الأوائل وفوائد العلم بها

صالح المغامسي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الأوائل حسًّا ومعنًى 2/ من فوائد العلم بالأوائل 3/ أول المساجد بناءً 4/ أول من يجتاز الصراط 5/ أول ما يقضى فيه بين العباد يوم القيامة 6/ أول ما يُرفَع من الأرض 7/ أول ما يُحاسب عنه العبد يوم القيامة 8/ أول آل البيت لحوقًا بالنبي صلى الله عليه وسلم 9/ فضائل آل البيت 10/ أهمية التوحيد.

اقتباس

ثمة أمور تتعلق بأوائل الأشياء حسًّا ومعنًى أخبر عنها -صلى الله عليه وسلم-، والعلم بها يزيد المؤمن هدًى وبصيرة وتقى لربه، وذلك من أثمن المطالب ومن أعظم ما يأمل المؤمن أن يدركه. من الأوائل التي أخبر عنها نبينا -عليه الصلاة والسلام- الأوائل في المساجد سأله أبو ذر -رضي الله عنه وأرضاه- أيّ مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قال أبو ذر: ثم أيّ يا رسول الله؟ قال: "المسجد الأقصى"، قال: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة".

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (.. خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى) [الأعلى: 2- 5].

 

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله بلَّغ عن الله رسالاته ونصح به في برياته نبي سلَّم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه. اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اتبع أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

 

 أما بعد: عباد الله: فإن تقوى الله -عز وجل- أعظم وصايا وأجل العطايا لا يستكبر عنها مؤمن، ويتقبلها كل مؤمن تقي نقي، هي وصية الله -عز وجل- للسابقين قبلنا، قال ربنا -تبارك اسمه وجل ثنائه-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].

 

تكفَّل الله -عز وجل- لأهلها بالأمن مما يخافون، وبالنجاة مما يحذرون، وبالرزق من حيث لا يحتسبون؛ فقال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2- 3].

 

أيها المؤمنون: المسلمون مُجمعون على أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- بلَّغ عن الله رسالاته، وأكمل النصح لأمته، وأنه -عليه الصلاة والسلام- أصدق الخلق قيلاً، وأفصحهم بلاغة وأجلّهم بيانًا، يأتيه جبريل -عليه السلام- بخبر السماء من الله إليه، قال شوقي -رحمه الله-:

والآي تترى والخوارق جمة *** جبريل روَّاح بها غدَّاء

 

ثمة أمور تتعلق بأوائل الأشياء حسًّا ومعنًى أخبر عنها -صلى الله عليه وسلم-، والعلم بها يزيد المؤمن هدًى وبصيرة وتقى لربه، وذلك من أثمن المطالب ومن أعظم ما يأمل المؤمن أن يدركه.

 

أيها المؤمنون: من الأوائل التي أخبر عنها نبينا -عليه الصلاة والسلام- الأوائل في المساجد سأله أبو ذر -رضي الله عنه وأرضاه- أيّ مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قال أبو ذر: ثم أيّ يا رسول الله؟ قال: "المسجد الأقصى"، قال: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة".

 

فالمسجد الحرام بنص القرآن من قبل وبكلام الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أول مسجد وُضع في الأرض، قال ربنا: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96- 97].

 

جعل الله -عز وجل- الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، وجعلها قبلة لأهل الإسلام (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 144]، حتى المؤمن إذا قُبض ووضع في لحده أو شقه وضع وجهه نحو القبلة نحو المسجد الحرام إجلالاً لهذا البيت العظيم والموقف الكريم، كما أراد الله -عز وجل- قدرًا وشرعًا.

 

ونبينا -صلى الله عليه وسلم- حَظِي بأمور عظام -صلى الله عليه وسلم-، صلى إمامًا في المسجد الحرام يوم الفتح، وفي حجة الوداع، وصلى إمامًا بإخوانه من النبيين والمرسلين بالمسجد الأقصى، وصلى إمامًا بأصحابه -رضوان الله عليهم- عشر سنين بالمسجد النبوي، فجمع الله له الإمامة في هذه المواطن العظام والمساجد الثلاثة، قال الموفق:

أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم

لما رأوك به التفوا بسيدهم *** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم

صلى وراءك منهم كل ذي خطر *** ومن يفز بحبيب الله يأتمم

 

فطوبى لعبد يسَّر الله له أن يأتي البيت العتيق فيطوف به ويصلي خلف مقام إبراهيم اتباعًا لهدي وسنة الحبيب الشريف صلوات الله وسلامه عليه.

 

أيها المؤمنون: أنبأ -صلى الله عليه وسلم- عما يكون يوم القيامة، وسئل -عليه الصلاة والسلام- عن الصراط وأخبر أنه مدحضة مذلة، ولما سأله الحبر من أحبار اليهود قال: يا أبا القاسم! أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ قال: "هم في الظلمة دون الجسر"، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال "فقراء المهاجرين".

 

فأخبر -صلوات الله وسلامه عليه- أن فقراء المهاجرين أول من يجتاز الصراط والصراط مدحضة مذلة يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمشي مشيًا ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم أخيار قبل ذلك يمر أحدهم كالبرق، ويمر أحدهم كأجاود الخيل، ويمر أحدهم يمشي، وهم على ثلاثة: فمسَلَّم ينجيه الله -عز وجل- أصلاً، ومسلَّم مخدوش، وغير ذلك من غير خيار مؤمنين، أما من الكفار أو المنافقين أو عصاة الموحدين من تخطفه النار أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله.

 

والمراد أن يعد الإنسان عملاً ويتقي الله -جل وعلا- في دار أعدها الله للتكليف حتى إذا كتب الله له أن يمضي على الصراط مضى كأحسن ما يكون لما قدمه من قبل من عمل صالح، قال ربنا (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 71- 72].

 

أيها المؤمنون: أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن الدماء وعظَّم شأنها، والشرائع التي قبله -صلوات الله وسلامه عليه- اتفقت في أصل الدين وأصل التوحيد، والدعوة إلى إفراد الله بالعبادة، واختلفت شيء ما في الشرائع والأحكام، ومع ذلك اتفقت الشرائع كلها على ثلاثة أشياء؛ نهى الله -عز وجل- عنها، جمعها الله -جل وعلا- في سورة الفرقان قال ربنا (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) [الفرقان: 67].

 

فالشرك وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق والزنا، هذه الثلاث حرمت في شرائع الأنبياء جميعًا بغير استثناء، وسفك الدماء شأن عظيم، قال الله -عز وجل- في وعيد من يقدم على مثل هذا (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].

 

يفر المؤمن أن يقع في هذا، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- لما أخبر عن أوائل الأشياء قال كما في الصحيح من حديث ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة الدماء"، فيفر المؤمن أن يسفك دم مسلم كائنًا من كان إلا بحق، ومعنى إلا بحق أن تقوم عليه الحجة.

 

ويتولى ذلك قاضي المسلمين، ثم يتولى ولي الأمر إنفاذ ذلك القصاص شرعًا تعزيرًا أو حدًّا،  كل ذلك ينبغي أن يكون وفق طرائق مثبتة شرعًا، أما أن يسفك المسلمون دماء بعض؛ فهذا من أعظم النكال الذي حرَّمه الله وحرَّمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد يتورع المسلم أن يباشر هذا العمل بيديه، لكنه قد لا يتورع من أن يسهم فيه بقول أو همز أو لمز، أو غير ذلك إثارة للفتن ودفعًا للشحناء وإيثارًا بالبغضاء بين المؤمنين يعزم عليها ويقدم بكلمة أو بقول، وكلما كان الإنسان على هدي قويم متمسك بما كان عليه سلف الأمة الصالح فـ"إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا" كذا قال الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.

 

ثم أوصى ووصى فقال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، فترك الله لنا إرثًا عظيمًا من لدن الصديق والفاروق والحيي عثمان وأبي السبطين علي -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.

مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم *** فسيروا كما ساروا على الدهر واصنعوا

 

يفر المؤمن من الفِرَق والأحزاب والجماعات والألوية والطرائق التي تسهم في فُرقة المسلمين قال ربنا: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92]، وقال -عليه الصلاة والسلام- "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم"، وقال وهو الصادق المصدوق: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب".

 

أيها المؤمنون: أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن الخشوع، وقد دل القرآن من قبل على أن الخشوع من أعظم المناقب، قال ربنا في وصف عباده المتقين وأوليائه المقربين: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1-2]، والخشوع وفق المنهج اللغوي أقرب ما يكون ملتصقًا بالجوارح كما أن الضراعة تكون أقرب ما هي ملتصقة بالقلوب، قال الله -عز وجل-: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)، وقال ربنا (وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ)، فعلقها بالجوارح وقال ربنا: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76]، وهذا أقرب أن يكون خطابًا عن القلوب.

 

والمراد أيها المؤمنون أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول ما يُرفَع في أمتي الخشوع حتى لا تكاد ترى فيها خاشعًا"؛ أعاذنا الله وإياكم من أن ندرك ذلك اليوم.

 

المؤمن إذا خَشِي الله في قلبه وعظَّمه محبًّا له ومجلاً وكساه ماء وضوئه، وأقبل على الصلوات الخمس، وأكثر من ذكر الله، وعلم جلال المقام بين يدي الله ورث خشوعًا في قلبه وجوارحه وسكينة في نفسه، كان مقربًا إلى ربه معظمًا عند خلقه من الملائكة الذين يشهدون عمله، ومن الناس الذين يلقي الله -عز وجل- محبته، ومن أقبل على الله -عز وجل- بقلبه أقبل الله -عز وجل- إليه بقلوب عباده.

 

فالله الله في الخشوع في صلواتكم وسائر عباداتكم، عظموا ربكم -جل وعلا- في السر والعلانية، واخشوه -تبارك اسمه وجل ثناؤه- غيبًا وشهادة، وتعظم الخشية ويعظم حقها في العلماء أكثر من غيرهم لما علموه أصلاً من عظمة الله، قال ربنا -جل ذكره-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28]، جعلني الله وإياكم من القانتين الخاشعين..

 

أيها المؤمنون: وكما أن الخشوع مرتبط بالصلاة؛ فإن الصلاة أول ما يُحاسب عنه العبد يوم القيامة، قال أنس بن حكيم الظبي: قدمت المدينة فلقيت أبا هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- فقال لي يا فتى: "ألا أعلمك علمًا ينفعك الله -تبارك وتعالى- به؟" قلت: بلى، قال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أول ما يُحاسَب عليه الناس يوم القيامة الصلاة".

 

فالعبد فيما بينه وبين الله أول ما يُحاسب عليه الصلاة، وفيما بينه وبين الناس أول ما يُقضى فيه الدماء، فالصلاة شأنها عظيم، وهي ركن مكين، وخير موضوع، من حفظها فقط حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع، ولا ينبغي لمؤمن يعقل عظمة الوقوف بين يدي الله، ثم يسمع الأذان تلو الأذان فلا يجيبه، ويسمع النداء فلا يلبيه لا يفعل هذا -عياذًا بالله- عمدًا وتهاونًا إلا من قسا قلبه وضعف الإيمان في فؤاده وبعُد عن رحمة ربنا -تبارك اسمه وجل ثناؤه-، وكان الحرمان والخذلان أقرب إليه من توفيق الله -عز وجل- ورحمته.

 

أما إذا سمع المؤمن النداء فأجابه ولبَّاه وأجاب المؤذن، وخطت به قدماه إلى بيوت الله، فهذا على خير عظيم وموطن كريم، فالصلاة خير موضوع، فمن الناس مستقل منها ومنهم مستكثر، والموفق من وفقه الله.

 

زادني الله وإياكم هدى وتوفيقًا، وجعلني الله وإياكم ممن يعتصم بالكتاب والسنة، وهدانا أجمعين إلى طريق الجنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وسلاما على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

 

عباد الله: فإن نبينا -صلى الله عليه وسلم- عاش ثلاثة وستين عامًا أربعين، منها قبل أن ينبأ ويبعث وثلاثة عشر عامًا نبيًّا ورسولاً يدعو إلى الله في مكة، ثم كتب الله -عز وجل- له الهجرة فهاجر إلى المدينة، فمكث فيها عشر سنين -صلوات الله وسلامه عليه-، وكان ربه قد أنبأه من قبل (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر:30]، وقال عنه (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144].

 

وقد مرض -صلى الله عليه وسلم- مرض وفاته بعد عودته -عليه الصلاة والسلام- من حجة الوداع حتى كان يوم الاثنين اليوم الذي قُبض فيه -صلوات الله وسلامه عليه- دخل عليه عبد الله بن أبي بكر، ثم دخلت عليه ابنته فاطمة البَضْعَة النبوية -رضوان الله تعالى عليها- فأدناها منه، فأخبرها أن جبريل كان يراجعه القرآن في كل عام مرة، وأنه راجعه القرآن في هذا العام مرتين، ثم قال لها فما أراه إلا حضور أجلي فبكت -رضي الله عنها وأرضاها-، ثم أسرها في نفس خبر الباب الذي نحن فيه في الحديث عن الأوائل فقال له: "أنت سيدة نساء أهل الجنة، وأنت أول أهلي لحوقًا بي"، فسُرَّت -رضي الله عنها-؛ لأن الصادق المصدوق أخبرها أنها أول أهله لحوقًا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة.

 

وفاطمة -رضي الله عنها وأرضاها- أشبه الناس مشيةً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أحب خلق الله إليه، ولما أصابه بعض الغضب من شفاعة أسامة بن زيد -رضي الله عنه وعن أبيه-، قام -عليه الصلاة والسلام- خطيبًا في أشرف بقاع الله في مكة قال: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، فضرب مثلاً بأحب الخلائق إليه حتى يقطع الناس الأمل في أنه -صلى الله عليه وسلم- يماري أحدًا في دين الله.

 

ثم إنها -رضوان الله تعالى عليها- ماتت بعد النبي الخاتم -عليه الصلاة والسلام- بستة أشهر ودُفنت في بقيع الغرقد، وهي زوجة علي -رضي الله عنه وأرضاه- ابن عم رسول الله -صلى الله عليه سلم- آخر الخلفاء، وهي أم السبطين الكريمين ريحانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن والحسين -رضوان الله تعالى عليهما-.

 

فأما الحسن فقد شهد له النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن الله سيُصلح على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وقال عنه: "إن ابني هذا سيد"، وهذه شهادة عظيمة جليلة؛ لأن السؤدد لا يأتيه كل أحد، وأما الحسين -رضوان الله تعالى عليه- فيضرب به المثل في عزته ومروءته وقربه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الشاعر الموفق عنه:

مسح النبي جبينه فله بريق في الخدود *** أبواه من عليا قريش وجده خير الجدود

-صلوات الله وسلامه عليه-.

 

وهؤلاء الأربعة هم آل بيته الخاصين، وعترته المباركين، وهم في مقام واحد مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة كما جاء ذلك في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- بسند صحيح وهم الذين جللهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بكساء وقال: "اللهم هؤلاء آلي فصلِّ على محمد وآله".

 

وهؤلاء المباركون هم الذين أخذهم النبي -صلى الله عليه وسلم- معه يوم أن طلب أسارى نجران أن يباهلوه فخرج وهؤلاء الأربعة معه، فلما رآه نصارى نجران قالوا: إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيل الجبال عن أماكنها لأزالها.

 

قال ربنا: (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران:61].

 

فمحبتهم دين وملة وقربة على أن الإنسان يعقل ويعلم أن هؤلاء الأخيار عاشوا حياتهم كلها يعظِّمون الله ويوحدونه، ولا يدعون غيره ولا يلجئون إلى سواه، وبما في قلوبهم من التوحيد، وإفراد الله للعبادة رفع الله مقامهم، وأجلَّ الله مكانهم، وكان علي -رضي الله عنه وأرضاه- يقول لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثي إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا تجد صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".

 

فهذا علي -رضي الله عنه وأرضاه- في توحيده أو في علمه أو في شجاعته إمام يُقتفى وعبد صالح مقرَّب من الله ونبيه يُجتبَى، قال -عليه الصلاة والسلام- ليلة خيبر: "لأعطين الراية غدًا الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، فبات الناس ليلتهم يتساءلون أيهم يُعطاها، فلما أصبح -عليه الصلاة والسلام- أعطاها لعلي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.

 

وإن من قرائن محبته -رضوان الله عليه- ومحبة زوجه البتول والسبطين المباركين وجميع آل بيته أن يسير الإنسان على نهجه، ويقتفي أثرهم فلا يشرك بالله أحداً، فإذا كان في السراء شكر الله -عز وجل- وحده (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)، وإذا كان في الضراء لجأ إلى الله -عز وجل- وحده، هذا هدي الأنبياء وسيرة الرسل وآل بيتهم وأتباعهم، كل الأخيار منذ آدم إلى أن تقوم الساعة لا يقبلون طرفة عين أن يسألوا أحدًا غير الله ولا أن يلجئوا إلى أحد سواه؛ لأن هذا نهى الله -عز وجل- عنه أعظم نهي، وأجل بيان، فقد ذكر الله -جل وعلا- الأخيار المباركين من الأنبياء المقربين (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام:83].

 

ثم ذكر الله -عز وجل- بعد إبراهيم سبعة عشر نبيًّا مباركًا رسولاً بعثهم الله إلى الأمم دعاة إلى الحق وهداة إلى الجنة، ثم قال بعد ذلك عنهم على رفيع مقامهم وجليل مكانتهم (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:88]، فدعاهم -جل وعلا- وهم المبعدون عن مثل هذا الأمر دعاهم إلى توحيده وإفراده -جل وعلا- بالعبادة، فلا يقبل الله -عز وجل- من أحد عملاً إذا أشرك به طرفة عين، ويتوب الله -عز وجل- على العبد أيًّا كانت معاصيه إذا شاء ربنا برحمته إن لقي الله -عز وجل- موحدًا لا يشرك به شيئًا، فتوحيد الله -عز وجل- أصل الإسلام، قال الموفقون من العلماء في مثل هذا:

هو دين رب العالمين وشرعه *** وهو القديم وسيد الأديان

هو دين آدم والملائك قبله *** هو دين نوح صاحب الطوفان

وله دعا هود النبي وصالح *** وهما لدين الله معتقدان

وبه أتى لوط وصاحب مدين *** فكلاهما في الدين مجتهدان

هو دين إبراهيم وابنيه معا *** وبه نجا من لفحة النيران

وبه حمى الله الذبيح من البلا *** لما فداه بأعظم القربان

هو دين يعقوب النبي ويونس *** وكلاهما في الله مبتليان

هو دين داود الخليفة وابنه *** وبه أذل له ملوك الجان

هو دين يحيى مع أبيه وأمه *** نعم الصبي وحبذا الشيخان

وكمال دين الله شرع محمد *** صلى عليه منزل القرآن

 

أنتم اليوم في يوم الجمعة سيد الأيام، فأكثروا فيه من الصلاة والسلام على سيد الأنام (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

 

 

 

المرفقات

وفوائد العلم بها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات