عناصر الخطبة
1/ مفهوم الإفراط وحده 2/ الأمر بالتوسط والاعتدال 3/ من مظاهر الإفراط وصوره 4/ التحذير من الإفراطاقتباس
ومن صور الإفراط المنتشرة اليوم: الإفراط في إنزال الأحكام على الآخرين، والمبالغة في الحكم عليهم، خاصة في تنزيل الأحكام الكبيرة عليهم، كالحكم عليهم بالكفر، أو البدعة والضلال. إن هذه الأحكام أحكام شرعية لا تنزل إلا على من يستحقها، وليس كل شخص ينزلها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للدين القويم، ومنّ علينا بأن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأصلي وأسلم على خير مبعوث بعث لخير أمة؛ نبي الهدى والرحمة، حبيب الله أبي القاسم، سيد بني هاشم، الذي تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين.
وبعد:
أيها المسلمون: إن من أكبر المصاعب على الإنسان المستقيم في هذه الحياة التوسط، فقليل جداً من الناس من يكون عدلاً وسطاً، لا إفراط عنده ولا تفريط. فأكثر الناس إما أن يجنح إلى الإفراط -وهؤلاء هم محل حديثنا اليوم- وإما أن يجنحوا إلى التفريط والتقصير.
إن الإفراط في اللغة: مأخوذ من قولهم فرّط في الأمر، أي قصر فيه، أو تجاوز الحد المطلوب نحوه تفريطاً وإهمالاً. وفرط في الشيء ضيعه وقدم العجز فيه، ومنه قوله تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) [الزمر:56]، وقوله -سبحانه-: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]، أي متروكا، ترك فيه الطاعة وغفل عنها.
عباد الله: إن الإفراط يقابل التفريط، فإذا كان حد الاعتدال في أمر من الأمور هو عشر درجات كان الإفراط تجاوز ذلك إلى إحدى عشرة فما فوقها، وكان التفريط هو تحصيل تسع فما دونها.
لقد أمر الإسلام بالتوسط في الأمور كلها، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143].
والوسطية التي هي سمة هذه الأمة، وضياعها بأمرين:
أحدهما: التقصير الذي هو التفريط وما يترتب عليه من تضييع الحقوق، والتكاسل عن أداء الواجبات، وينجم عن ذلك تأخر الأمة في كل المجالات بحسب درجة التفريط.
والثاني هو: الإفراط وهو على العكس من ذلك، ويؤدي إلى الغلو والإسراف والتطرف في الأمور كلها، وقد يحسب هؤلاء المفرطون أنهم يحسنون صنعا؛ إذ يشددون على أنفسهم وعلى غيرهم، ولا يجنون من وراء ذلك إلا هلاكهم وهلاك أمتهم ومجتمعهم.
أيها الناس: لو نظرنا في واقعنا كمسلمين لرأينا أن لدينا صوراً هائلة ومظاهر كثيرة من مظاهر الإفراط، مع أن ديننا الحنيف نهانا عنه وحذرنا منه، ولكن كما ذكرنا أن التوسط عزيز.
فمن مظاهر الإفراط: الإفراط في الإهمال للاستعداد لليوم الآخر، واللامبالاة في الاستخفاف به، وعدم التهيؤ له، وقلة التفكير فيه، وهذا المظهر من مظاهر الإفراط ذكره الله في القرآن وتحدث عنه فقال: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [الأنعام:31].
وأخبر الله أن سبب ورودهم النار ودخولهم فيها هو إفراطهم في عدم فعل الأفعال الصالحة التي تنجيهم، وولوغهم في عمل السيئات وفعل القبائح والموبقات التي كانت سبباً لدخولهم النار وخلودهم فيها، كما قال تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) [النحل:62]. فبسبب إفراطهم في الشر، وإكثارهم من عمل السيئات، وكذبهم على أنفسهم، استحقوا دخول النار، ووقعوا فيها خالدين مخلدين.
ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدٌّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]. أي أن مصالحه الدنيوية والأخروية، وأموره الدينية والدنيوية ضائعة معطلة بسبب غفلته وتفريطه، واتباعه لهواه، ولإفراطه وتقصيره ضاع دينه وضاعت دنياه.
ومن صور الإفراط التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم: الإفراط في العصيان، والمبالغة في الطغيان، والتجاوز في الظلم لعباد الله، كما هو حال الجبابرة والفراعنة والطواغيت الذين يكثرون في الأرض من الفساد والشر والإجرام.
يقول الله -تبارك وتعالى- لموسى وهارون -عليهما السلام- حينما بعثهما إلى إمام المتكبرين، وطاغوت الطغاة المعتدين -فرعون اللعين- (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه 46:43]. فحينما أرسلهما الله إلى هذا الطاغية خافا من بطشه وجبروته، أو أن يبادرهما بالعقوبة وإيقاع الشر بهما قبل أن يبلغوه الرسالة ويقيموا عليه الحجة؛ لأنه طاغية، فقال الله لهما (لا تَخَافَا) أن يفرط عليكما، (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي أنتما بحفظي ورعايتي أسمع أقوالكما وأرى جميع أحوالكما فلا تخافا منه، فزال خوفهما منه ومن إفراطه في العقوبة بهما.
إن بعض الناس إذا غضب أو عاقب كان حاله كحال الفراعنة يفرط في العقاب، ويزيد في الإجرام، ويبالغ في الانتقام، وما هذا إلا لأن في نفسه طغيانا وتأصلا على الشر والخبث،كما قال الشاعر الجاهلي:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فعلينا أن نكون عدلاً وسطاً في أمورنا كلها دون إفراط أو تفريط، فإن خير الأمور الوسط الوسيط وشرها الإفراط والتفريط، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل القرآن العظيم بالحق نوراً وهدى للعالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وصفوته من خلقه أجمعين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: الأحكام على الآخرين، والمبالغة في الحكم عليهم، خاصة في تنزيل الأحكام الكبيرة عليهم، كالحكم عليهم بالكفر، أو البدعة والضلال.
إن هذه الأحكام أحكام شرعية لا تنزل إلا على من يستحقها، وليس كل شخص ينزلها ولو على مستحقها، وإنما ينزلها عليهم العلماء الربانيون، والفطاحلة الراسخون، والخبراء الشرعيون المتقنون، الذين قال الله عنهم: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:83].
لقد انتشرت اليوم موجات التكفير والتضليل، وحملات التشهير والتفسيق، بناء على أمور قد تكون تستحق وقد تكون لا تستحق، فإذا كانت على أمور لا تستحق فهي مصيبة عظيمة وقاصمة الظهر، وإذا كانت على أمور تستحق فليس كل شخص له الحق في الخوض فيها، والكلام عنها، وتنزيل الأحكام على مرتكبيها.
روى الإمام مالك عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ ؛ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ ، سَمِعَ رَجُلاً بِالشَّأْمِ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ. فَقَالَ الْمُخْدَجِيٌّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ. فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ. قَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ. فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئاً، اسْتِخْفَافاً بِحَقِّهِنَّ؛ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ. إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الَجَنَّةَ" [مالك:400].
فانظروا كيف أن المخدجي حين سمع الشامي حكم على صلاة الوتر بالوجوب -وهذا إفراط في تنزيل الأحكام عن اجتهاد يراه المخدجي غير صحيح-، ومع علمه بأن الوتر ليس بواجب، وأن حكم الشامي على صلاة الوتر بالوجوب غير صحيح، إلا أنه أحب أن يسأل أهل العلم في ذلك، حتى يكون الحكم صادراً عن أهله، فسأل الصحابي الجليل عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- فأنكر هذا الحكم وكذبه، وأخبره أنه لا واجب من الصلوات إلا الصلوات الخمس، أما بقية الصلوات فإنها صلوات مسنونة مستحبة.
فالحذر الحذر من الإفراط في تنزيل الأحكام على الأشخاص، أو على الجماعات، أو على الهيئات، أو على الأحوال والمسائل، ولنترك هذا الشأن لأهله فإنهم أفهم وأعلم بالمسائل وأحكامها، وطرق تنزيلها. روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا" [البخاري:6103].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم الذي أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وأنسه، فقال عزّ من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم ارزقنا التوسط في أمورنا كلها، اللهم إنّا نعوذ بك من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدٌّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم