اقتباس
فكر الصليبيون في كيفية التخلص من عماد الدين زنكي، وبعد تفكير وتقليب في من سيقوم بهذه المهمة قرروا إسناد مهمة الاغتيال لمجرمين محترفين مأجورين متخصصين في هذا الطريق وهم الحشاشون وهى فرقة باطنية وإحدى الفرق الشيعية وقد أسسها رجل اسمه الحسن الصباح بعد أن تعلم الزندقة والإلحاد في مصر أيام المستنصر الفاطمي ولما عاد إلى الشام أسس هذه الفرقة التي تعتمد على الاغتيال والغدر مقابل الأموال والضياع، وكان الباطنية أشد ضرراً وخطراً على المسلمين من الصليبيين واليهود، قتلوا كثيراً من قادة الإسلام من خلفاء وأمراء ووزراء وفقهاء وعلماء وخطباء، خدمة للمشروع الصليبي في الشام.
في خضم الاجتياح الصليبي للمشرق الإسلامي كان المسلمون يتطلعون إلى قائد قوي وزعيم مخلص يلم شعثهم، ويجمع شتاتهم، ويوحد جهودهم، ويسير بهم نحو غايتهم المنشودة وهدفهم الأسمى في طريق الجهاد والتحرير، فقد مضت السنوات الطويلة ولم يستطع المسلمون كسر الوجود الصليبي ببلاد الشام والذي تمثل في تأسيس أربع ممالك صليبية في الرها وطرابلس وبيت المقدس وأنطاكية. في حين كان العالم الإسلامي ممزق بين طوائف ودول وإمارات وممالك وصراعات عقيمة على الملك والحكم والنفوذ بين الملوك والأمراء والوزراء وقادة الجند، وقد وهي مركز الخلافة الإسلامية للحضيض، وأصبح المسلمون مثل الغنم القاصية في الليلة الشاتية، من كثرة المخاوف والنزاعات ومخططات الأعداء. في هذه الأجواء اليائسة سطع نجم جديد في سماء المجد والكرامة الإسلامية، نجم طال غيابه، وبدر افتقده المسلمون لعهود. سطع نجم البطل الهمام، ذي الشجاعة والإقدام، والعزم الذي ينام، البطل عماد الدين زنكي.
الميلاد والنشأة:
وُلد عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان سنة 477 هـ / 1084م في أسرة تنتمي إلى قبائل (الساب يو) التركمانية، وكان والده آق سنقر الحاجب مملوكًا للسلطان السلجوقي ملكشاه، وكان مقربًا إليه، ذا حظوة ومكانة لديه، وقد اعتمد عليه في كثير من الأمور فلم يخذله قط، وهو ما جعله ينال ثقته ورضاه، وزاد من منزلته عنده، ورفع من قدره لديه. واشترك آق سنقر الحاجب في كثير من معارك السلاجقة، فولاه السلطان ملكشاه ولاية حلب، واستطاع آق سنقر الحاجب خلال ولايته على حلب أن ينشر الأمن في البلاد، ويوقف أعمال السلب والنهب التي انتشرت في ذلك الوقت، وألحقت ضررًا بالغًا بالزراعة والتجارة، بعد أن تصدى لنشاط قطاع الطرق واللصوص، وكتب إلى عماله يأمرهم بتتبع المفسدين وتوفير الأمن والحماية للمسافرين. فلما توفى ملكشاه عام (485هـ -1096م)، تولى الحكم من بعده ابنه بريكا روق، فثار عليه عمه تاج الدين تتش، وتصدى له آق سنقر الحاجب بجيوشه، ولكن تتش تمكن من هزيمة قواته في (جمادي الأولى 487 هـ -مايو 1094م) وأسره، وما لبث أن قتله. وهكذا بذل آق سنقر الحاجب حياته وفاءً لسلطانه ملكشاه، وحفاظاً على ولده بريكا روق من بعده.
لم ينس السلطان بريكاروق تضحية آق سنقر الحاجب في سبيل ملكه ووفاءه له، فوجه جل اهتمامه وعنايته نحو ابنه الوحيد (عماد الدين زنكي) الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، فأقام عماد الدين في حلب في رعاية مماليك أبيه، فنشأ منذ نعومة أظافره على الفروسية والبطولة ومعالي الأمور، مخالطاً للقادة والولاة والفرسان، فلا عجب أن ينشأ مثلهم، مع ما أوتي من مواهب لدنية في الذكاء والفطنة وحسن السياسة. ثم ما لبث أن انتقل عام (489هـ - 1096م) إلى الموصل؛ ليحظى برعاية القائد السلجوقي كربوقا، فظل ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة (495هـ - 1101م)، فخلفه عليها شمس الدين جكرمش الذي قرّ به وأحبه واتخذه ولدًا، وظل عماد الدين ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة (500 ه - 1106م)، فتولى الموصل من بعده جاولي سقاو، وتوطدت علاقة عماد الدين بالوالي الجديد، حتى خرج ذلك الوالي على السلطان، فانفصل (عماد الدين) عنه، وانضم إلى الوالي الجديد مودودو به التونتكين الذي عينه السلطان على الموصل، وكان ذلك مدعاة إلى إكبار السلطان له، وثقته فيه، وزيادة حظوته ومكانته عنده .
اشترك (عماد الدين) مع مودودو به التونتكين في معاركه الكثيرة التي خاضها ضد الصليبيين في (الشام) و(الجزيرة)، وقد لفت إليه الأنظار بشجاعته الفائقة ومهارته القتالية العالية. وعندما تولى السلطان السلجوقي محمود -بعد وفاة السلطان محمد بن ملكشاه سنة (511هـ - 1117م)- حدثت عدة محاولات للثورة ضده، ولكن عماد الدين ظل على ولائه للسلطان، فاستطاع أن يحظى بثقته فيه وتقديره له، كما أثبت جدارته في ولايته الجديدة بواسط، وتمكن من صد هجمات الأعراب الدائمة عليها، ونشر الأمن في ربوعها.
عماد الدين والخلافة العباسية:
دفعت مواقف عماد الدين زنكي الطيبة من إحداث تمرد والي الموصل السابق (جاولي سقاو) السلطان السلجوقي لئن يلحقه بالعمل في شحنة –الحامية المدافعة- بغداد في عهد الخليفة المسترشد بالله العباسي، وبالفعل التحق عماد الدين زنكي بها، وترقى في سلك الجندية حتى صار مقدم عساكر مدينة واسط ثم ظهرت كفاءته القتالية سنة 517 في قتاله مع الخليفة العباسى المسترشد بالله ضد أحد الثوار الشيعة واسمه دبيس بن صدقة. وعندما تدهورت العلاقات بين الخليفة العباسي المسترشد والسلطان السلجوقي (محمود) في عام 519 هـ كان لعماد الدين دور كبير في إنهاء الصراع بينهما، وتجاوز الأزمة بأمان قبل أن يتفاقم الموقف، وتحدث مواجهة وخيمة العواقب بين الطرفين، مما جعل السلطان السلجوقى محمود يرقيه؛ ليصبح قائد شحنة بغداد سنة 521 هجرية ويعطيه لقب الأتابك أى مربى الأمير، ذلك لأنه توسم فيه الخير والصلاح والنجابة، فعهد إليه بتربية ولديه ألب أرسلان وفروخ شاه.
بعد أن أصبح عماد الدين زنكى قائداً لشحنة بغداد، حدث تغير كبير فى مجرى الأحداث فى منطقة الشام الملتهبة حيث توفي أمير الموصل عز الدين مسعود، وحاول بعض المنتفعين تولية ولده الصغير مكانه، ولكن قاضي الموصل بهاء الدين الشهرزورى ذهب إلى السلطان محمود وطلب منه تعيين أمير قوى وكفء للموصل التى على حدود الشام حيث الوجود الصليبى الكثيف فى سواحل الشام منذ ثلاثين سنة والذي أسفر عن قيام أربع ممالك صليبية. بعد تفكير سريع وإمعان نظر عميق قرر السلطان محمود أن يسند ولاية الموصل وأعمالها إلى بطلنا عماد الدين زنكي، الذي لم يجد السلطان محمود أفضل منه لهذه المهمة، وكانت هذه الولاية سنة 521 هجرية أي بعد شهور من قيادته لشحنة بغداد، وكان هذا التاريخ إيذاناً بعهد جديد فى الصراع ضد الصليبيين وفاتحة خير على الأمة كلها.
عماد الدين وتوحيد الجبهة الشامية:
لعل أكثر ما تميز به عماد الدين زنكى عن قادة زمانه هو فهمه لحقيقة المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية وإحساسه بالمسئولية تجاه أمته وإيثاره لمصلحتها على مصلحته الخاصة وعمله بمقتضى ما يجب عليه وقتها، لذلك فاق ملوك زمانه وعلا ذكره عنهم.
الصورة كانت قاتمة في بلاد الشام إلى حد كبير، فالصليبيون قد احتلوا معظم سواحل الشام وأقاموا أربع إمارات صليبية، أما المدن والحصون التى تحت حكم المسلمين فهى تعاني من الفرقة والاختلاف والتنافر وربما التقاتل فيما بينها، فكل وال على مدينة يتعامل فيها كأنه ملك مستقل عن سائر البلاد، وأغلبهم بل كلهم يتقي شر الصليبيين ويتحاشى الصدام معهم خوفاً على ضياع ملكه وانهدام دنياه، وهذا الخذلان من ولاة الأمصار سهل للصليبيين مهمتهم وجعل وجودهم فى الشام يترسخ شيئاً فشيئاً،والجميع يتعامل مع الوجود الصليبي على أنه أمر حتمي لا مفر منه، ولا يمكن تغييره.
كان للقائد عماد الدين زنكي هدفاً محدداً وخطة معدة سلفاً منذ أن كان مقيماً في الموصل في طفولته ثم شبابه، فاشتراكه في القتال ضد الصليبين مع أمير الموصل مودودو به التونتكين أكسبته خبرة كبيرة في التعامل مع الحدث، ومكنته من وضع يديه على نقاط القوة والضعف، وأيضاً على أسباب فشل المسلمين في مواجهة العدو الصليبي. فقد وصل عماد الدين إلى قناعة مفادها، لا يمكن الانتصار بصف ممزق وجبهة مفككة. من البديهيات الأساسية في قتال أي عدو وطرد أي محتل وتحرير أي أرض أن تكون جبهة المقاومة والدفاع واحدة صلبة مجتمعة، إذ كيف يجاهد المسلمون بصف مهترىء ممزق؟! لذا كان أول ما سعى عماد الدين لتحقيقه هو تكوين وبناء القاعدة الصلبة للمسلمين بتوحيد الجبهة الداخلية للشام، وربما كانت هذه المهمة هى أصعب مرحلة فى مراحل الانتصار.
بدأ عماد الدين زنكي رحلة توحيد الشام بمدينة حلب فضمها إلى الموصل فى 1 محرم سنة 522 هجرية أي بعد شهور قليلة من ولايته على الموصل مما يوضح أن هذا الرجل الفذ كان يملك خطة شاملة ورؤية واضحة معدة سلفاً لحركته بأرض الشام، ثم قام بعدها بضم مدينة (حماة) فى السنة التالية 523 هجرية، ثم ضم مدينة سرجى وداراً ثم حصن الأثارب وكان بيد الصليبيين، ثم انشغل عماد الدين زنكي بالخلافات العنيفة بين الخليفة المسترشد والسلطان مسعود بل تورط فيها وذلك لعدة سنوات، ثم عاد بعدها لهدفه الأسمى وضم عدة قلاع للأكراد الحميدية والهكارية وقلعة الصور وواصل سعيه حتى استقامت له ديار بكر وإقليم الجبال سنة 528 هجرية، حتى استقامت معظم بلاد الشام لعماد الدين زنكي عدا ما كان بيد الصليبيين ودمشق قلب الشام وحاضرته.
البطل عماد الدين وإمبراطور بيزنطة:
لم تكن تحركات البطل الجديد عماد الدين لتخفى على أعدائه الصليبيين الذين تخوفوا من بعث جديد للصف المسلم يصبح وجودهم وكيانهم معه في خطر، ونظراً لقوة عماد الدين وطاعة الناس له، قرر الصليبيون تجرع السمّ من أجل مواجهته بطلب المساعدة من عدو لدود لهم وهو إمبراطور بيزنطة الذي كان دائماً على خلاف دائم مع الكيانات الصليبية في الشام.
ورغم الاختلاف المذهبي بين الصليبيين وامبراطور بيزنطة، فهم كاثوليك وهو أرثوذكسي، إلا إنهم في النهاية صليبيون فوافق فمانويل على نجدتهم. وأصبحت بلاد الشام في موقف حرج بالغ الخطورة، فإمبراطور بيزنطة (حنا كمونتين) جاءها بجيوش جرارة واخترق آسيا الصغرى، ولم يقدر أحد من سلاجقة الروم على إيقافه، ودخل إلى سورية بعد أن استولى على مدينة بزاعة وهي قريبة من حلب، فغدر بأهلها بعد أن أعطاهم الأمان، فقتلهم وسبى نساءهم، وهنا وقعت المنطقة بين مطرقة إمبراطور بيزنطة وسندان الصليبيين الفرنجة بالشام.
براعة عماد الدين لم تكمن في شجاعته ومهارته العسكرية فحسب، ولكنها كانت مزيجاً من الصفات المثلى للقائد الناجح، فقد استخدم عماد الدين نفس السلاح النبوي المستخدم يوم الأحزاب بالتخذيل والتفريق بين الأعداء المتحالفين عليه. فميزان القوة لم يكن في صالحه، والهجوم المزدوج جعله تكتيكاً في وضع صعب وحرج، فعمد إلى الحيلة والخداع الحربي، واستغلَّ الخلاف المذهبي بين الأرثوذكس والكاثوليك للتفريق بينهما، فأرسل إلى إمبراطور بيزنطة يُخَوِّفُه من نكصان الفرنجة للعهود وأنهم يتربَّصُون به، فإن فارق مكانه الذي فيه (قلعة شيزر) بالقرب من حماة سيتخلَّفُون عن نصرته. ثم أرسل إلى الصليبيين الفرنجة يُخَوِّفُهم من إمبراطور بيزنطة، ويقول لهم:"إنْ مَلَكَ بالشام حصنًا واحدًا ملك بلادكم جميعًا" ونجحت خطَّة عماد الدين زنكي، ووقع الخلاف بين الطرفين، وانسحب الإمبراطور من الشام، وترك المجانيق وأسلحة كثيرة بحالتها، حيث غنمها جيش الشام، وحرَّرُوا أسرى المسلمين، وارتفعت مكانة عماد الدين بين المسلمين، وعظمت هيبته في صدور الصليبيين.
عماد الدين وتحرير الرها:
إمارة الرها تقع في منطقة الجزيرة وهى المنطقة الواسعة الواقعة بين العراق وسوريا، وقد فتحها المسلمون سنة 17 هجرية، و(الرها) من البلاد التي كان لها خصوصية عن البيزنطيين؛ لأنها إحدى المدن الدينية عندهم وكانت تنتشر بها الكنائس والصوامع، وأيضاً لها خصوصية عند المسلمين؛ لكونها على حدود الدولة الإسلامية المشتركة مع الدولة البيزنطية، وكان الخلفاء دائمي الاهتمام بهذه المنطقة، ولكن مع ضعف الخلافة العباسية وخروج كثير من أجزائها عن سيطرتها تعرضت منطقة الرها للعدوان المتكرر من البيزنطيين، وعندما انطلقت شرارة الحملات الصليبية احتل الصليبيون (الرها) وأقاموا بها أول إمارة صليبية بأرض الإسلام وذلك سنة 492 هجرية.
كانت الرها قريبة من الموصل وكان أميرها داهية فرنسي اسمه (جوسلين) ففهم من تحركات عماد الدين زنكي أنه يخطط لفتح الرها فعمد إلى تقوية دفاعاتها والمبالغة فى تحصينها وظل مقيماً فى الرها لا يفارقها أبداً. وكان عماد الدين زنكي يعرف قدر (جوسلين) ودهائه وحنكته لذلك وضع خطة فى غاية الذكاء فهو كما يقولون (لا يفل الحديد إلا الحديد)، فلقد أظهر عماد الدين أنه مشغول بحرب القبائل الكردية التى تسيطر على قلاع كثيرة فى منطقة ديار بكر (جنوب تركيا الآن) وهي قبائل ذات نزعة استقلالية ولا تقبل الانضمام لصف عماد الدين زنكي لدواعى عصبية وقبلية، وبالفعل انطلت هذه الخدعة على (جوسلين) الذي خفف من شدة التحصينات وتراخى فى دفاعاته، حتى خرج بسرية من جنوده إلى (تل باشر) -على الضفة الغربية للفرات-؛ ليستجم ويتفرغ لملذاته. وكان عماد الدين زنكي قد بث العيون التى ترافع له الأخبار ليل نهار فلما علم مغادرة (جوسلين) وتراخت الدفاعات، نادى فى معسكر جيشه بالاستعداد للهجوم على الرها.
كان عماد الدين من أشجع الناس وأقواهم وأجرؤهم فى القتال لايجاريه أحد من جنده فى ذلك، وقبل القتال وضع عماد الدين مائدته للطعام وقال: "لا يأكل معي على المائدة إلا من يطعن معي غداً باب الرها" وهى كناية عن شدة القتال والشجاعة؛ لأن طاعن الباب يكون أول فارس فى الجيش يصل لباب المدينة ولا يفعل ذلك إلا أشجع الناس، فلم يجلس معه على المائدة إلا صبي صغير فقيل له :"ارجع مما أنت فى هذا المقام"، فقال له عماد الدين زنكي القائد المربى القدوة الذى يعرف كيف يحمس الشباب والنشء ويحفز طاقاتهم: "دعوه فوالله إنى أرى وجهاً لا يتخلف عني". وبالفعل أثمرت هذه الكلمات عن طاقة جبارة عند الصبي فكان أول طاعن وأول بطل فى هذه المعركة، وبعد (28) يومًا من الحصار انهارت بعض أجزاء الحصن، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت لقوات (عماد الدين) في (28 من جمادى الآخرة 539هـ = 27 من نوفمبر 1144م)، فأصدر عماد الدين أوامره إلى الجند بإيقاف أي أعمال للقتل أو الأسر أو السلب، وإعادة ما استولوا عليه من غنائم وأسلاب، فأعادوا كل ما أخذوه إلى أصحابه. وبدأ من فوره عملية تجديد وإصلاحات شاملة للمدينة، فأعاد بناء ما تهدم من أسوارها، وتعمير ما ضرب في الحرب أثناء اقتحام المدينة، وسار في أهلها بالعدل وحسن السيرة، حتى يعموا في ظله بالأمن والعدل.
كان لفتح الرها رنة شديدة فى العالمين الإسلامى والصليبى، فلقد كان أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ دخولهم للشام منذ خمسين سنة، وأعاد ذاكرة الانتصارات لهم وسرت روح جهادية كبيرة عند المسلمين بعدها وعادت لهم الثقة وتغلبوا على الهزيمة النفسية تجاه الصليبيين والتى أقعدتهم عن السعي للتحرير عشرات السنين، وفي المقابل قرر الصليبيون شن حملة صليبية جديدة على الشام؛ لاستعادة ما فقدوه، ولإعادة الروح والحماسة إلى الوجود الصليبي هناك.
نهاية البطل العظيم:
بعد الانتصار العالمى في (الرها) ضاقت السبل على أعداء الإسلام وأصبح كيانهم الصليبي بالشام والذي بنوه في خمسين سنة في خطر حقيقي في ظل وجود هذا الأسد الرابض، وبعد أن أعيتهم الحيل في ميادين القتال وصار ينتصر الأسد عليهم في كل موطن، قرروا اللجوء إلى سلاح الغدر والخيانة والأيدى القذرة التى لا تعمل إلا في الظلام.
فكر الصليبيون في كيفية التخلص من عماد الدين زنكي، وبعد تفكير وتقليب في من سيقوم بهذه المهمة قرروا إسناد مهمة الاغتيال لمجرمين محترفين مأجورين متخصصين في هذا الطريق وهم الحشاشون وهى فرقة باطنية وإحدى الفرق الشيعية وقد أسسها رجل اسمه الحسن الصباح بعد أن تعلم الزندقة والإلحاد في مصر أيام المستنصر الفاطمي ولما عاد إلى الشام أسس هذه الفرقة التي تعتمد على الاغتيال والغدر مقابل الأموال والضياع، وكان الباطنية أشد ضرراً وخطراً على المسلمين من الصليبيين واليهود، قتلوا كثيراً من قادة الإسلام من خلفاء وأمراء ووزراء وفقهاء وعلماء وخطباء، خدمة للمشروع الصليبي في الشام.
ولم يمض عامان على ذلك النصر العظيم، حتى تم اغتياله في 6 ربيع الآخرة 541 هـ / 15 سبتمبر 1146م خلال حصاره لقلعة جعبر على يد (يرنقش)-كبير حرسه-الذي تسلل إلى مخدعه فذبحه وهو نائم. ويرى عدد من المؤرخين أن اغتيال (عماد الدين) جاء لأسباب سياسية أكثر منها شخصية، فقد كان في أوج انتصاره على الصليبيين، كما حقق انتصارًا آخر على المستوى الإسلامي بعد أن نجح في توحيد الصفوف وتكوين جبهة إسلامية قوية، ومن ناحية أخرى فقد كانت قلعة (جعبر) على وشك السقوط بعد أن بلغ حصاره لها مداه، فضلاً عن أن قاتله (يرنقش) كان من الباطنية، وقد استطاع التستر والانتظار طويلاً-على عادة الباطنية-حتى حانت اللحظة المناسبة لتنفيذ جريمته، فاغتال (عماد الدين) وهو في قمة مجده وانتصاره. وهكذا مات البطل وترجَّل الفارس وحطَّ الراكب بعد حياة طويلة كلّها جهاد وكفاح ونصرة للإسلام وأهله. وبعد أن أحيا ما كان مندثرًا وأعاد ما كان مفقودًا، ووضع الأساس المتين لمَنْ جاء بعده، -فرحمه الله رحمة واسعة-، وغفر له ما كان من خطايا وزلات.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم