عناصر الخطبة
1/الإجازة الصيفية موسم من مواسم الاستجمام 2/التربية وثقافة الاستهلاك 3/مساوئ ثقافة الاستهلاك 4/ ثقافة الاستهلاك تستنـزِف أهم مقومات الحياة 5/أهمية تربية النشء آداب القرآناقتباس
الثقافة الاستهلاكية المسرفة في كل شيء المستنزفة للثروات ومقومات الحياة ليست من القضايا الاجتهادية التي تحتمل اختلاف وجهات النظر؛ ولكنها أمرٌ منكر صرّح الكتاب والسنة بإنكارها، وحارب كثيراً من صورها، ووضع بديلا عنها ميزاناً قسطاً قيماً عدلاً، وكم هو مؤسف أن يكون أتباع هذا الدين العظيم هم أكثر مخالفةً له في هذا الشأن الخطير ..
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه .
أيها المسلمون: أتت الإجازة الصيفية لتكون موسماً من مواسم، فهي موسم من مواسم الاستجمام، وهي في ذلك موسمٌ من مواسمِ التبذير والإسراف، وشاهدٌ من شواهدِ ثقافة الاستهلاك الطاغية، فالإجازة موسم من مواسم الأعراس، وفي حفلات أعراسنا تبذير وإسراف، والإجازة موسم من مواسم السياحة، وفي سياحتنا بذخٌ وهَوَسُ تسوق. والإجازة موسم من مواسم اللهو والترفيه، وفي لهونا فوضى وإسراف.
ولكل مجتمعٍ صبغةٌ ظاهرةٌ في مواسمه، وصبغتُنا الغالبةُ في كل موسم هي ثقافةُ الاستهلاك، التي تعني أن نطبخَ ما لا نأكل، وأن نشتريَ ما لا نحتاج، وأن ننفقَ ما لا يحتمله دَخْلُنا، وأن نستدينَ من أجل مظاهر جوفاء.
ثقافة الاستهلاك تربيك منذ طفولتك أن ثقافة الادخار عار يناقض الكرم، وغطاءٌ يسوَّغُ به البخل، ولذا فليس عليك إلا أن تنفق ما في الجيب لتستدرَّ ما في الغيب، ولسان هذه الثقافة يقول لك: أنت تدَّخِر إذن أنت بخيل.
وليس هذا فحسب! بل أنت ـ في عين هذه الثقافة ثقافة الاستهلاك ـ متّهمٌ في توكُّلك على الله حينما تتدخر القرش الأبيض لليوم الأسود، إنها تعظك في هذا لتقول لك: اتق الله! فإذا كنت تقلق لمستقبلك وتحتسب له بما تدخره فأين توكلك على الله؟! لكن حين تسرف وتستنفق المال في مظاهر جوفاء لتتشبَّعَ بما لم تعطَ فأنت غير مسرف ولا متكلف ما ليس لك، بل أنت متوكل على الله حق توكله.
ثقافة الاستهلاك هذه: ثقافةٌ تخلِطُ الأوراق، ولا تميز بين التهور وحسنِ التوكل، ولا تفرق بين الكرم والإسراف، ولا بين البذخ والسخاء، فالكرم هو الإسراف، وهو عينه التبذير. والبذخ هو السخاء عينه، والاقتصادُ في المآكل والولائم هو البخل ذاته.
وثقافة الاستهلاك هذه تتعمد الخلطَ بين الأمور الحاجية والأمورِ الكمالية، فملاحقتُك للموضات وآخرِ الموديلات شراءً أو استبدالاً ولو كنتَ من غير الطبقة الثرية يُعدُ في نظر هذه الثقافة أمراً سائغاً؛ لأنه في مفهومها محسوبٌ من مراعاة الحاجيات، وليس التحسينيات الكمالية.
لقد أفسدت ثقافة الاستهلاك كل شيء حتى مفهوم السياحة المباحة البريئة أفسدته هذه الثقافة، وأصبحت سياحةُ العائلات سياحةَ تسوق وتبضّع تكاد تنحصر سياحتهم في الأسواق، تسافر العائلات بحقائب معدودة؛ لترجع بأضعاف ما خرجت به، من يرانا يرثى لحالنا ويظن أننا من بلدٍ ليس به أسواق.
والإحصاءات تكشف أن مجتمعاتِنا تنفق على السياحة ما لا تنفقه الشعوب الأخرى، حتى شعوب الدول الغربية ذات الدخول المرتفعة، مما يدل على أن القوةَ الشرائية ليست هي العامل الأول في المسألة، فسائحونا ليسوا كلهم من الأثرياء، فأكثرهم من الطبقة الوسطى أو دون ذلك؛ ولكنهم يبدون لك في ثوب الغني وأبهته.
ثم انظر إلى مفهوم الترفيه في مجتمعنا، تجد ثقافة الاستهلاك غالبةً فيه، فأكثر الأُسر لا تفهم للترفيه معنى إلا تزجية الأوقات في الأسواق، وقد يفعل هذا بعضهم ذلك اضطراراً أو مجاراة؛ لأنه لا يجد بدائل مناسبة، فالمجتمع برمته قد قولب على هذا النمط: أن يكون ترفيهه فيما يستهلك ماله.. في المجمعات التجارية ترويجاً للبضائع المتكدِّسة واستغلالاً لحاجة الأسر إلى الترفيه عن أولادها.
وكم نغّصت أفراحَنا هذه الثقافةُ التي ترى البذخ والإسراف كرماً حاتمياً غلاءٌ في المهور، وتكلفٌ وبذخ وإسراف في حفلات الزواج وولائم الأعراس، لتصبحَ الديون هماً ثقيلاً يزاحم هموماً أخرى للعريس المسكين.
وإذن فإنما هي ثقافة الاستهلاك التي تسيطر على العقول لتنفض ما في الجيوب، والتي تحمل بعضنا على أن يستدينَ من أجل أن يجاري المجتمع، ولسان حاله يقول: لست أقل من غيري.
وأخطر ما يكون الأمر حين تكون ثقافة الاستهلاك مستنـزِفةً لأهم مقومات الحياة.. حياةِ كل مجتمع، حين تكون مستنـزفةً للماء الذي لا حياة بدونه، وتسرب المياه من البيوت إلى الشوارع كجداول الأنهار هو صورةٌ من صور أهدار المياه.
العجيب أن يكون استهلاكُ شعبٍ في صحراء قاحلة للمياه يقارب استهلاكَه من شعوب تجري الأنهار من تحتها، ومن يرانا يظن أننا في بلد لا تنقطع عنها الأمطار.
هذه الثقافة الاستهلاكية المسرفة في كل شيء المستنزفة للثروات ومقومات الحياة ليست من القضايا الاجتهادية التي تحتمل اختلاف وجهات النظر؛ ولكنها أمرٌ منكر صرح الكتاب والسنة بإنكارها، وحارب كثيراً من صورها، ووضع بديلا عنها ميزاناً قسطاً قيماً عدلاً، وكم هو مؤسف أن يكون أتباع هذا الدين العظيم هم أكثر مخالفةً له في هذا الشأن الخطير.
إن هذه الثقافة الاستهلاكية ليس لها اسم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا اسم الإسراف والتبذير، الذي يصل إلى حد السفه الموجب للحجر. وليس لهذه الثقافة نصيب من المدح والثناء في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وماذا عسانا أن نقول بعد قول الحق جل جلاله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).
أين نجد أنفسنا من تلك القاعدة الربانية التي هدانا إليها ربنا جل جلاله في قوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً).
وأين نحن من امتثال قوله سبحانه: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً).
وأين نحن عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في فعله وقوله: «كلوا واشربوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة».
أليس في تحذيره صلى الله عليه وسلم من إشغال الذمة بالديون مزدجرٌ لضحايا ثقافة الاستهلاك؟
إن هذه الثقافة الطاغية تستوجب من النَّصَحَة الغيورين مجاهدة وصبراً في هذه المجاهدة؛ لأنهم يواجهون أعرافاً متجذرة، وعادات متقادمة، ومخالفتها فضلاً عن مواجهتها تتطلب صبراً واحتمالاً وشجاعةً وجسارةً في الحق، وهذا كله محسوب من الصدع بالحق عند سلطانٍ جائر، وسلطان المجتمع في أعرافه المخالفة لهدي الإسلام لا شك أنه سلطان جائر يوجب مواجهته بكلمة الحق ولكن بحكمة وأناة.
وتربية النشء على ثقافة أخرى توافق آداب القرآن وتخالف هذه الثقافة الاستهلاكية لهي من أوجب ما يجب على الآباء وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
بارك الله ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم