام الحكم، وهي تُهمة كفيلةٌ بإزهاق روح الإمام أو حبسه لأجلٍ غير مسمى على أقلِّ تقدير، لذلك لما وصل الكلام للخليفة الرشيد أمر على الفور بالقبض على الشافعيِّ وكلِّ من ورد اسمه في وشاية الكذاب مطرف بن مازن، وذلك في سنة 183 هجرية.

حُمل الشَّافعيّ ومن معه مُكبَّلين بالحديد والأغلال من اليمن إلى مدينة ( الرقة) في شمال بلاد العراق حيث مقرُّ إقامة الخليفة العباسي هارون الرشيد، ولنا أن نتخيل حجم المعاناة والألم البدني والنفسي الشديد الذي تعرَّض له الإمام الشافعي من جراء تلك الرحلة الطويلة الشاقة من أقصى الجنوب لأقصى الشمال، وهو بريء لا ذنب له.

استعدَّ الشافعي لمواجهة كافة التهم الموجهة إليه، فانتضى سيف بلاغته، وركب فرس حجته، فما إن أُدخل على الخليفة الرشيد، حتى انطلق برائع بيانه يكشفُ بطلان ما وُجِّه إليه من تهم وافتراءات، حتى خلب لُبَّ الرشيد بدفاعه البليغ، خاصة عندما قال له: ( أ أدع من يقول إنَّه ابن عمِّي –يقصد هارون الرشيد– وأتولَّى من يقول إنه خالقي ورازقي –يقصد إمام الشيعة الذي يُسبغ الشيعةُ الأغبياء عليه صفات القداسة" فانشرح صدرُ الرشيد، وطلب منه أن يُناظر الإمام محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة في بعض المسائل، فأظهر الشافعيُّ براعة علمية فائقة فأمر الرشيد له بجائزة كبيرة تُقدر بخمسة آلاف دينار بمثابة رد اعتبار لذلك الإمام المظلوم وتبرئة لساحته أمام الناس.

كانت تلك المحنة فاتحةَ خير على الإمام الشافعي، وسبباً لانتشار علمه وتكوين مذهبه وقيام مدرسته الفقهية، حيث ظلَّ بالعراق ولم يَعُد إلى اليمن، إلا لجلب أهله وحاجاته ثم عاد إلى العراق لينتشرَ ذكره وأثره وعلمه، وتتهافت عليه الطلبةُ ويقبل عليه الناس، فأين حاسدُه ومبغضه الذي أراد إسكاتَ صوته وخنق علمه وفقهه في بلاد اليمن؟ ولكنها سُنَّه الله الماضية: أن يبوء الحاسدُ والحاقد بالخسران والندامة، ويُعلي الله -عز وجلَّ- شانَ أهل العلم الرَّبَّانيِّين على مرِّ العصور.

وفي سنة 198هـ ينتقلُ الشَّافعيُّ إلى مصر ليواصلَ نشر علمه، وتُقابله محنةٌ أخرى تمثلت في عداوة تلاميذ الإمام مالك له بسبب خوفهم من اندثار مذهبهم حتى إنهم كانوا يَدْعون عليه في صلواتهم بالموت، وبجانب ما كان يُعانيه الشَّافعيّ من مِحَن بسبب الحسد والغيرة، وآثار التهمة القديمة بالتشيع والرفض، كان الشافعي يُعاني من محنة أخرى تُعتبر علامة من علامات محبة الله عز وجل، وهي محنة مرضه المزمن بالبواسير الشديدة التي سبَّبت له آلاماً مبرحة ونزيفاً مستمراً للدِّماء حتى إنه كان لا يحدث أو يؤلف أو يقرأ القرآن إلا وتحته لبد أو طست من شدَّة النَّزف.

وظلَّ مرضه يتعالى عليه حتى أورثه ضعفاً، لا يكادُ يقوى أن يقف أو يجلس معه، وكان تلميذه يونس بن عبد الأعلى حسنَ الصوت بالقرآن الكريم، فكان كلَّما دخل يعوده يقول له: يا يونس لا تغفل عني بقراءتك فإني مكروب، وذلك من شدَّة آلامه وأوجاعه، حتى مات صابراً محتسباً وهو في الرابعة والخمسين من عمره، فرحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة.

 

-------------------------------------

المصادر والمراجع :

سير أعلام النبلاء.
حلية الأولياء.
تاريخ بغداد.
البداية والنهاية.
الكامل في التاريخ.
وفيات الأعيان.
تذكرة الحفاظ.
طبقات الشَّافعيّة.
شذرات الذهب.
صفة الصفوة.
النجوم الزاهرة.
طبقات الحفاظ.
تراجم أعلام السلف.
مناقب الشَّافعيّ للبيهقي
 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات