عناصر الخطبة
1/الحث على اغتنام العشر 2/حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر 3/الأمن والسكينة في ليلة القدر الجليلةاقتباس
أيها الصائم: هذه ليالي القُرب، فيها تُسكَب دموعُ الخشوع في محراب السَّحَر، فيها همساتُ التوبة مع هدوء الليل، ولحظات الانكسار بين يَدَيِ الغفَّارِ، فَمَنْ أضاعَها فقد أضاع أعظمَ ما في رمضان، ومَنْ أهمَلَها فقد فوَّت فرصةً لا تُعَوَّض، مَنْ قصَّر في أيامه الماضية ها هي العشر بين يديه، فليستدرِكْ ما فاتَ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بلَّغَنا العشرَ الأواخرَ، وجعَلَها موسمًا للخيرات والفضائل الزواهر، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تُنِير السرائرَ، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، خيرُ مَنْ سجَد لله في الأسحار الطواهر، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ما تعاقبتِ الأعوامُ والدوائرُ.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد، ونجاة يوم العرض والحشر، ومَنْ تمسَّك بها فاز بالأمن والأجر.
ها هو رمضان يُشرِف على نهايتِه، ويشدُّ رحالَه، وأيامُه تمضي سريعةً، ولياليه تتسابَق في الرحيل، وأعظمُ لياليه قد حلَّت، عشر ليال من نور، كلُّ لحظةٍ فيها كنزٌ، وكلُّ سجدةٍ فيها رفعةٌ، وكلُّ ساعةٍ محفوفةٌ بالرحمة، مغمورةٌ بالبركة، يتجلَّى فيها لطف الله، تفتح فيها أبواب العتق وتتنزل المغفرةُ، فيها اجتَهَد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- اجتهادًا عظيمًا، لا يجاريه اجتهادُه في غيرها، كان يُحيي الليلَ قيامًا، يُكثِر من التهجد والدعاء، كأنها الفرصة الأخيرة، وقد علم أن فيها ليلة القَدْر، ليلةً أنزَل اللهُ فيها القرآنَ، ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، فيا لَه من كرم، ويا له من فيض رحمة! ليلة واحدة تمحو الأوزارَ، وتغفر الذنوب، وتسمو بالأرواح، حتى تبلغ منازلَ المخلصينَ.
أيها الصائم: هذه ليالي القرب، فيها تُسكَب دموعُ الخشوع في محراب السَّحَر، فيها همساتُ التوبة مع هدوء الليل، ولحظات الانكسار بين يَدَيِ الغفارِ، فَمَنْ أضاعَها فقد أضاع أعظمَ ما في رمضان، ومَنْ أهمَلَها فقد فوَّت فرصةً لا تُعَوَّض، مَنْ قصَّر في أيامه الماضية ها هي العشر بين يديه، فليستدرِكْ ما فاتَ، وليغتنِمْ قبلَ أن يتحسَّر ويقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الْفَجْرِ: 24].
في هذه الليالي يُناجى الربُّ، ويبكي التائب من الذنب، وتُتلى الآياتُ بخشوعِ القلبِ، وتُمحى الخطايا فيحل الرضا والقُرْب، كم من بعيد عن الله ردَّتْه هذه الليالي إلى النور، وكم من غافل أيقظَتْه من سُباته، وكم من مذنب غسلَتْه دموعُ التوبة بين يدَي الرحمنِ، فهنيئًا لمن جعَلَها نقطةَ تحوُّلٍ في حياته! ويا لَخسارة مَنْ غفَل عنها حتى رَحَلَتْ!
"كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخَل العشرُ شدَّ مئزرَه، وأحيا ليلَه، وأيقظ أهلَه"(رواه البخاري)، لم تكن لياليه كسائر الأيام، بل كانت مشحونة بالعبادة، عامرة بالذكر، وشد مئزرة؛ أي اجتهد في العبادة وأعرض عن الدنيا، فكان في هذه الليالي المباركة لا يعرف للراحة طريقًا، ولا للغفلة مكانًا بين يدي الله راكعا ساجدًا داعيًا متضرعا، لم يكتف بنفسه، بل أيقظ أهله، وحثهم على اغتنام هذه الساعات النفيسة، قال -سبحانه-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 26].
حين يسدِل الليلُ ستارَه، وتغفو العيونُ تهبُّ الأرواحُ العطشى للرحمة والمغفرة، تقف بين يدَيْ ربِّها تُناجِيه بدموع خاشعة، وتملأ الأجواءَ بتلاوة مبارَكة، تعرج بها الكلمات إلى السماء، وتحفُّها أنفاس الرجاء، فيا مَنْ أثقلته الذنوبُ، وأرهقته الخطايا، هذا زمان الصفح، هذا مَيْدان التنافس، فانهض وتُبْ واغتنِم الفرصةَ، قبلَ أن ترحل العشرُ، فالدعاء باب مفتوح، وعطاء بلا حدود، والذِّكْرُ أنسٌ للروح، وراحةٌ للفؤاد، والصدقة بركة مضاعَفة، وأجر عظيم، والاعتكاف صفاء واصطفاء، وتجديد للعهد مع الإيمان، فيا باغيَ الخيرِ هذا زمانه، ويا طالبَ القُربِ هذه ساعتُه، قال -تعالى-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[الْبَقَرَةِ: 148]، قال الله -تعالى- في ليلة القدر: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[الْقَدْرِ: 5]، آية قصيرة تحمل بحرًا زاخرًا من المعاني، تحمل بين طياتها الخيرَ والسلامةَ، لكل قائم ومجتهد، لكل داعٍ ومتضرعٍ، السلام هذه الليلة سكينة تغشى القلوب، وطمأنينة تعم النفوس، وأمان من العقوبة، ورحمة لا شقاء بعدها، هو سلام من الله، وسلام من الملائكة، وسلام يعم الأرض ومن فيها، قلوب المؤمنين تغمرها الطمأنينة والعافية، فلا خوف ولا قلق ولا وحشة، ولا ضيق، وكما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا يقدر الله فيها إلا السلامة والطمأنينة والعافية" انتهى. فمن كُتِبَ له فيها الخير سعد أبد الدهر، ومن حرمها غرق في ظلمات الحسرة والندامة؛ (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[الْقَدْرِ: 5]، سلامٌ ممتدٌّ لا ينقطع في منتصف الليل، ولا يتلاشى عند السَّحَر، بل يبقى حتى إشراقة الفجر، وكأنَّ اللهَ يُمهِل عبادَه ويفتح لهم أبوابَ الرجاء حتى اللحظة الأخيرة، يمنحهم الفرصةَ ليدعوه، ليستغفروه، وليتطهروا من ذنوبهم، فهذه ليلة عطاء لا ينفد، ورحمة لا تنقطع، لمن أقبَل بقلبه وتضرَّع بروحه، قال الله -تعالى-: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[طه: 82].
إنها ليلةٌ قد تُغَيِّر مصيرَكَ، قد تكون الحدَّ الفاصلَ بين ماضٍ مثقَلٍ بالذنوب، ومستقبَل يُشرق بالتوبة، ليلة ترفعُكَ درجاتٍ، وتمحو عنكَ سيئاتٍ، وتُبدِّل حالَكَ من غفلة إلى هداية، ومِنْ بُعدٍ إلى قُربٍ، والعاقل لا يَدَعُها تمرُّ وهو غافلٌ، ولا يُفوِّتُها وهو منشغلٌ بما لا ينفع، بل يقف بين يدَيْ ربِّه مُخبِتًا وَجِلًا طالبًا منه العفو، مُردِّدًا بيقينٍ: "اللهمَّ إنكَ عفوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي".
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[الْقَدْرِ: 1]، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حث على المسارعة إلى المغفرة والأجر، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المصطفى بالوحي والأمر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما جرى الماء في النهر.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد، وعنوان السعادة والرشاد.
في ليلة القدر المبارَكة تُرفَع أعمال العباد، وتُسطَّر أقدارُهم، ويقضي الله بحكمته في شؤون الخلق، كما قال -تعالى-: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدُّخَانِ: 4]، فيها تقدر الأرزاق، وتُدوَّن الآجال، وتحدد مصائر العام المقبِل، فمن أراد أن يقبل دعاؤه فعليه أن يتضرع إلى ربه بقلب خاشع، والله كريم لا يرد مَنْ أخلَص له النيَّةَ، وأقبَل عليه بصدق، وقد سألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: تقولين: اللهمَّ إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
ألَا فأكثِرُوا من الصلاة والسلام على نبي الْهُدَى، وخير من وطئ الثَّريّ، صلوا على من زكاه ربه وأكرمه واصطفاه، فما طابت المجالس إلا بذكره، وما سعدت الأرواح إلا بحبه، ومن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، اللهمَّ صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمر اللهمَّ أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهمَّ إنَّا نسألكَ الجنةَ وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل، اللهمَّ إنَّا نسألكَ من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهمَّ أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصَّر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الْهُدَى لنا، اللهمَّ إنه قد حل بفلسطين من البلاء والضر ما أنت عليم به وقادر على كشفه، اللهمَّ ارفع عنهم البلاء الذي نزل بهم، اللهمَّ إنهم حفاة فاحملهم، وجياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، ومظلومون فانتصر لهم، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم الصهاينة المعتدين.
اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهمَّ وفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، ووفِّقْ وليَّ عهدِه لما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، وانفع بهما الإسلام والمسلمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وسُنَّة نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم