الأناة

أحمد عبدالرحمن الزومان

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ أهمية الأناة وفضلها 2/ التأني في الطلاق 3/ التأني في نقل الأخبار

اقتباس

من التأني الواجب عدم الاستعجال في نقل الأخبار التي تتلقى من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وإشاعتِها بين الناس لاسيما وسائل الإعلام العالمية؛ فخبر الفاسق المسلم يتوقف فيه حتى يتبين صدقه من كذبه؛ فكيف بخبر الكافر؟ ويكون الأمر أشد إذا كان ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

 

عباد الله: الأناة في الأمور كلها والتثبت وترك العجلة والطيش والنظر في المصالح والمفاسد خلق يحبه الله ويرضاه؛ ففي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة وفد عبد القيس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة" رواه مسلم.

 

ففي الأناة وعدم الاستعجال يحصل به كثير من المصالح ويدرأ به كثير من المفاسد بخلاف العجلة؛ فكم من مصلحة فاتت بها، وكم من مفسدة كان يمكن تداركها لولا العجلة والطيش؛ فالرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه؛ فكفى بالرفق فضلاً ونفعاً في العاجل والآجل أنه اسم من أسماء الله تعالى؛ فعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه" رواه مسلم.

 

فعلينا في الرفق والأناة في أمورنا كلها وترك العجلة. ومن ذلك حين وقوع المنكر فيجب التأني وعدم الاستعجال في إنكار المنكر، فيتثبت أولاً أن هذا منكر، ثم يبحث عن السبب الحامل على ذلك، ثم تراعى المصالح والمفاسد في ذلك وهذا هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فجل المنقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يبدأ في إنكار المنكر مباشرة، بل يتثبت أولاً من المخطئ، ثم يقوم -صلى الله عليه وسلم- بالاحتساب عليه، وشواهد ذلك كثير في السنة.

 

ومن ذلك ما رواه يزيد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجته قال فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخَيْف، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر المسجد لم يصليا معه فقال: "علي بهما" فأتي بهما تَرْعَد فرائصهما قال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟!" قالا: يا رسول الله قد كنَّا صلينا في رحالنا قال: "فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنَّها لكما نافلة" (رواه الإمام أحمد:17020) وغيره بإسناد صحيح.

 

فكم من شخص استعجل وأنكر أمراً يظنه على خلاف الحق، ثم تبين أنه مخطئ، فأوقع نفسه -في أحسن الأحوال- في مرارة الاعتذار وطلب العفو، أو فات ما لا يمكن تداركه.

 

روى البخاري في الأدب المفرد بإسناد حسن عن الحسن البصري أن رجلاً توفي وترك ابناً له ومولى له، فأوصى مولاه بابنه فلم يألوه حتى أدرك وزوَّجه، فقال له: جهزني أطلب العلم، فجهزه فأتى عالماً، فسأله فقال: إذا أردت أن تنطلق فقل لي أعلمْك، فقال: حضر منى الخروج فعلمني، فقال: "اتق الله، واصبر، ولا تستعجل" قال الحسن: "في هذا الخير كله، فجاء ولا يكاد ينساهن؛ إنما هن ثلاث"

 

فلما جاء أهله نزل عن راحلته، فلما نزل الدار إذا هو برجل نائم متراخ عن المرأة، وإذا امرأته نائمة! قال: والله ما أريد ما أنتظر بهذا؟ فرجع إلى راحلته فلما أراد أن يأخذ السيف قال: اتق الله واصبر ولا تستعجل، فرجع فلما قام على رأسه قال ما أنتظر بهذا شيئاً، فرجع إلى راحلته، فلما أراد أن يأخذ سيفه ذكره، فرجع إليه، فلما قام على رأسه استيقظ الرجل، فلما رآه وثب إليه فعانقه وقبله وساءله قال: ما أصبت بعدي؟ قال: أصبت والله بعدك خيرا كثيراً، أصبت -والله- بعدك أني مشيت الليلة بين السيف وبين رأسك ثلاث مرات، فحجزني ما أصبت من العلم عن قتلك. (حسن الإسناد).

 

ومن التأني الواجب: التأني في الطلاق؛ وذلك بأن لا تطلق المرأة وهي حائض أو في طهر جامعها فيه؛ لتطول مدة النظر في الفرقة، وبطول الوقت في كثير من الأحيان يزول الغضب، ويرجع الود والمحبة إلى الزوجين وتنقشع سحابة الخصام.

 

وبعد النظر والتفكير في أمر الطلاق يجب التأني مرة ثانية حينما يعزم الزوج على الطلاق، ويرى أنه السبيل الأفضل؛ وذلك بأن يطلق طلقة واحدة، ولا يطلق ثلاثاً بلفظ واحد أو متفرقة.

 

ومن شؤم العجلة في الطلاق ربما رفع الأمر إلى مفتٍ أو قاض يرى وقوع الثلاث فيجعل الطلاق بائناً (فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة:230] فلا يقر للمطلق قرار، ولا يهنأ بلذيذ الطعام والشراب، ويتعب نفسه في الذهاب والإياب متنقلاً بين أهل العلم؛ لعله يجد من يفتيه بأن هذا الطلاق رجعي.

 

فإن لم يظفر ببغيته وخرج الأمر من الفتوى إلى الحكم بالطلاق لجأ إلى التحايل على حكم الله وشرعه، وبحث له عن تيس مستعار ينزو على مطلقته ثم يطلقها؛ لتعود إليه، وقد جعل الله له في الأمر أناة. فهذا جزاء من استعجل في الطلاق، وخالف الأمر، وعمل بمقتضى الغضب فأوقع نفسه في العنت والمعصية؛ لمخالفته أمر ربه حيث يخاطبه ويخاطب عموم المؤمنين بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق:1].

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الرفيق الذي أمر بالرفق في الأمر كله، وذم العجلة، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

وبعد: من التأني الواجب عدم الاستعجال في نقل الأخبار التي تتلقى من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وإشاعتِها بين الناس لاسيما وسائل الإعلام العالمية؛ فخبر الفاسق المسلم يتوقف فيه حتى يتبين صدقه من كذبه؛ فكيف بخبر الكافر؟

                            

ويكون الأمر أشد إذا كان محارباً لا يريد لهذه الأمة خيراً، بل يريدها أن تستمر في غفوتها وخنوعها لعدوها يخاطبنا ربنا -عز وجل- آمراً بالتثبت في الأخبار بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].

 

فمن الخطأ حينما يرد خبر أو تحليل يتلقاه البعض على أنه من المسلمات، ويقوم بإشاعته بين الناس، وهو خبر يحتمل الصدق والكذب والتحليل قد يصيب الحقيقة أو بعضها أو يخطؤها؛ فأين التثبت في هذه الأخبار؟! وكيف يسوغ لمسلم يقرأ هذه الآية أن يتلقف الأخبار ويشيعها بين الناس من غير تروي وتثبت؟!

 

وإذا كان مصدر الخبر مجهولاً كذلك لا بد من التثبت قبل نقله امتثالاً للأمر؛ فمن الخطأ الذي يقع به البعض نقل وإشاعة ما يطلع عليه في مواقع الإنترنت من أخبار مجهولة المصدر، ولا تعرف عدالة كاتبها، بل لا يعرف هل هو من المسلمين أم من الكافرين؟

 

ومن التأني في نقل الأخبار -بعد التأكد من صحتها- النظر هل في نقلها مصلحة وفائدة، فتنقل؛ أما إذا كان في نقلها مفسدة فتترك فلا بد من النظر في المصالح والمفاسد في نقل الأخبار؛ سواء كانت مفسدة خاصة أو عامة، فهذه الأخبار والتحاليل ليست أولى من الأخبار الشرعية، وقد تكون المصلحة في كتمانها وعدم إشاعتها عند من يسيء فهمها، وربما اعتمد عليها وترك العمل فهنا يشرع أن لا تشاع في أوساط عامة الناس؛ ففي حديث أبي هريرة الطويل: حينما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة" فلقيه عمر فقال: ارجع يا أبا هريرة فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عمر ما حملك على ما فعلت؟" قال: يا رسول الله -بأبي أنت وأمي- أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فخلهم" رواه مسلم.

 

فأكثر ما يقال وما يتناقله الناس الأفضل تركه لعدم ظهور المصلحة فيه يقول ربنا -عز وجل-: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].

 

عباد الله: الأناة خلق يفطر الله بعض خلقه عليه، فيكون جبلة لهذا الشخص من غير تكلف، لكن يمكن للشخص أن يتحلى بالأخلاق الحسنة وإن لم يفطر عليها، فيجاهد نفسه على عمل الحسن وترك القبيح من الأقوال والأفعال؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري: "ومن يصبر يصبره الله وما أعطي أحد من عطاء خيرٍ وأوسعَ من الصبر" رواه البخاري ومسلم.

 

فبمجاهدة النفس يقويه الله ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وتذعن لمعالي الأمور، وتبعد عن ما يشينها. وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه" رواه الخطيب البغدادي في تاريخه وحسنه الألباني.

 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات