عناصر الخطبة
1/أهمية الوسطية ومعناها 2/وسطية الإسلام وتحذيره من الإفراط والتفريط 3/وسطية الإسلام في الاعتقادات والعبادات 4/وسطية الإسلام في التشريعات والحرياتاقتباس
خير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين.. والآفاتُ إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها.
قال الشاعر: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ *** بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا، وهذا ميزان الشريعة التي بنيت على الاعتدال الخيِّر، الذي...
الخطبة الأولى:
عرفنا في الجمعة الماضية في إطار حديثنا عن مدرسة النبوة: أن الدين عند الله الإسلام، وأن جمال التدين وحسنه، يقتضيان الوقوف عند حدود الله، واتباع منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما عرفنا: أن الأمة الإسلامية، ولله الحمد بخير، وأن بوادر النهوض بعد الكبوة بادية، وبشائر القوة بعد الضعف لائحة، وأن هذا من أعظم الأسباب التي جعلت أعداء الدين يكيدون لشباب المسلمين بشتى أنواع الكيد والمكر، عسى أن يكسروا في نفوسهم جذوة التدين، ويطفئوا في قلوبهم نور التسنن.
وكلامنا اليوم -إن شاء الله تعالى- حول إحدى الخصال الجميلة التي حث عليها القرآن الكريم في مواطن كثيرة، وعمقتها مدرسة مُبلغ القرآن -صلى الله عليه وسلم- في صور عديدة، يتعلق الأمر بصفة: "الوسطية"، التي تحفظ المسلم من الانزلاق إلى الطرفين، وتضمن له نهج خَيْر الخَيْرَيْن.
ومعنى الوسطية: الخيار العدل من كل شيء، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، ولا مبالغة ولا ميوعة.
وكل ذلك متضمن في قوله تعالى في وصفه لأمة المسلمين: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].
أي: خيارا عدولا، يرجع الناس إليكم في أحكامهم، ويقبسون من أخلاقكم، ويأتسون بهديكم، فأنتم حَكَم عليهم: محتجون عليهم في الدنيا، وشهداء عليهم في الآخرة.
وفي الحديث: "أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ" [متفق عليه].
همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إِذا نزلت إِحدى الليالي بِمُعْظَم
وهذا يقتضي من المسلم: أن يعبد الله بعلم، وأن يحذر مكائد الشيطان الذي يُحيد عن الطريق المستقيم، ويُزيغ عن الهدي القاصد، الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ هَدْياً قَاصِداً ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ الدِّينَ يَغْلِبْهُ" [صحيح الجامع].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا" [البخاري].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ما أمر الله -عزَّ وجل- بأمر، إلا وللشيطان فيه نزغتان: إمَّا تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفِر من العبد من الخطيئتين".
وقال الأوزاعي -رحمه الله-: "ما من أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ به، إلا عارض الشيطانُ فيه بخصلتين، ولا يبالى أيهما أصاب: الغلو، أو التقصير".
وذلك قَسَم أقسم به الشيطان حين قال: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 17].
فلا خير في تشريعِ ما لم يشرعه الله، كما لا خير في الزيادة عما شرعه الله، قال ابن القيم -رحمه الله-: "خير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين.. والآفاتُ إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها.
قال الشاعر:
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ *** بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
وهذا ميزان الشريعة التي بنيت على الاعتدال الخيِّر، الذي يرعى مصالح العباد، ولا ينأى بهم عن الفطر السليمة، قال الشاطبي -رحمه الله-: "الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذِ من الطرفين بقسط لا ميل فيه".
1- ففي مجال الاعتقاد، نجد الإسلام وسطا بين الملل، فلا إلحاد ولا وثنية، لا عبادة الأصنام، ولا عبادة الأحجار التي استهوت اليوم أزيد من ثلث سكان العالم، بل عبادة خالصة لله تعالى، على الوجه المشروع، الذي دل عليه الدليل الصحيح، في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل.
2- وفي مجال القضاء والقدر، فإن الإسلام وسط بين المغالين الذين يجعلون العبد مجبورا على فعله، والمفرطين الذين يجعلونه خالق أفعاله، لينطلقوا بعد ذلك إلى الحكم على الناس بالتكفير والإخراج من الملة، بمجرد أفعال صدرت من هذا أو ذاك، وإن لم يستحلوها، قال صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون" [مسلم].
لاَ تَذْهَبَنَّ فِي الأُمُورِ فَرَطَا *** لاَ تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا
وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا
3- وفي مجال الإيمان بالأنبياء، فإن المسلمين وسَط في اعتقادهم بأنبياء الله، يؤمنون بهم جميعا، لا يفرقون بين أحد منهم، ولكنهم يجزمون بأن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- خاتمتُهم، والمأمورُ باتباعه بعد بعثته دون سواه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم، ما حلَّ له إلا أن يتبعني" [حسنه في المشكاة].
والمسلمون لا يغلون في نبيهم غلو النصارى في عيسى -عليه السلام-، ولا يجفون عنه جفاء اليهود لأنبيائهم، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" [البخاري].
4- وفي مجال العبادة، أرشد ديننا إلى التوسط فيها والاعتدال، فإذا كان بعض الناس قد فرطوا في عبادتهم، فتكاسلوا في الصلاة، وتماوتوا في الصيام، وتهاونوا في الزكاة، وانشغلوا عن الحج، ولربما قدموا هواهم ومصلحتهم العاجلة على مصلحة الشرع الباقية، حتى صدق عليهم قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
فإن آخرين تفانوا في عبادات، وابتهالات، وأدعية، وصلوات، ليس عليها دليل شرعي، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) [النساء: 171].
ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مغبة الغلو في العبادة بما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم، فقال: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" [متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا" [البخاري].
وفي الحديث الآخر: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ" [صحيح الجامع].
وخير الهدي هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
عَلَيْكَ بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّها *** نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولاً وَلَا صَعْبَا
الخطبة الثانية:
5- وفي مجال التشريع، نجد ديننا وسطا بين طرفين؛ طرفٍ كلف النفوس ما لا تطيق، حتى جعلوا تعمد إضناء الجسد بالجوع والعطش عبادة، والمشي بدون نعل قربى، والمكوث تحت حرارة الشمس مجاهدة، والاستنكافَ عن الطيبات تربية، والله -تعالى- يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[الأعراف: 32].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ"[متفق عليه].
قال ابن حجر -رحمه الله-: "لا يتعمقْ أحد في الأعمال الدينيَّة، ويتركِ الرفق، إلا عجز وانقطع، فَيُغْلَب".
وطرفٍ أحل ما حرم الله، وحكَّم العقل القاصر في أحكام الشريعة الربانية، وحكم على بعضها بالتخلف عن معطيات العصر، وعجزها عن مسايرة الركب.
وَلاَ تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ *** كِلاَ طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمورِ ذَمِيمُ
6- أما في مجال الحقوق والحريات، فلن تجد أعظم من الإٍسلام وسطية واعتدالا، فللرجل حقوقه، وللمرأة حقوقها، وللزوج حقوقه، وللزوجة حقوقها، وللآباء حقوقهم، وللأبناء حقوقهم، وللإخوة حقوقهم، وللأقارب حقوقهم، وللجيران حقوقهم، كل ذلك في إطار من التوازن، يضمن تماسك المجتمع، ويحقق التكامل بين أفراده، قال تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190].
وأقر النبي -صلى الله عليه وسلم- قول سلمان لأبي الدرداء -رضي الله عنهما-: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"[البخاري].
وهذه الحقوق ضابط لمعنى الحرية، التي يجب أن تصب في معنى هذا التماسك والتوازن، لا أن تكون إطلاقا لعنان النفس، تعب من الشهوات، وتكرع من النزوات والنزغات ما يصبح حربا على هذا المجتمع، فتتقطع أوصاله، ويضيع نسيجه.
ومن ثم شرعت العقوبات الزاجرة، تظهيرا لهذا المجتمع من المتجاوزين لحدود الشرع، المتمردين على ضوابطه التي ما شرعت إلا لمراعاة مصالح البلاد والعباد: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 - 16].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم