الإسلام وجدلية المال أم الإنسان في زمن الوباء

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

الكوارث والمشاكل لم تتأزم في بلاد المسلمين كما تأزمت في بلاد الغرب -رغم ثرائها- بل إن أحكام الإسلام ونظرته للإنسان وسرعته في المعالجة، وأسسه التي تمنع الخلل قبل وقوعه كل ذلك يعالج المشكلة في...

من المعاني الجمالية والإنسانية في الإسلام أنه لم يقْصر منهجه على الاستجابة والتلبية للجانب الروحي فقط، بل أولى اهتماما كبيراً من خلال تعاليمه السامية على طرح حلول واقعية قابلة للتطبيق للمشاكل والأزمات المجتمعية؛ فقد اهتم الإسلام بكل ما يرتبط بحياة الناس اليومية والتي لها الأثر الكبير على معيشته وتدبير قوته وتأمين مستقبله، وحرص أيما حرص على توفير العيش الكريم لكل أفراد المجتمع بكل مكوناته وشرائحه وأطيافه، وكفّ التفكير في الذات فقط إلى التفكير في الآخرين، والانتقال من "أنا" ل "نحن"، ومن الأنانية إلى الجماعية.

 

وعظمة الإسلام ورؤيته الإستراتيجية لأمن المجتمع وسلامته تتضح أكثر فأكثر في أوقات الشدائد والأزمات العامة، وقت النوازل والمحن العالمية على رأسها الأوبئة العالمية وعلى رأسها الطاعون وفي آخرها فيروس كورونا.

 

فقد تعاقبت الأزمات والابتلاءات والمحن التي أصابت البشرية عبر تاريخها الطويل، ونزلت بالناس صنوف شتى من الابتلاء؛ كالطواعين والمجاعات والفيضانات والزلازل والجفاف وغير ذلك. وبالطبع، فقد نال المسلمين من ذلك البلاء والجوائح الكثير، وسجل تاريخهم أحداثها ووقائعها وآثارها.

 

هذه الامتحانات الربانية لعموم البشرية تلقي بظلال كثيفة على حقيقة ما وصل إلى البشر بعد قرون طويلة من البعد عن منهج الله، ورفض هدايات السماء والانشغال بسخافات العقول البشرية ومنتوجاتها الضحلة والمتهافتة؛ فالبشر قد تعروا أمام الاختبار أيما تعري، وظهرت حقيقة عقولهم القاصرة في مواجهة أصغر مخلوقات الله، بعد أن كان لسان حالهم؛ من أشد منا قوة!

 

أزمة كورونا كغيرها من أزمات الأوبئة العالمية تطرح العديد من الأسئلة الجدلية التي تحار العقول البشرية في الإجابة عليها، خاصة عندما تحاول البحث عن الإجابة في دفتر أحوال البشرية المليء بالإخفاقات ومعاندة الرسل وتكذيب الدعاة والمصلحين؛ فهذه الأسئلة الجدلية لا يمكن الإجابة عليها إلا بوحي السماء وتجارب من اعتمدوا هذا الوحي منهجاً ودستوراً ونبراساً لحياتهم ومجتمعاتهم.

 

ومن أبرز الأسئلة الجدلية التي تحار فيها البشرية اليوم: أيهما أهم الإنسان أم الاقتصاد والمال؟!

 

فمنذ اندلاع أزمة كورونا وتقرير أهل الذكر من الأطباء وعلماء الفيروسات أن الحل الأمثل لمواجهة هذا الوباء القاتل في العزل المنزلي والتباعد المجتمعي والحظر الشامل أو الجزئي للأنشطة البشرية. منذ ذلك الحين والعالم يعيش في حالة صراع مجتمعي وقيمي وأخلاقي واقتصادي عنيف.

 

فقد خُيرت البشرية بين أمرين ضاع الحزم بينهما!!

 

أما الالتزام بتوصيات أهل العلم والإغلاق الشامل أو الجزئي للمدن، وما يستتبعه من آثار خطيرة على الاقتصاد والموارد والطبقات الفقيرة في المجتمع التي تعتمد في قوتها اليومي على عملها وخروجها لمكابدة المعايش في الحياة. وأما ضرب هذه التوصيات بعرض الحائط، وفتح الاقتصاد والسماح باختلاط الناس ودوران حركة المجتمع، وما يستتبعه من انتشار للوباء وإصابة ومصرع الملايين، وربما انهيار المجتمعات بأسرها.

 

والحقيقة أن نظرة المبدأ للإنسان وكرامته وقدره هي التي تحدث ردّة الفعل عند أصحاب هذا المبدأ في طريقة العلاج وسرعته، فإذا كان المبدأ يقدر الإنسان ويوليه الأهمية القصوى في النظرة فإن حركة الدولة والمواطنين في هذه الدولة تكون سريعة جداً وبأقصى الطاقات والقدرات لإنقاذ الناس المتضررين من هذه الكوارث، وإن كانت النظرة تنصب على رأس المال وعلى اعتبارات أخرى غير كرامة الإنسان وحياته؛ فإن الحركة تكون بطيئة وغير كافية، ولا تتناسب مع حجم الكارثة!!

 

فإذا نظرنا مثلاً إلى المبدأ الحاكم في الدول الغربية في الشرق والغرب وهو المبدأ الرأسمالي لوجدنا أن النظرة الأولى والأهم في هذا المبدأ تنصبّ على رأس المال؛ على تكثيره والانتفاع منه بأكبر قدر مستطاع، ولا تنصب على الإنسان وعلى كرامته وحياته، ولذلك سمي بالمبدأ الرأسمالي (رأس المال). وهذا الاهتمام بالاقتصاد على حساب الإنسان له شواهد كثيرة أبرزها: أن أتباع هذا المبدأ يخوضون الحروب الطاحنة من أجل المال ومن أجل الشركات والاستعمار ومناطق النفوذ، حتى لو أزهق فيها الملايين من البشر، كما حصل في الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية؛ فالمال مقدم على الإنسان في الغرب، ورأينا في أزمة الرهن العقاري التي عصفت بالغرب سنة 2008 كيف أن الشركات طردت ملايين الموظفين والعمال في الشوارع، وطردت ملايين الأسر من بيوتها بعد فشل الناس في سداد الأقساط! وهي مشاهد لا يمكن أن تراها في الدول الإسلامية مهما كان ضعفها أو سوء الإدارة فيها نظراً لأن الإسلام هو الحاكم فيها على وجدان الناس وعقولهم ونظرتهم للحياة.

 

فالإسلام ينظر بجدية متناهية للكوارث والشدائد ويعمل بكل جهد مستطاع لمحاصرتها وتطويقها وصرف الأذى الواقع على المسلمين؛ فيجعل النظرة عنده ابتداءً الإنسان وكرامته ومكانته عند الله تعالى قبل أي اعتبار آخر، ولا ينظر للأمور المادية ولا يقيم لها أي اعتبار مقارنة مع أهمية الإنسان وحياته ومكانته وعرضه، ولا يقيم وزناً لمنافع ومصالح أشخاص معينين وإلى رؤوس أموالهم على حساب دماء الناس وأعراضهم من رعايا الدولة حتى ولو كانوا من غير المسلمين.

 

هذه الجدلية التي حيرت البشرية هذه الأيام والمفاضلة بين الإنسان وتحمل فاتورة غلق الاقتصاد أم الاقتصاد ثم ليهلك الضعفاء ويبقى الأقوياء!! هذه الجدلية استطاع الإسلام أن يضع لها نظاما يضمن الحفاظ على الإنسان كأهم موضوع، ويعالج آثار الغلق الاقتصادي على الدولة والمواطنين على حدا السواء.

 

هذه النظام يتخلص في كلمتين "التكافل المجتمعي".

 

إن نظام التكافل المجتمعي في الإسلام يقوم في نظرته العالية والرشيدة والمرشدة على تحمل المجتمع ككل المسؤولية، كل على حسب طاقته وقدرته ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وليس التواكل أو تحميل الدولة فقط المسؤولية تجاه المجتمع؛ فالمجتمع أكبر من الدولة وبه من الإمكانيات ما لا يمكن أن يتوفر للدولة وبإدراك أبنائه لهذه الرؤية الإسلامية يستطيع القادرون من أبناء المجتمع أن يقدموا خدمات جليلة للفقراء والمعوزين في المجتمع، ويتلافوا أضرار غلق الاقتصاد على الدولة بتحمل الكثير من وظائفها الإدارية ومسئولياتها المجتمعية، وأضراره على الطبقات المعدمة والفقيرة بمساعدتها على تجاوز هذه الأزمة العابرة حتى تستطيع أن تنهض وتقف على قدميها وتنزل للعمل مرة أخرى بعد فتح الاقتصاد. وهذا ليس تفضلاً ولا منّة من الأغنياء والقادرين على الفقراء والمساكين، ولكنه حق معلوم قرره الإسلام وكفله الشرع.

 

فلقد حرص الإسلام على بناء المجتمع المسلم البناء القوي والمنيع الذي يستطيع به أن يواجه الكوارث والأزمات، والفتن والتحديات في هذه الحياة. ومن تتبع آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحياة المجتمع المسلم في القرون الأولى، يجد الكثير من النصوص الشرعية، والتوجيهات النبوية، والصور الرائعة، والممارسة العملية، التي تبين أهمية ذلك؛ من خلال الدعوة إلى التعاون والتكافل والتراحم والتعاطف، في كل وقت، وخاصة عند نزول المصائب، وحلول الكوارث، وحدوث الفتن والشدائد، فعندها فإن الأمر يكون أوجب، والأجر يكون أعظم.

 

قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر:9]، وقال: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة:2]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج:77]، وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:71]

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"

وقال: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً".

 

وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- صورة من صور التكافل المجتمعي الراقي، وهم في أحلك الظروف، وأشد الأوقات، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين -قوم أبي موسى الأشعري- إذا أرملوا -أي فني زادهم- في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم".

 

وجاء الصحابة -رضوان الله عليهم- على نفس درب نبيهم ملتزمين بتعاليمه ومنهجه؛ فهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في عام الرمادة، وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع، بسبب القحط، جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت، والزبيب، فجاءه تجار المدينة، وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان لهم: لقد بعتها بأكثر من هذا، فقالوا: نزيدك الدرهم بخمسة؟ فقال لهم عثمان: لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة، فقالوا له: فمن الذي زادك؟ وليس في المدينة تجار غيرنا؟ فقال لهم عثمان: لقد بعتها لله ولرسوله؛ فهي لفقراء المسلمين.

 

ومن خلال فهمنا لقيمة التكافل المجتمعي في الإسلام وإنزاله على أرض الواقع تحظى المجتمعات بأهم هدف في أوقات الأزمات والنكبات والأوبئة، ونقصد به السلام والأمن المجتمعي؛ فالتكافل يجعل المجتمع لحمة واحدة، وطبقة واحدة، وبه تتحول الطبقة الثرية من عوامل الترف والانغماس في الملذات وطرائق الأذى إلى عوامل الإحسان والبذل والعطاء وقيم الحب والتفاني في خدمة الآخر، وبالتالي نضمن القضاء على التذمر ومشاعر الكراهية والسخط لدى الفقراء والمعوزين تجاه الأغنياء، وما يستتبعه من وقوع الاضطرابات والفتن والقلائل وانقطاع حبل الأمن وشيوع الخراب في الربوع الآمنة. وهذا ما رأينا أثره رأي العين في المشاهد المروعة للتقاتل بين الناس على السلع والحاجات ونهب المحال والأسواق بسبب قوانين الحظر والحجر المنزلي في الدول الغربية التي غاب عنها نور الإسلام وقيم التكافل المجتمعي، رأينا العجائز يتركون في دور المسنين بلا رعاية ولا عناية طبية حتى ماتوا وتعفنت أجسادهم كما حدث في إيطاليا وإسبانيا وغيرهما.

 

لذلك فإن الكوارث والمشاكل لم تتأزم في بلاد المسلمين كما تأزمت في بلاد الغرب -رغم ثرائها- بل إن أحكام الإسلام ونظرته للإنسان وسرعته في المعالجة، وأسسه التي تمنع الخلل قبل وقوعه كل ذلك يعالج المشكلة في مهدها ويعمل على حلها حلاً سريعاً، وهذا الأمر يتناسب مع كرامة الإنسان ورفعته، وإنه لحري بالبشرية أن تسعى إلى تبني هذا النظام الرباني الفريد الذي يعرف للإنسانية قدرها في ظل دولة إسلامية عالمية تشمل كل أرجاء المعمورة. وإنه لحري بالدعاة والخطباء والعلماء أن يجعلوا جلّ حديثهم وخطابهم الدعوي والوعظي اليوم متركز على نشر قيم التكافل المجتمعي وقيم الإحسان ونفع الآخرين ومساعدة الناس وقضاء حوائجهم، فهي القيم التي ستبقي سفينة المجتمع آمنة ثابتة مستقرة وتحفظها من الانهيار والغرق.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات