الأمر بالتعفف والترفع عن سؤال الناس

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ فضل التعفف عما في أيدي الناس 2/ تربية النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على التعفف عن سؤال الناس 3/ النهي سؤال الناس تكثرًا وطمعًا وعقوبة ذلك 4/ إنكار حادثة عسير
عنوان فرعي أول
لا يسألون الناس إلحافا
عنوان فرعي ثاني
كثرة السؤال
عنوان فرعي ثالث
فإنما يسأل الناس جمرا

اقتباس

إنما أدعو إليه في هذه الخطبة من الاستغناء عن الخلق، هو خصلةُ كمال بالنسبة للمحتاج، ولكنه واجب على المستغني الذي يسأل تكثرًا، فهذا إنما يسأل جمرًا من نار جهنم، أقول هذا لكثرة من يسأل الناس الآن فرادى أو جماعات، والغالب على سؤالهم أنه تكثرًا، وأما من يتصدق عليهم فهو ..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى".

 

والمراد بالغنى: الغنى عما سوى الله؛ أي: الغنى عن الخلق، بحيث لا يفتقر الإنسان إلى أحد سوى ربه -عز وجل-.

 

والإنسان إذا وفَّقه الله ومَنَّ عليه بالاستغناء عن الخلق، صار عزيز النفس غير ذليل؛ لأن الحاجة إلى الخلق ذل ومهانة، والحاجة إلى الله تعالى -عز وجل- عبادة، والغنى الحقيقي هو غنى النفس، فإذا جعل الله غناك في نفسك، لم تحتج لأحد ولو كنت أفقر الناس.

 

ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئًا، أخرج مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟"، وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك -يا رسول الله-، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟"، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟"، قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك -يا رسول الله-؛ فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا" وأسر كلمة خفية: "ولا تسألوا الناس شيئاً"، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه.

 

وظاهر هذا الحديث أنه عام في كل مسئول؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "شيئا" غير محدد ولا مخصص، بل هو نكرة، ومن المقرر في علم الأصول: أن النكرة في سياق النهي تفيد العموم.

 

قال النووي في شرح مسلم: "فيه التمسك بالعموم؛ لأنهم نُهوا عن السؤال، فحملوه على عمومه، وفيه الحثّ على التنزيه عن جميع ما يُسمى سؤالا وإن كان حقيرًا، والله أعلم" انتهى.

 

وترك سؤال الناس مطلقًا، أمر لا يطيقه كل الناس، لذلك لم يبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- جميع الصحابة عليه، ولم يأمرهم به، وقد استنبط بعض العلماء ذلك من إسراره -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة.

 

وأخرج أبو داود في سننه من حديث ثوبان -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ يَتَقَبَّلُ -وفي رواية يتكفل- لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتَقَبَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟" قَالَ: قُلْتُ: أَنَا. قَالَ: "لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا"، فَكَانَ ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِيهِ حَتَّى يَنْزِلَ فَيَتَنَاوَلَهُ.

 

هكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يربّي أصحابه على عفة النفس والاستغناء عن الناس، حتى ولو احتاجوا، حتى ولو كان شيئًا حقيرًا في العين.

 

عباد الله: إن المسلم إذا علم الله منه استغناءه عن الناس وعدم سؤالهم قذف الله في قلبه الغنى عنهم، وكفاه حاجته، أخرج البخاري، ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: أنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ".

 

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء يعفه الله -عز وجل-".

 

والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة؛ فإنه يهلك -والعياذ بالله-؛ لأنه إذا أتبع نفسه هواها، وصار يتتبع النساء فإنه يهلك، تزني العين، تزني الأذن، تزني اليد، تزني الرجلين، ثم يزني الفرج؛ وهو الفاحشة، -والعياذ بالله-.

 

وقال -رحمه الله- عن الاستغناء: "أي: من يستغنِ بما عند الله عما في أيدي الناس يغنه الله -عز وجل-، وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم فإنه سيبقي قلبه فقيراً -والعياذ بالله- ولا يستغني، والغنى غنى القلب، فإذا استغنى الإنسان بما عند الله عما في أيدي الناس أغناه الله عن الناس، وجعله عزيز النفس بعيداً عن السؤال".

 

معاشر المؤمنين: لقد كان هذا هو حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فلقد كان يبيت طاويًا ولا يسأل الناس شيئًا، وكان يمر به الهلال، ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- نار، ما كان زادهم إلا التمر والماء، ولقد كان يدخل على أهله صباحًا فيقول: "هل عندكم طعام؟" فإن قالوا لا قال: إني صائم، وإن وجد طعامًا أكل.

 

اللهم اجعل غنانا في قلوبنا...

 

 

 

الخطبة الثانية :

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: كما ذكرنا في الخطبة الأولى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أغنى الناس نفسًا، ولقد كان أصحابه من بعده على هديه، ومن بعدهم على هديهم، حتى استشرى في الناس الجشع، وحب الدنيا، فصار الكثير من الناس يتقوتون بالسؤال، ولا يتحرجون عن سؤال الناس وهم أغنياء، والعياذ بالله.

 

أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قالَ: قال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَألَ النَّاسَ أمْوَالَهُمْ تَكَثُّراً، فَإِنَّمَا يَسْألُ جَمْراً، فَلْيَسْتَقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِر".

 

ولنعلم أنه من أُبيح له شيء من الزكاة أو الصدقة أُبيح له سؤاله وطلبه؛ لأنه يطلب حقه الذي أبيح له، والأولى التعفف والسكوت، وعدم السؤال.

 

أخرج البخاري في صحيحه من حديث الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لأنْ يَأخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ النَّاسَ، أعْطَوْهُ أوْ مَنَعُوهُ".

 

وَأخرج الشيخان من حديث المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثاً: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ".

 

وأخرج الشيخان من حديث ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا- قال: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْألُ النَّاسَ، حَتَّى يَأتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".

 

أيها المسلمون: إنما أدعو إليه في هذه الخطبة من الاستغناء عن الخلق، هو خصلةُ كمال بالنسبة للمحتاج، ولكنه واجب على المستغني الذي يسأل تكثرًا، فهذا إنما يسأل جمرًا من نار جهنم، أقول هذا لكثرة من يسأل الناس الآن فرادى أو جماعات، والغالب على سؤالهم أنه تكثرًا، وأما من يتصدق عليهم فهو على أجره؛ سواء كان صادقًا أو لا، فله الظاهر والله يتولى السرائر؛ إلا الزكاة فلا بد من الاحتياط عند دفعها فلا تعطها إلا من علمت أنه من أهلها.

 

وأما من كان محتاجًا متعففًا، وجاءته العطية من غير سؤال فله أخذها من غير استشراف نفس، وإنما النهي عن السؤال وتتبع ذلك، وعلى العبد أن يسأل ربه كل حوائجه؛ فإنه القادر الكريم.

 

قال عطاء: جاءني طاووس -رحمه الله- فقال لي: "يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وجعل دونك حجابًا. وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح لك إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك الإجابة". (تهذيب حلية الأولياء: 2/ 30).

 

عباد الله: الكل سمع بالحادث الأثيم الذي وقع في عسير من إزهاق النفوس البريئة، واستحلال دماء المصلين، ووالله إنه لخطر عظيم أن يتسلط علينا أبناؤنا؛ فالحذر الحذر من انحراف الفكر لدى الأبناء، ويعظم الواجب في متابعتهم في أصحابهم الذين يسيرون معهم، والقنوات التي يتابعونها، فهم أمانة وسنسأل عنها.

 

اللهم اهد شباب المسلمين .. اللهم أغننا عمن أغنيته عنا..

 

اللهم لا تجعل في رزقنا بيننا وبينك أحدًا.. اللهم اجعل غنانا في قلوبنا ..

 

اللهم اغفر للمسلمين ..

 

 

 

 

المرفقات

بالتعفف والترفع عن سؤال الناس

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات