الإفلاس الحقيقي

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ النبي صلى الله عليه وسلم معلّم ومربٍّ قدير 2/ الفيصل في السعادة والشقاوة 3/ الإفلاس الحقيقي هو الإفلاس الأخروي 4/ الخسارة الكبرى والفادحة العظمى 5/ التحذير من العدوان على الخلق 6/ المثل الأعلى في التحلل من العباد 7/ بادر إلى محاسبة نفسك.

اقتباس

هكذا تنقضي حسناته التي تعب عليها أمام عينيه، تؤخذ منه لفلان وفلان. وهو لا يستطيع حولاً ولا قوة.. لقد أحيا ليل الشتاء القارس بالقيام.. وأظمأ نفسه في الهواجر بالصيام.. ودفع ماله في الصدقة والصلة للأهل والفقراء والأيتام.. ثم في لحظات ينتهي ثواب صلاته.. وثواب زكاته.. وثواب صيامه.. ينتهي كل ما عنده من حسنات.. فما أعظم خسارته في هذا اليوم العصيب والوقت الرهيب.. ولو اقتصر الأمر على ذلك لكان هيناً وما هو والله بهين.. ثم تأتي الخسارة الكبرى والفادحة العظمى بأن يؤخذ من سيئاتهم وتُطرح عليه، ثم يُطرح في النار، والعياذ بالله... إن الإفلاس كل الإفلاس أن يفلس الإنسان من حسناته التي تعب عليها، وكانت أمامه يوم القيامة يشاهدها، ثم تؤخذ منه لفلان وفلان...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها الإخوة: في مجلس من مجالس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العامرة بالتربية والتعليم سأل أصحابه يوماً كما هي سنته في التعليم لتحفيزهم وتنشيط عقولهم، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" فَقَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ". (رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه).

 

أحبتي: هذا سؤال واضح جلي يريد به المعلم الأول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الاستعلام الذي يُرَادُ به الإخبار عندما قال: مَا الْمُفْلِسُ؟

 

فأجاب الصحابة -رضي الله عنهم- بما يتبادر للذهن في الدنيا.. ولكنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نقلهم إلى أبعد من الدنيا وحطامها، نقلهم من التعريف الدنيوي للمفلس بأنه الذي ليس له مال ولا متاع، ويقصد بالمتاع: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ الْملبسِ والمأكل والمسكن والمركب والجواهر وغيرها.. وقد أَجَابُوه -رضي الله عنهم- بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِ الدُّنْيَا..

 

أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد حلّق بهم في إجابته إلى عَالَمٍ ليس عالمهم المشاهد. فقد نقلهم إلى العالم الأخروي؛ لأنه الفيصل في السعادة والشقاوة.. والمفلس فيه هو المفلس الحقيقي.. لأن إفلاس الدنيا كما تعلمون ليس ضربة لازب فقد يزول وينقطع بموت المفلس، وربما يزول هذا الإفلاس وينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته.

 

لقد أجابهم ببيان الإفلاس الحقيقي وهو الإفلاس الأخروي، الذي هو الحرمان من أجر الأعمال الصالحة ودخول الجنة.

 

وسبب هذا الإفلاس الاعتداء على الناس بأي نوع من أنواع الاعتداء، فمن لم يأخذ حقه في الدنيا سيأخذه في الآخرة، ولا يكون بالقصاص لهم منه بمثل ما صنع.. وإنما بطريقة أخرى تختلف كاختلاف الآخرة عن الأولى، وذلك بأن "يُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ." نعوذ بالله من حاله..

 

وهكذا تنقضي حسناته التي تعب عليها أمام عينيه، تؤخذ منه لفلان وفلان. وهو لا يستطيع حولاً ولا قوة.. لقد أحيا ليل الشتاء القارس بالقيام.. وأظمأ نفسه في الهواجر بالصيام.. ودفع ماله في الصدقة والصلة للأهل والفقراء والأيتام.. ثم بلحظات ينتهي ثواب صلاته.. وثواب زكاته.. وثواب صيامه.. ينتهي كل ما عنده من حسنات.. فما أعظم خسارته في هذا اليوم العصيب والوقت الرهيب إذ هو يوم (لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88 - 89]، ولو اقتصر الأمر على ذلك لكان هيناً وما هو والله بهين..

 

ثم تأتي الخسارة الكبرى والفادحة العظمى بأن يؤخذ من سيئاتهم وتُطرح عليه، ثم يُطرح في النار، والعياذ بالله.. كل ذلك يتم في يوم رهيب قال عنه سبحانه: (..وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67] «ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ» (رواه البخاري).

 

أحبتي: لقد صدق رسول -صلى الله عليه وسلم- فإن الإفلاس كل الإفلاس أن يفلس الإنسان من حسناته التي تعب عليها، وكانت أمامه يوم القيامة يشاهدها، ثم تؤخذ منه لفلان وفلان..

 

أيها الإخوة: نعم ستُؤدى الحقوق في ذلك اليوم بين الخلائق كما قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» (رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).

 

الجلحاء هي الجماء التي لا قرن لها.. والقصاص لها من القرناء ليس من قصاص التكليف إذ لا تكليف عليها بل هو قصاص مقابلة.

 

وفي هذا الحديث: التحذير من العدوان على الخلق، وأنه يجب على الإنسان أن يؤدي ما للناس في حياته قبل مماته، حتى يكون القصاص في الدنيا مما يستطيع، أما في الآخرة فليس هناك درهم ولا دينار حتى يفدي نفسه، ليس فيه إلا الحسنات، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"

 

وفي الحديث الآخر قَالَ رَسُولَ اللَّهِ --صلى الله عليه وسلم--: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ". (رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).

 

ولكن إذا أخذ المظلوم بحقه في الدنيا فدعا على الظالم بقدر مظلمته واستجاب الله دعاءه فيه فقد اقتص لنفسه قبل أن يموت؛ لأن الرَسُولَ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ لمُعَاذٍ -رضي الله عنه-: «...وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»، فإذا دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا واستجيب لدعائه فقد اقتص منه في الدنيا، أما إذا سكت فلم يدعُ عليه ولم يعف عنه فإنه يقتص له منه يوم القيامة.

 

ولكن هذا الحديث لا يعني أنه يخلد في النار، بل يعذب بقدر ما حصل عليه من سيئات الغير التي طُرحت عليه، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة؛ لأن المؤمن لا يخلد في النار، ولكنّ النار حرّها شديد، لا يصبر الإنسان على النار ولو للحظة واحدة، هذا على نار الدنيا فضلاً عن نار الآخرة، أجارنا الله منها. أسأل الله –تعالى- أن يوفقنا لعمل الصالحات ويجنبنا السيئات إنه جواد كريم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: لقد كان لرسولنا القدح المعلى وقصب السبق في التحلل من العباد مع أنه لم يقع في مظلمة أو في خطيئة ومع ذلك. في غزوة بدر كان رسول الله يُعَدَلُ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ (السهام حين تبرى) يَعْدِلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ -رضي الله عنه-, وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ (خارج) مِنَ الصَّفِّ، "فَطَعَنَ رَسُولُ اللهِ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ وَقَالَ: اسْتَوِ يَا سَوَادُ" فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْعَدْلِ, فَأَقِدْنِي، فَقال لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَقِدْ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ طَعَنْتَنِي وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، "فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ، وَقال: "اسْتَقِدْ" فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَطْنَهُ. وقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقال: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟" فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ،" فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَيْرٍ".

 

قال القرطبي في التذكرة: "يجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه، كما قال عمر -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا".. وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحًا.. ويتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله -عز وجل-.. ويرد المظالم إلى أهلها، ويستحل كل مَن تعرض له بلسانه ويده وغيرها ويطيّب قلوبهم.. حتى يموت ولم يبقَ عليه فريضة ولا مظلمة، فهذا يُرجَى له دخول الجنة بغير حساب..

 

فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه، فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته وهذا يتعلق برقبته، وهذا يقول ظلمتني، وهذا يقول شتمتني، وهذا يقول: استهزأت بي، وهذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني، وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول: عاملتني فغششتني، وهذا يقول: بايعتني وأخفيت عني عيب متاعك، وهذا يقول كذبت في سعر متاعك، وهذا وذاك.. فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم، وأحكموا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبقَ في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم؛ إذ قرع سمعك نداء الجبار (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر:17].

 

 فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) [إبراهيم:42،43].

 

 فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس، وتناولك أموالهم! وما أشد حسرتك في ذلك اليوم! إذا وقف بك على بساط العدل، وشُوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس فقير عاجز مهين، لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا، فعند ذلك تُؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك، وتنقل إلى خصمائك عوضًا عن حقوقهم كما سلف في الأحاديث.

 

فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم؛ إذ ليس لك حسنة قد سلمت إلا ابتدرها خصماؤك وأخذوها.." انتهى كلامه.

 

 أسأل الله أن يوفقنا للخلاص من حقوق العباد؛ إنه جواد كريم...

 

 

 

المرفقات

الحقيقي

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات