الأمن

محمد بن إبراهيم الشعلان

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: قضايا اجتماعية
عناصر الخطبة
1/ الحاجة الماسة لنعمة الأمن 2/ قصور النظرة المادية لجلب الأمن 3/ استجلاب الأمن بالتقوى والإيمان 4/ كيف نحافظ على أمن بلادنا؟ 5/ المسؤولية الجماعية في الحفاظ على الأمن

اقتباس

ومن أعظم البركات التي تأتي من السماء الأمن في البلاد، فالإيمان والتقوى هما السبب الأعظم والوسيلة الكبرى لجلب الأمن والاستقرار، أمن القلوب وأمن الأبدان والأوطان، فإذا ما فَقَدَ الناس الإيمان والتقوى فُقِدَ الأمن، وإذا ما ضعف الإيمان وضعفت التقوى ضعف الأمن.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، أحمده -سبحانه- وأشكره وهو ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين.

 

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، وإماماً للمتقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه خير الأصحاب أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه، وتوبوا إليه جميعاً أيها المسلمون؛ لعلكم تفلحون، واشكروه -سبحانه- على نعمة الإسلام، واسألوه الهداية إليه والثبات عليه إلى يوم الدين.

 

عباد الله: الأمن في البلاد ضرورةٌ ماسّةٌ، لكي يعيش الناس في استقرار وراحة بال، والشعوب جميعاً، شرقيها وغربيها، مؤمنها وكافرها، تريد الأمن وتسعى إليه.

 

ولا شك أن الأمن من أكبر النعم وأعظمها، ويكفي في فضله أن الله -عز وجل- امتنّ على قريش به في قوله -تعالى-: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [سورة قريش].

 

وفي سنن الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسمه، معه قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا"، وما أشد الحياة على الناس إذا عاشوا في خوف وجوع! نسأل الله السلامة والعافية.

 

عباد الله: لو نظرنا إلى الواقع نظرة تأمّل لوجدنا أن الشعوب الكافرة بقياداتها، وبعض الشعوب المسلمة بقيادتها، تسعى إلى جلب الأمن لها ولبلادها بالأمور المادية المحسوسة، وتغفل الأمور المعنوية المشروعة، والتي هي -في الحقيقة- أهم الوسائل لجلب الأمن وتحصيله.

 

أما الشعوب الكافرة وقياداتها، فكفى بكفرها بربها -جل وعلا- ذنبا، وكفي بكفرها سببا لزوال الأمن من بلادها، وحلول الخوف والوجل في قلوبها، قال -جل وعلا-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]. ومهما فعلت من الأسباب المادية فلن تغني عنها شيئاً.

 

أما المسلمون الذين يقتصرون على الأسباب المادية فحسب لجلب الأمن في بلادهم فقد قصروا تقصيراً واضحاً، وأهملوا السبب الأكبر والأعظم لجلب الأمن وحصوله.

 

تأمين الثغور والحدود بالقوات، هل يكفي في حصول الأمن للبلاد؟ كلا! لا يكفي وحده، فكم من بلاد أتيت من مأمنها الذي جعلته سببا للأمن!.

 

كثرة الأموال والدفع منها لمن يخشى شره على البلاد، هل يكفي في حصول الأمن والاستقرار؟ فالمال ينفد، والدفع منه يطمع المدفوع له في التمادي في شره، وكم من بلاد كانت ذات اقتصاد عظيم، فافتقرت وصارت مدينة لغيرها!.

 

كثرة العدد والعتاد، هل يكفي في جلب الأمن؟ أبداً، لا يكفي، فالعدد يقل، والعتاد يضعف، فالقوة الرومية والفارسية بادت وهلكت أمام جحافل التوحيد، فكسرى أهلكه الله وقيصر أهلكه، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده". ونحن نرى بلاداً في هذا الزمان قل عددها، وضعف عتادها، وتفككت بعد اتحادها.

 

ترك الحرية للناس يعملون بما تهوى نفوسهم، وتهيئة وسائل الترفيه لهم، كاف في حصول الأمن؟ أبداً! هذه الشعوب الكافرة التي جعل لها الحرية في بلادها، وهيئت لها من وسائل الترفيه ما لم يهيأ للمسلمين في بلادهم، فهل جلب لهم ذلك الأمن والاستقرار؟ أبداً! الجريمة عندهم فاشية، ورذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال منتشرة، والخوف والهلع مسيطر على نفوسهم، والتفكك الأسري والاجتماعي سمة لهم.

 

ولما سارت بعض الدول الإسلامية على نهج هذه الدول الكافرة، في ترك الحرية للناس والمبالغة في توفير وسائل المتعة والترفيه، وقعت في كثير مما وقعت فيه الدول الكافرة، فساد أخلاق، وتفكُّك أسر، وتعدٍّ على الأعراض والأبدان والأموال.

 

وهذا -عباد الله- يبين لنا بيانا واضحاً أن الأسباب المادية المباحة لا تكفي في جلب الأمن للبلاد، وأن الأسباب المادية المحرمة لا تجلب الأمن وإنما تجلب الخوف والاضطراب، وأن الناس بحاجة إلى السبب المعنوي الذي أرشد رب العالمين عباده إليه في كتابه، فقال -جل وعلا-: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].

 

ومن أعظم البركات التي تأتي من السماء الأمن في البلاد، فالإيمان والتقوى هما السبب الأعظم والوسيلة الكبرى لجلب الأمن والاستقرار، أمن القلوب وأمن الأبدان والأوطان، فإذا ما فَقَدَ الناس الإيمان والتقوى فُقِدَ الأمن، وإذا ما ضعف الإيمان وضعفت التقوى ضعف الأمن.

 

لقد أصيب كثير منا -عباد الله- في هذا الزمان بالعقدة المادية، وأصبحنا ننظر إلى الأشياء المادية وكأنها هي الوسيلة الكافية لراحة الضمير واستقرار الأحوال، وما ذاك إلا بسبب ضعف الإيمان والتقوى في القلوب؛ فأدى بنا ذلك إلى التساهل في كثير من الواجبات، والوقوع في كثير من المنهيات، بل وضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينا، وضعفت الغيرة على محارم الله، وقل التناصح فيما بيننا، والتواصي بالحق وبالصبر، ثم بعد ذلك نأمل أن يستمر الأمن في بلادنا؟.

 

كلا عباد الله! إن الأمن ليضعف بمقدار التقصير في دين الله -عز وجل-، والمتضرر الوحيد من ضعف الأمن أو زواله -نسأل الله السلامة والعافية- نحن لا غيرنا.

 

لا يكفي -عباد الله- أن نقول: نحن أحسن حالاً من غيرنا، فالحال الحسنة إذا لم نحافظ عليها بالوسائل المشروعة فإنها إما أن تضعف وإما أن تزول وتنقلب حالاً سيئة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11]، وقال -سبحانه-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:53].

 

فإذا ما أردنا الحفاظ على أمن بلادنا فعلينا أن نحافظ على الصلوات الخمس في جماعة المسلمين، وعلى الجمعة في يومها، وأن نؤدي زكاة أموالنا، وأن نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر متبعين في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن رأى منكم منكراً فليغيرْهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". على أن التغيير باليد خاص بأهل السلطة.

 

وأهم من ذلك أن نحافظ على عقيدة التوحيد، ونصونها من الشرك والبدع.

 

ومن أكبر وسائل المحافظة على الواجبات، وحصول الأمن والاستقرار، محاربة هذه القنوات الفاسدة التي تبث السوء والفحشاء، محاربتها بالقول، وذلك بالتحذير منها، وبيان أنها سبب عظيم من أسباب ضعف الأمن أو زواله، وذلك عن طريق المنبر والإعلام المرئي والمسموع والمقروء، ومحاربتها بالفعل، وذلك بترك شراء هذه الأجهزة التي تستجلب هذه القنوات، وأن يقوم من ابتلي بها في بيته بإخراجها منه وإتلافها، وأن يقوم المسؤولون بمعاقبة من يصنعها أو يجلبها أو يستعملها؛ لأن هذه القنوات الفاسدة تبث أشياء تخل بالدين والعقيدة والخلق والأدب، بل إنها تهون مسألة العرض، وتجعل المتابع لها يتمرد على دينه وعلى أخلاقه الكريمة وآدابه الحسنة، بل ويخرج على عادات مجتمعه ومألوفاته، وتجعله يعيش حرية داخلية تجول في نفسه وقلبه، وتحدث له نزعة حيوانية، والعياذ بالله!.

 

عباد الله: كلنا علينا مسؤولية الحفاظ على هذا الأمن، فالنفع لنا والضر علينا، ولا نتهاون بالأشياء الصغيرة المخالفة لما عليه الناس من الآداب والأخلاق الفاضلة، والمخالفة للمروءة؛ لأن التهاون بذلك يؤدي إلى التهاون بما هو أكبر.

 

فلنحافظ -عباد الله- على أمن بلادنا، ولنكن عيونا ساهرة عليه، حتى نعيش في طمأنينة واستقرار، نؤدي عبادتنا بكل يسر، ونتجول في أنحاء بلادنا لا نخاف إلا الله.

 

عباد الله: سئل أحد السلف: ما العيش؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش، قال له السائل: زدني. قال: الشباب، فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش، قال السائل: زدني. فقال: والصحة، فإني رأيت السقيم لا ينتفع بعيش، قال السائل: زدني. قال: لا أجد مزيداً.

 

نعم عباد الله، إذا حصلت هذه الأمور مع الإيمان والتقوى نال العباد الأمن والسعادة.

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات