الإصلاح ( أوراق مبعثرة حول العملية الإصلاحية )

ناصر بن محمد الأحمد

2012-07-24 - 1433/09/05
عناصر الخطبة
1/ مهمة الأنبياء والعلماء والدعاة 2/ قضية الإصلاح من أعقد القضايا وأصعبها 3/ أنواع الإصلاح 4/ سمات المصلحين 5/ من أوجب واجبات المصلحين.

اقتباس

خذ هذا المثال: كان الطب في كوريا يدرّس باللغة الإنجليزية، فأصدر رئيس الدولة قرارًا بتدريس الطب باللغة الكورية، فهاج الأساتذة وماجوا، محتجين بأن أضرارًا بالغة سوف تلحق بالطلاب، إذا تم ذلك، فالكورية ليست لغة حية، والمراجع الطبية المكتوبة بالكورية صفر.. وكان موقف رئيس الدولة هو أنه بعد عام سوف يكون التدريس بالكورية وإلا فإن الدولة سوف تغلق الكلية، إلى أن يجد الأساتذة في أنفسهم الكفاءة لذلك. فماذا كانت النتيجة؟ خلال عام...

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ …

أما بعد:

إن كلمة الإصلاح كلمة جميلة، محببة إلى النفوس؛ لأن الفِطَر السليمة تحب الإصلاح وتدعو له، وتبغض الإفساد وتحذر منه، إن المهمة الكبرى لأنبياء الله ورسله، والذي من أجله بعثوا وأرسلوا، هو الإصلاح، ثم حَمل الراية من بعد الأنبياء، خلفاءُ الأنبياء وهم العلماء والدعاة وكل من يهمه الشأن العام.

إن قضية الإصلاح، إلى جانب أنها أهم قضية في حياة الناس، إلا أنها من أعقد القضايا وأصعبها، وفيها يتجلى الابتلاء بأكمل صوره، وأتم معانيه.

إن صعوبة هذه القضية نبعت من كون الطرف الآخر في المعادلة هم بشر، تتعامل معهم، فالبشر في الغالب تتوتر ممن يريد أن يعالج أخطائها، ويقوم مسيرتها، وتنبع صعوبة المسألة أيضًا، من أنك ما أن تقترب من إصلاح جانب من جوانب هذا الكيان البشري، إلا وظهر لك فساد في جوانب أخرى أضف إلى تفاوت الخلفيات التي لدى الناس من خلفيات عقدية، وثقافية، وسلوكية، وغيرها وغيرها، مما يحتاج معه إلى طول نفس وسعة بال.

أيها الأحبة.. الإصلاح نوعان: نوع بسيط كإصلاح بين متخاصمين، أو استئصال فساد من مدرسة أو مؤسسة، وهذا يمكن لكثيرين أن يقوموا به، فهو بمثابة عملية جراحية صغرى، وهذا ليس معنيًّا في خطبتنا هذه، لكن المعنى، هو النوع الثاني المعقد، الذي أتعب الأطباء، وحيّر الحكماء، وتخلى عنه عدد غير بسيط من العلماء، وهو ذلك الطرح الفكري الشامل الذي يستهدف إصلاح الحياة العامة، في كافة مجالاتها، الفكرية والتربوية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، وغيرها.

ولهذا لا ينبغي أن يمتطى صهوة هذا النوع من الإصلاح، إلا ذلك المصلح الذي يمتلك سمتين أساسيتين:
الأولى: رؤية صحيحة وشاملة لحال المجتمع الذي يهمه شأنه، هذه الرؤية يشمل إمكاناتها ومشكلاتها، ومداخلها ومخارجها، ويشمل أيضًا كل المؤثرات الخارجية للوضع الداخلي في ذلك المجتمع، ولا يغفل القوى المحلية المنافسة، التي تطرح وجهات نظر أخرى.. هذه سمة.

أما الثانية: فهو امتلاك ذلك المصلح لمنهج صحيح سليم في المعتقد، ناضج في التصور، متكامل في السلوك والأخلاق يمكن من خلاله أن ينسف غيره من وجهات النظر المختلفة، من واقع قال الله، قال رسول الله، وما أُثر على صالحي سلف هذه الأمة.

لذلك أيها الأحبة، فلا مبالغة إذا قلنا بأن المصلحين في كل بلد أو مجتمع، هم أعز من الكبريت الأحمر، وقد لا يطلق في البلد كله إلا على رجل أو رجلين.
إني لأشعر إذ أغشى معالمهم *** كأنني راهب يغشى مصلاه
والله يعلم ما قلبت سيرتهم *** يومًا وأخطأ دمع العين مجراه

أيها المسلمون.. فهذه بعض أوراق مبعثرة، إحداها مشرقة والأخرى مغربة، جمعتها حول العملية الإصلاحية الشاملة، سأنثرها بين أيديكم لتأخذوا المناسب وفي الجملة فإنها لا تخلو من فائدة.

أولى هذه الأوراق المبعثرة.. هو أنه على مدى العشرين سنة الماضية تراجعت حصة الصناعة الأمريكية من السوق العالمية ست نقاط، على حين زادت حصة الصناعة اليابانية خمسة عشر نقطة، وحصة أمريكا في السوق من الأدوات الآلية، تراجعت من 25% إلى 5% خلال ثلاثين عامًا، بينما زادت حصة اليابان من صفر إلى 22% فما هو السبب في ذلك؟

يقول المحللون والمهتمون بمثل هذه القضايا: إن السبب راجع إلى بنية العقلية الأمريكية وبنية العقلية اليابانية.. وهذا هو ما يهمنا بضرب هذا المثال، حول حديثنا عن العملية الإصلاحية. إن العقلية الأمريكية تنطلق من مبدأ ملخصه: ما سننتجه سوف يستهلكه الناس.. على حين أن اليابان تقول: ننتج ما يحتاجه المستهلك. ومن ثَم فإنك تلمس التطوير والتنويع في الصناعات اليابانية بما يلبي جميع الأذواق والرغبات والحاجات، فهل أدركت أخي المصلح، أن عددًا غير قليل من الدعاة يؤثرون الطريقة الأمريكية، ما نقوله سوف يسمعه الناس، فلا يلقون أي اهتمام لتطوير الكلمة لما ينبغي أن يكون عليه أسلوب الخطاب المعاصر.

الورقة الثانية، وهي أيضًا مبعثرة.. أنه من الأهمية بمكان أن يكون عند مصلحي المجتمعات مقاييس رقمية للقيم المسيطرة على مجتمعاتهم، ليتمكنوا من تقييم هؤلاء البشر، وإعطائهم ما يناسبهم من جرعات، ومن خلال سلّم القيم بالمقاييس الرقمية، تظهر القيم المركزية من القيم الهامشية، والقيم المسيطرة من القيم التزينية، ونستطيع أن نتعرف على سُلم القيم المسيطر من خلال أحاديث الناس، فلو دخلت على أناس في مجلس، وكان حديثهم عن رضوان الله، والاستشهاد في سبيله، والأخوة الدينية والإيثار، فلا شك أن تقييمك يختلف من أنك لو دخلت على آخرين، كان مجلسهم يعجّ بذكر أسعار العقار والأسهم والأواني المنزلية وتجارة الأصباغ.. هذا جانب، جانب آخر، لو رأيت موظفًا لا يتأخر عن دائرته أبدًا، لكنه لا يزور المسجد إلا قليلاً.

نلخص أنه لا يهم المصلحين معرفة هذه المعايير، والأهم تحديد الأوليات لوصف العلاج.

الورقة الثالثة.. من أوجب واجبات المصلحين: غرس الثقة بالنفس في أبناء الأمة، ومحاولة رفع مستوى احترام النفس، إن هذه الأمة لو عرفت مكانتها، وشعرت بحجمها، واعتزت بنفسها، لتغيّر شيء كثير، وهذا مهمة المصلح.

خذ هذا المثال: كان الطب في كوريا يدرّس باللغة الإنجليزية، فأصدر رئيس الدولة قرارًا بتدريس الطب باللغة الكورية، فهاج الأساتذة وماجوا، محتجين بأن أضرارًا بالغة سوف تلحق بالطلاب، إذا تم ذلك، فالكورية ليست لغة حية، والمراجع الطبية المكتوبة بالكورية صفر.. وكان موقف رئيس الدولة هو أنه بعد عام سوف يكون التدريس بالكورية وإلا فإن الدولة سوف تغلق الكلية، إلى أن يجد الأساتذة في أنفسهم الكفاءة لذلك. فماذا كانت النتيجة؟ خلال عام تهيأ الأساتذة لذلك وفتحت الكلية أبوابها، وسار كل شيء على ما يُرام، وانتهى تدريس الطب هناك بالانجليزية إلى غير رجعة. فهل إمكانات الكورية في استيعاب العلوم أكبر من إمكانات العربية، الجواب معروف.

إذن كيف حصل ذلك عندهم ولم يحصل في السواد الأعظم من جامعات العالم الإسلامي، الجواب أن العزيمة الحرة هناك، اكتشفت الإمكان الحضاري، أما نحن فيحصل ذلك عندنا حين نشعر بضرورة احترامنا لأنفسنا. فنحن بحاجة قبل ذلك إلى معاهد ودورات وبرامج في اكتشاف النفس، ومعرفة الذات والاعتزاز بها، ولتحقيق هذا، جهد ضخم نسأل الله أن يعين المصلحين للقيام به.

الورقة الرابعة.. إن سُنة الأنبياء وهم في قمة هرم المصلحين، هو الرفق في الخطاب، والمجادلة بالتي هي أحسن، وقد أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بالرفق بفرعون حين قال: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 43- 44] وعند مسلم «من يُحرَم الرفق يُحرَم الخير كله».

علينا ألا ننسى أن البشر مخلوقات عاطفية، تجذبهم الكلمة الطيبة، وينفرهم التوبيخ والتقريع، وعند كل واحد منهم من الاعتزاز بنفسه، ومواهبه، وإمكاناته، ما يجعله يرى في الكلمة القاسية عدوانًا على كرامته ومجاله الخاص.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في سياق ما يحتاجه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: "فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده".

إن قولك يا باغي الإصلاح لشخص – هذا خلاف الواقع – يؤدي عين المعنى الذي يؤديه قولك له: هذا كذب، لكنه أرفق وألطف.. وإن قولك لعدد: ما رأيكم لو عملنا كذا، ألطف من قولك لهم، اعملوا كذا، وكفوا عن كذا.

إن صيغة الأمر والنهي لم تعد مقبولة في أغلب المواضع، فالحضارة الحديثة دون إهمال، وسّعت دائرة الخصوصيات والحرية الشخصية، إلى أبعد حد ممكن، وإن من واجبنا أن نُشعر المخاطب أننا لا نعتدي على أي منهما، دونما تنازل عن مبدأ، أو ميوعة في حكم، أو تساهل في شريعة الله.

الورقة الخامسة.. سلفية المنهج وعصرية المواجهة، إن السلفية المنشودة، هي العودة بأصول الفهم إلى الكتاب والسنة وقواعد تفسير النصوص لدى القرون الثلاثة الأولى.

أما عصرية المواجهة المقصودة، فهو أن يدرك جيدًا أولئك المصلحون الذين يهمهم أمر الساحة، أن يدركوا جيدًا أن محاور المعارك القائمة بينهم وبين خصومهم وأعدائهم، ويدركوا كذلك الفلسفات والنظم العلمانية والمادية التي تغزوهم صباح مساء، ومهم جدًا وهذا مطلب ملحّ وهو استثمار الطاقات التي بأيديهم واستغلالها أتم استغلال، فكم من الجداول والله المستعان، يذهب ماءها في صحراء قاحلة.

إنه ليس من عصرية المواجهة في شيء، أن ينتقل الداعية على دابة، وينتقل منافسه المبشر في نفس الموقع في حوّامة، وليس من المعاصرة أن نواجه هذا الغزو الإعلامي الرهيب، بالشجب والاستنكار، دون أن يملك المصلحون قنوات وشبكات إعلامية، تنشر الهدي الرباني في أنحاء المعمورة.

إن عددًا من المصلحين يجاهد في غير عدو، تجده ينشغل بمهاجمة وأفكار ومعتقدات لا رصيد لها في ساحته، وفي الوقت نفسه، لا يملك أية خبرة في الأفكار الهدامة التي تستأصله وهو نائم، وتُجهض من حيويته، وتحرفه عن الطريق، فضلاً عن أن يمتلك الوسائل لمقاومتها.

خذ هذا المثال لتدرك المقصود: كم كتابًا صدر، يتحدث عن اليهود في الكتاب والسنة، وهذا بحد ذاته طيب، لكن أين ذلك الكتب الذي يبحث في بنية التنظيم اليهودي العالمي المعاصر، وأين ذلك الكتيب الذي يكشف عن الآليات المستخدمة عند اليهود في اختراق الدول والمؤسسات، أو في الأفكار السائدة لديهم، أو في المشكلات التي تجابههم، لكي نشعل فتيلها أكثر بطريقة أو بأخرى.

أسأل الله جل وتعالى، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا.... اللهم علمنا ما ينفعنا.. وانفعنا بما علمتنا، إنك على كل شيء قدير.... نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر الأهل والأحباب.... سبحانك اللهم وبحمدك.. أشهد أن لا إله إلا أنت.. أستغفرك وأتوب إليك.

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين......

أما بعد:

الورقة السادسة، وهي أيضًا مبعثرة.. لكنها تهم الصالحين، وهو أننا نعيش أيها الأحبة في عالم، سمته البارزة، الصراع من أجل البقاء، ومن الطبيعي أن يأكل القوي الضعيف، وأن تتغذى الحيتان بالأسماك، إنه من السذاجة والبله أن تطلب من الغرب أن يعاملنا برفق وعطف، فهذا غير ممكن، لكن الحل، أن تكبر السمكة حتى لا يستوعبها الحوت، وأن تكون السمكة أسرع منه حركة.

إن مما يزعج الغيور، أن كثيرًا من شباب الأمة، ممن هم يسيرون في فلك العملية الإصلاحية، يقضون أوقاتًا طويلة في الحديث عن حقد الغرب، وزبالة فكره، ونتن معتقده، ونذالة مؤتمراته على أمة الإسلام، وهم في الوقت نفسه عاطلون عن تقديم أي عمل نافع ولو بسيط!!!

إن لدينا يا من تكثر الكلام، إن لدينا مرضى يحتاجون إلى علاج، وجهلة يحتاجون إلى تعليم، وشباب يحتاجون إلى تدريب، ونشئ يحتاج إلى سقاية، وأراضٍ دعوية خصبة تحتاج إلى زراعة، وفرص اقتصادية ضخمة تحتاج إلى من يستفيد منها، وطلاب ضعاف يحتاجون إلى تقوية، ولدينا ولدينا...... فما هي مساهماتك أيها الشاب الحبيب وفي أي جهة من هذه أو غيرها صرفت طاقاتك.

شباب مع كل أسف يتعاجز عن كسب لقمة عيشه، وعن إتقان مهنته، وعن القيام بأي تكليف، ثم يحدثونك عن فتح روما وإنشاء حضارة إسلامية على أنقاض حضارة الغرب.

إن وعد الله أيها الأحبة، بالتمكين لن يتخلف لكنه لن يتحقق أبدًا على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].

أيها الأحبة.. ثمة أوراق مبعثرة على طاولتي أسأل الله جل وتعالى أن ييسر جمعُها ثم عرضُها.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا.

اللهم صل على محمد …

 

 

 

 

المرفقات

( أوراق مبعثرة حول العملية الإصلاحية )

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات