اقتباس
يعتقد الكثيرون أن الافتراق مثل الاختلاف وكلاهما يعبر عن نفس المعنى، ولكن مسائل الافتراق غير مسائل الخلاف، والأحكام المترتبة على هذه تختلف بالكلية عن الأحكام المترتبة على تلك، والتسوية بين المصطلحين أدى لوقوع كثير من الفتن والبدع، وفتق في...
لماذا تتعرض الأمة الإسلامية لكل هذه الابتلاءات والهجوم الشرس من خصومها؟
أين تاريخ الأمة الإسلامية العظيم، وأمجاد القرون الأولى؟ ولماذا لا تتكرر؟
لماذا صارت الأمة في ذيل الأمم ومؤخرة الركب بعد قرون من القيادة والسيادة؟
والأهم من ذلك كله: أين هي أمة الإسلام من الأساس؟!
أسئلة حائرة كثيرة تدور في عقول المسلمين خاصة جيل الأبناء الذي تفتحت عيناه على انكسارات وتراجعات كبرى للأمة على كل الأصعدة، فصاروا بين تاريخ وأمجاد عظيمة ومآثر جليلة وبين واقع أليم مرير ومخازي وهزائم كثيرة. مما دفع بكثير من الشباب للوقوع في دوائر الشك والريب الذي قاد بعضهم للإلحاد وبعضهم لليأس وبعضهم للإعراض واللامبالاة.
ولو نظرت بعين البصيرة إلى هذه الأسئلة وغيرها مما تتعلق بحال الأمة وأسباب تراجعها الحضاري والسياسي وسقوط مشروعها الأخلاقي والقيمي من عيون أبنائها، فإن الإجابة عليها جميعاً يمكن أن نلخصها في كلمة واحدة كانت بمثابة الداء الجامع لكل هذه الأعراض السيئة والتداعيات الأليمة. إلا وهو داء "الافتراق".
الافتراق لغة واصطلاحاً:
الافتراق في اللغة: من المفارقة وهي المباينة والمفاصلة والانقطاع، والافتراق أيضًا مأخوذ من التشعب والشذوذ ومنه الخروج عن الأصل، والخروج عن الجادة، والخروج عن الجماعة.
أما في الاصطلاح: فهو الخروج عن منهج السنة والجماعة في أصل أو أكثر من أصول الدين القطعية، سواءً كانت الأصول الاعتقادية، أو الأصول العملية المتعلقة بالقطعيات، أو المتعلقة بمصالح الأمة العظمى، أو بهما معًا.
فمخالفة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين في العقيدة افتراق ومفارقة للجماعة، ومخالفة إجماع المسلمين افتراق ومفارقة للجماعة، ومخالفة جماعة المسلمين وإمامهم فيما هو من المصالح الكبرى افتراق ومفارقة للجماعة، والخروج عن إجماع المسلمين عملاً افتراق؛ لأنه مفارقة للجماعة، وكل كفر أكبر يعد افتراقًا وليس كل افتراق كفرًا.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدًا عهده فليس مني ولست منه".
الافتراق حالة مرضية كانت في الأمم قبلنا، وهو صفة بارزة في اليهود والنصارى، وقد حُذرنا أن نكون مثلهم (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105]؛ لكن استفاد متأخروهم من دروس سابقيهم، حتى سعى بابا الفاتيكان ليبرأ اليهود من جريمتهم التاريخية في سفك دم المسيح (على حد زعمهم) وهي التهمة التي كانت تمثل عقيدة تاريخية راسخة عند النصارى، هذه العقيدة التي تطاولت عليها القرون، وتعاقبت عليها أجيال النصارى، يراد لها أن لا تكون عائقاً دون الالتقاء والتعاون، والمحزن أننا في المقابل نملك من أسباب الالتقاء والتعاون والتنسيق ما لا يملكه غيرنا، ونواجه من دواعي ذلك ومبرراته وأسبابه ما يحتم اجتماع الكلمة واتحاد الموقف وتراص الصفوف.
بين الافتراق والاختلاف:
يعتقد الكثيرون أن الافتراق مثل الاختلاف وكلاهما يعبر عن نفس المعنى، ولكن مسائل الافتراق غير مسائل الخلاف، والأحكام المترتبة على هذه تختلف بالكلية عن الأحكام المترتبة على تلك، والتسوية بين المصطلحين أدى لوقوع كثير من الفتن والبدع، وفتق في الأمة فتقاً لا راتق له حتى الآن.
والفرق بين الافتراق والاختلاف يتضح في عدة نقاط أبرزها:
1 - الافتراق أشد أنواع الاختلاف، بل هو من ثمار الخلاف، إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق، وقد لا يصل، فالافتراق اختلاف وزيادة، لكن ليس كل اختلاف افتراقًا.
2 - ليس كل اختلاف افتراقا، بل كل افتراق اختلاف؛ فكثير من المسائل التي يتنازع فيها المسلمون هي من المسائل الخلافية، ولا يجوز الحكم على المخالفة فيها بالكفر ولا المفارقة ولا الخروج من السنة.
3 - الافتراق لا يكون إلا على الأصول الكبرى، أي أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها، والتي ثبتت بنص قاطع أو بإجماع، أو استقرت منهجًا عمليًا لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه، فما كان كذلك فهو أصل، من خالف فيه فهو مفترق، أما ما دون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف. فحين أن الاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد في الرأي، ويقبل الاجتهاد، ويحتمل ذلك كله، وتكون له مسوغات عند قائله، أو يحتمل فيه الجهل والإكراه والتأول، وذلك في أمور الاجتهاديات والفرعيات.
4 - الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحريًا للحق، والمصيب أكثر أجرًا، وقد يحمد المخطئ على الاجتهاد أيضًا، أما إذا وصل إلى حد الافتراق فهو مذموم كله، بينما الافتراق لا يكون عن اجتهاد، ولا عن حسن نية وصاحبه لا يؤجر عليه، بل هو مذموم وآثم على كل حال، ومن هنا فهو لا يكون إلا عن ابتداع أو عن اتباع هوى، أو تقليد مذموم، أو جهل مطبق.
حتمية الافتراق:
وقوع الأمة في الافتراق من السنن الماضية في الأمم والجماعات، فهو أمر قدري كوني واقع لا محالة، لأن التركيبة العقلية والنفسية لبني آدم تدفعهم باستمرار للاختلاف والافتراق، لذلك جاءت النصوص المتواترة عن وقوع الافتراق في الأمة وبيان أسبابه ليكون المسلمين على بصيرة من أمرها ويحذروا هذا المزلق العقدي والديني والأممي الخطير. لذلك قال تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. .)[هود 118].
ومن أشهر الأخبار المتواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في وقوع الافتراق في هذه الأمة؛ حديث الافتراق: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة".
وقد روى هذا الحديث جمع من الصحابة، وخرَّجه الأئمة العدول، الحفاظ في السنن، كالإمام احمد، وكأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان، وأبي يعلى الموصلي، وابن أبي عاصم، وابن بطة، والآجري، والدارمي، واللالكائي. كما صححه جمع من أهل العلم كالترمذي، والحاكم، والذهبي، والسيوطي، والشاطبي، وأيضًا للحديث طرق حسنة كثيرة، بمجموعها تصل إلى حد القطع بصحته على الرغم من محاولة بعض المعاصرين تضعيفه.
أيضا النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر في موضوع آخر أن الأمة ستتبع الأمم السابقة، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموه" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟! قال: "فمن؟!".
هذا الحديث جاء في سياق التحذير مما هو واقع في الأمة لا محالة، وليس وقوع الافتراق ذمًا إلا للمفترقين، وليس هو ذمًا على الإسلام، ولا انتقاصًا، ولا ذمًا لأهل السنة والجماعة وأهل الحق، إنما هو ذم للمفترقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعة، بل أهل السنة هم الباقون على الأصل، وهم الباقون على الإسلام، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس إلى قيام الساعة.
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رتب أحكاماً على المفارقة لكونها واقعة في الأمة لا محالة، فقد حذر من مفارقة الجماعة في مثل قوله: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
بداية الافتراق:
أول بذرة للافتراق الذي ظهر في الأمة كان عبارة عن أفكار وعقائد مغمورة لا تسمع إلا همسًا، وهي العقائد السبئية (عقائد الشيعة وأصول الخوارج)، وأول من قال بها شخص يهودي؛ ابن السوداء: عبدالله بن سبأ، فقال بها، وأخذ يوسوس بها بين المسلمين، فاعتنقها كثير من المنافقين، ومن الكائدين الذين كادوا للإسلام، ومن الجهلة وحدثاء السن، ومن الموتورين الذين ظهر الإسلام على بلادهم، وعلى أديانهم، وقوض عروشهم وهدّ ممالكهم، ومن حديثي الإسلام من الفرس والأعراب ونحوهم؛ فاعتنقوا مقولات ابن سبأ، فسرت بين المسلمين سرًا، حتى ظهرت منها الشيعة والخوارج.
وهنا يجب التنبيه على أمر مهم لابد من ذكره لقطع الطريق على أراجيف الشيعة ومن شاكلهم من علمانيين وليبراليين؛ وهو أنه في تاريخ الافتراق لم يحصل من الصحابة افترق البتة، وما حصل بين الصحابة إنما هو خلافات كانت تنتهي إما بالإجماع وإما بالخضوع لرأي الجماعة والالتفاف حول الإمام، هذا ما حصل بين الصحابة، ولم يحصل من صحابي أن كان مفترقًا عن الجماعة، وليس فيهم من قال ببدعة، أو عمل محدثًا في الدين، إن الصحابة وهم الأئمة المقتدى بهم في الدين لم يحصل من أحد منهم أنه فارق الجماعة أبدًا، ولم يحصل أن أحدًا منهم أيضًا يُعد قوله أصلاً في البدع، ولا أصلاً في الافتراق، والذين نسبوا بعض المقولات أو نسبوا بعض الفرق إلى بعض الصحابة، إنما كذبوا عليهم، وافتروا عليهم أكبر الفرية، فلا صحة لما يقال من أن علي بن أبي طالب هو أصل التشيع، أو أن أبا ذر هو أصل الاشتراكية، أو أن أهل الصفة هم أصل الصوفية، أو أن معاوية هو أصل الجبرية، أو أن أبا الدرداء أصل القدرية، أو أن فلانًا من الصحابة هو أصل كذا من المقولات، أو المحدثات أو البدع أو المواقف الشاذة، بل كل ذلك إنما هو من لباطل المحض.
أسباب الافتراق:
أسباب الافتراق كثيرة ومتنوعة وخطيرة في نفس الوقت، ومصدر خطورتها أنها متجددة ومتطورة، فما من زمن إلا وفيه أسباب جديدة للتفرق والاختلاف، بحيث أصبحت عملية حصر أسباب هذ الداء الخبيث تحتاج لنظرة شمولية أكثر منها تفصيلية وإلا استوعبتنا أسباب كثيرة فرعية ترجع لأسباب رئيسية كلية، وعلى هذا فإن من أسباب الافتراق:
1 – حقد وحسد الكافرين: كيد الكائدين بأصنافهم من أهل الديانات، كاليهود والنصارى والصابئة والمجوس والدهريين، وكذلك من الموتورين، أي الذين حقدوا على الإسلام والمسلمين؛ لأن الجهاد قضى على دولتهم، ومعا عزة أديانهم وهيمنة سلطانهم من الأرض، كالفرس والروم، فهؤلاء منهم الذين بقوا على كفرهم وحقدهم على المسلمين والدين والإسلام، وآثروا النفاق والزندقة بإعلان الإسلام ظاهرًا فقط، أو البقاء على دياناتهم مع دفع الجزية، حفاظًا على رقابهم، وإيثارًا للسلامة، للتعايش مع المسلمين، وهؤلاء هم أشد المعاول عملاً في الفتك بالمسلمين، والكيد لهم بالأفكار، وبث المبادئ والبدع والأهواء بينهم.
2 – الابتداع في الدين: كادت البدعة أن تكون كفراً من كثرة ما تحدث في الدين والأمة من خلل وضلال وانحراف وتشويه للنسخة الأصلية للدين، وقد يقترن مع الابتداع مصالح دنيوية أو طائفية يتم تحقيقها من خلال الابتداع في الدين، فكثير من أتباع الفرق نجد أنهم يجدون في الفرق تحقيقًا لمصالح شخصية أو شعوبية أو حزبية أو قبلية أو غيرها، وربما بعضهم يقاتل على هذا الأمر لهوى، أو لعصبية، هذا الصنف هم مادة وقود الفرق، فهم الذين يكثِّرون أتباع تلك الفرق، ويجتمعون حولهم لتحقيق هذه المصالح، وهذه الفئة موجودة في كل زمان وفي كل مكان، فإنه متى ما ظهر في الناس رأي شاذ، أو بدعة أو صاحب هوى، فإنه يجد من الغوغاء، ومن أصحاب الأهواء وأصحاب الشهوات والأغراض الشخصية، من يتبعه لتحقيق ذلك.
3 – الجهل: داء عضال وقاسم مشترك يشكل كل الأسباب، لكن الجهل المقصود هنا هو عدم التفقه في الدين عقيدة وشريعة، وهو الجهل بالسنة وأصولها وقواعدها ومناهجها، وليس مجرد عدم تحصيل المعلومات؛ لأن الإنسان قد يكفيه أن يحصل ما يحصن به نفسه، وما يحفظ به دينه، ويكون بذلك عالمًا بدينه، ولو لم يتبحر في العلم، والعكس كذلك، قد يوجد من الناس من يعلم الشيء الكثير، وذهنه محشو بالمعلومات، لكنه يجهل بديهيات الأصول والقواعد الشرعية في الدين، فلا يفقه أصول العقيدة وأحكام الافتراق، وأحكام التعامل مع الافتراق، وأحكام التعامل مع الآخرين، وهذه مصيبة كبرى أصيب بها كثير من الناس اليوم، وهي أن الواحد منهم توجد لديه معلومات شرعية، أو يكون ممن يتعلمون ويأخذون العلم الشرعي عن مصادر كثيرة، لكن تجده جاهلاً في العقيدة وفقه أحكام التعامل مع الناس، والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيفسد من حيث لا يشعر، فالجهل مصيبة، والجهل سبب رئيسي لوجود الافتراق، والجهلاء هم مادة الفرق، وهم وقودها.
ومن الصور المعاصرة المستترة لهذا الجهل: الاستقلالية عن العلماء والأئمة، أي استقلالية بعض المتعلمين وبعض الدعاة وبعض الأحداث عن العلماء، فيكتفون بأخذ العلم عن الكتاب والشريط والمجلة والوسيلة، ويعزفون عن التلقي عن العلماء، وهذا منهج خطير، بل هو بذرة خطيرة للافتراق.
4 – الغلو والتنطع: وهو التشدد في الدين بغير ما أمر الشارع، ويقصد به التضييق على النفس، أو على الناس في الأحكام الشرعية، أو المواقف تجاه الآخرين، أو التعامل معهم بما لا تقتضيه قواعد الشرع ومقاصد الدين؛ لأن الدين مبني على الأخذ بالأحكام الشرعية، مع مراعاة التيسير ودفع المشقة والأخذ بالرخص في مواطنها، ودرء الحدود بالشبهات، وإحسان الظن بالناس، والإشفاق عليهم، والإحسان إليهم، والنصح لهم، والعفو عنهم، والتماس الأعذار لهم، هذا هو الأصل، والخروج عنه لغير مصلحة راجحة مقدرة عند أهل الفقه في الدين يُعد من التشديد المنهي عنه في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبـه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
ومن علامات التشدد: التسرع في إطلاق الأحكام، إذ بمجرد أن يسمع أحدهم قضية أو حادثة أو خبرًا أو مقولة ما، يحكم على صاحبها غيابيًا، أو يحكم قبل أن يتثبت، أو يحكم باللوازم، كأن يقول: (إذا كان فلان قد قال كذا فهو كافر) بدون نقاش، ومثل قولهم: (من لم يُكفر فلانًا فهو كافر) وربما لم يتبين له كفر فلان، ومثل قولهم: (فلان رأى بدعة فلم ينكرها، أو تنتشر بين قومه فلم يغيرها، إذًا فهو مبتدع) ، وهكذا، فنزعة إطلاق الأحكام والإلزامات في الأقوال، والإكثار من التكفير بما يخرج عن سمت العلماء وحكمهم ورأيهم، هذا مظهر بارز من مظاهر التشدد في الدين.
5 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك المناصحة لولاة الأمور والأئمة وذوي الشأن في الأمة، ووقوع المداهنة في الدين أو سلوك مسلك التشاؤم واليأس من الإصلاح، أو التعبد بترك المناصحة للولاة كما تفعل الفرق وأهل الأهواء والحزبيات، وعدم قيام طائفة من الأمة في أداء النصيحة ودرء الفساد والافتراق عنها يوقعها في الذل والهوان وفساد ذات البين والفرقة، فالمناصحة باب عظيم من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، كما أوصى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: "وأن تُناصحوا من ولاه الله أمركم " والمناصحة تزيل الغل من القلوب وهي قوة للخير وإعذار عند الله، أو دفع للبلاء والنقمة عن الأمة.
آثار الافتراق على الأمة:
1 - الفشل وذهاب القوة: قال تعالى (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[سورة الأنفال: 46] هذه الآية تأتي ضمن عوامل النصر الحقيقية: من الثبات وذكر الله وطاعة الله ورسوله وتجنب الشقاق والنزاع والصبر، والحذر من البطر والرياء. والافتراق يقود الأمة إلى شمولية الفشل لمناحي الحياة مما يعني موت الأمة بأسرها، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بذهاب الريح، حتى تعود الأمة أعداداً بلا عدة، وأرقاماً بلا معنى، أي الحالة الغثائية التي لا تحافظ على موجود ولا تلوي على مطلوب، فتتداعى الأكلة إلى قصعة الأمة، فيطمع فيها كل قوي وضعيف، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. لقد عرف الخوارج عبر التاريخ بقوة العزيمة وشدة البطش، وعظيم الإخلاص لأفكارهم والتفاني لها، لكن مع ذلك كان يكثر بينهم الخلاف والنزاع لأتفه الأسباب، وكان هذا من عوامل هزائمهم المتكررة، وقد فطن لذلك المهلب بن أبي صفرة ـ الذي كان ترساً للمسلمين منهم ـ فكان يبعث إليهم من يبث الخلاف بينهم لتفريقهم وإضعافهم، فيُكفى مؤنة حربهم وقتالهم.
2 – تسليط الأعداء: فالأمة المتفرقة إلى شيع وأحزاب تصبح مثل الغنم القاصية في الليلة الشاتية لا راعي لها إلا الذئب، وهو ما فطن لها أعداء الأمة منذ البداية فعملوا على تفريق صفها وبث العداوة بين أبنائها، كما ورد في أسباب نزول قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ* وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.....)[ آل عمران 100- 105 ].
وجاء في سبب نزولها ما أخرجه ابن اسحق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن زيد بن أسلم قال: مرَّ شاس بن قيس - وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الرُّكب، أوس بني قيظى أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم والله، رددناه الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، السلاح، السلاح، موعدكم الظاهرة - والظاهرة الحرة - فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ أبعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في ذلك الآيات من سورة آل عمران.
فبث الفرقة في الأمة وكسر وحدتها وتغيير هويتها من أهم أسلحة أعداء الأمة في ضد أمة الإسلام.
3 – القعود عن المهام الأصلية للأمة من الدعوة ونشر الدين وجهاد الكافرين، والانشغال بقضايا فرعية وخلافات جانبية صغيرة تستهلك طاقات كبيرة وأوقات كثيرة من أجل إصلاح ذات البين ،أو رد عادية المفترقين.
4 – وقوع التخاذل المتبادل بين أفراد الأمة وجماعاتها ودولها وحكوماتها، وأن يُسلم بعضهم بعضاً إلى الأعداء والفتن، بل والتحرش بهم، وتهييج الأعداء عليهم؛ نكاية ووشاية وشماتة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يُسلمه..).
5 - التنازع والتفرق يصيب البعض بالإحباط والتثبيط فينزوي بعيدا، وينكفئ على نفسه مؤثراً السلامة كما تزيِّن له نفسه، فتُحرم الأمة من خيره وجهده وإضافاته، وربما كان أسوة سيئة، ونموذجاً سلبياً لغيره، فيقوى تيار الانعزال والانزواء، فتجمد حركة الأمة، ويضعف رصيدها في مجال الإبداع والتقدم.
6 - التنازع والتفرق يُفقد الناس والأمة الشعور بوحدة الجسد ووحدة الهم ووحدة المصير، مما يحدو بكل طائفة أن تتصرف بمفردها بمعزل عن الأمة، وربما أدى ذلك التصرف الانفرادي إلى مآس تعود على الأمة جمعاء بآثارها وتبعاتها.
وأخيراً، إن دواعي الاتفاق والاجتماع لدينا أكثر وأعمق مما عند غيرنا من الأمم والحضارات، ومع ذلك اجتمعوا وافترقنا، وتضامنوا وتنازعنا، وتناسوا ما كان بينهم، ونحن نحرص على بعثه وإثارته وتحريك الصدور به.. فما زادنا ذلك إلا فشلاً وذهاب ريح..
فهل نعتبر؛ فنلتزم بتعاليم ديننا، ونستصحب قيم أسلافنا، ونستحضر ما نواجهه من تحديات ماثلة، توشك أن تأتي على كل شيء؟ أم ستظل الأمة على مفترق الطرق حتى يأتيها الطوفان؟! نسأل الله السلامة والنجاة للأمة كلها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم