اقتباس
وبالجملة عندما يفقد المسلم وعيه القرآني، يجهل أو يتجاهل رسالته الحضارية، ويصبح كلاً على مجتمعه وعلى الناس جميعاً. فعندما يغيب التوحيد الخالص، تبزغ الأهواء والمصالح، وإنسان الحقوق، ويختفي إنسان الواجب والنهضة، وتبدأ مؤسسات الأمة في التراجع والتدهور حتى لا يتبقى منها إلا أطلالها وتغيب جواهرها وأدوارها، وتدخل الأمة في طور الجمود والتخلف، وتبدأ سفينتها في الغرق، وتصبح الأمة قصعة شهية في انتظار أعداءها لالتهامها..
حديث النهضة وسبل الإصلاح، هو الحديث الذي لا يعلو فوقه حديث في بلادنا العربية والإسلامية في السنوات الأخيرة التي أصبح فيها البون شاسعاً بين الأمة الإسلامية صاحبة المجد التليد والسؤدد والقيادة العالمية، وبين خصومها من أمم الشرق والغرب. فلا تكاد تخلو وسائل الإعلام بشعبها الكثيرة من حديث أو مقال أو أطروحة عن النهضة ودروبها والإصلاح وسبله وطرائقه وآلياته ومحاولات استعادة المجد الضائع، فالجميع يشعر بالحاجة الماسة نحو النهوض والإصلاح وتجاوز المرحلة السابقة بكل ما فيها من معاناة وإحباط وتخلف راسخ لعهود.
ومن السهل أن يلام أعداء الأمة على ما وصلت إليه من تخلف وتراجع حضاري على كافة الأصعدة، وكيف لا؟ ومعظم بلاد الإسلام قد وقعت فريسة الاحتلال الخارجي لعشرات وربما مئات السنين في بعض الحالات، وتفنن المحتل في وأد كل محاولات النهوض والخروج من الشرنقة التي فرضها علينا العدو حتى تبقى الأمة أسيرة وضعيفة، يحلب خيراتها ويمتص ثرواتها؛ لتنهض بلاده هو، ويبقى المسلمون متخلفين وفقراء. ولكن رغم الدور الكبير الذي لعبه الاحتلال الخارجي في إضعاف الأمة وإفقارها وغرقها في التخلف والمشكلات الحضارية إلا إن الأسباب الرئيسية للتخلف تعود في الأصل إلى المسلمين أنفسهم الذين تجاهلوا عمداً أو خطأ العوامل المعنوية والمادية المؤدية إلى نهوضهم وانطلاقتهم، في نفس الوقت الذي أحذوا فيه بكل أسباب السقوط والتخلف الحضاري. فهل يلام العدو وحده على جريمته بحقنا، ولا نلام نحن على جريمتنا وجريرتنا في حق أنفسنا ؟!
والإسلام يحمل في طياته منهاج الحياة الطيبة المستقيمة، ويضمن للفرد والمجتمع أن يعيش في أفضل أوضاع تبعده عن قاع التخلف ومشكلاته، شرط أن نتمثل آدابه ونتبع هداه. فالإيمان الحقيقي بالإسلام يعني ولادة جديدة للإنسان والأمة على حد سواء على المستويين الروحي والمادي. فالإسلام يعيد بعث الإنسان من جديد، قيمه واتجاهاته، مفاهيمه وأساليبه، وأعماله وأفكاره، وبالجملة كل تفاصيل حياته لينشئه خلقاً جديداً. هكذا كان في زمن الرسالة الأول، ومازال قادراً في زمان الناس هذا، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وما تمر به الأمة الآن من تراجع حضاري وتخلف شامل يلف كل أركان حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والعسكرية، هو نتاج تفريطنا في جوهر معتقدنا الإسلامي، وتراخينا في أداء دورنا الحضاري كما علمنا الإسلام. فالتخلف الذي يعاني منه عالمنا الإسلامي نتاج أفكار خاطئة، فالهيكل الأساسي لأفكارنا ليس مستمداً من داخل القرآن نفسه، وإنما من مصادر مشوشة لم تحسن التعامل مع ديننا قرآننا ورسولنا.
أولاً: عوامل النهوض:
النهضة في منظور الإسلام تبدأ بتغيير النفس وتأهيلها لحمل أمانة الكون بإيمان صادق وعمل رسالي يحقق الإعمار الصحيح للحياة والحياة الطيبة للإنسان. والدين وحده هو الذي يضمن لنا استمرار النهضة المؤدية إلى هذه الحياة الطيبة إذا التزمنا بهديه وحافظنا على عهد الله معنا. يرتبط مفهوم النهضة في الإسلام بتحقيق شروط المنهج الرباني في: العقيدة والعمل وتحقيق معالمه الأساسية في نفسية الفرد المسلم والجماعة المسلمة لتحصيل التأهل الحضاري، والقابلية للاستخلاف وعمارة الأرض. فالنهضة في الإسلام عقيدة راسخة، وإنسان مستخلف، ومؤسسات حاضنة، وإبداع متميز وتوبة دائمة. هذه هي العناصر الرئيسية التي تحدد معالم المجتمع الناهض والأمة الشاهدة القائدة في الإسلام، والمجتمع الرباني الذي وعده الله بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. ومن أهم هذه العوامل الناهضة:
1-العقيدة الفاعلة: وهي في منطق الإسلام عقيدة التوحيد المستمدة من القرآن والرسول التي تؤهل الفرد والمجتمع للتفاعل مع الكون ومكونه، وتلبي أشواقه الروحية وتطلعاته الأخروية تنتج عنها ثقافة واحدة موحدة تجمع أبناء الأمة وتوجههم الوجهة الصحيحة تجاه غاياتهم النهائية الربانية المتمثلة في الخلافة الراشدة المحققة للعدل والحرية. عقيدة تجعل المسلم يعرف موقعه من الكون وهدفه في الحياة وأثره في الوجود. عقيدة نقية صافية تجعل المسلم يعبد إلهاً واحداً لا إله غيره، ويكفر بكل المعبودات الأخرى التي يهلك في أوديتها الناس. عقيدة واضحة سلسة لا مكان فيها للرموز والإشارات الباطنية والأسرار والخواص والكهنوت. عقيدة تجعل المسلم يستحضر دينه وربه أمام ناظريه في كل عمل يقوم به، وكل خطوة يخطوها في هذه الحياة.
2-الخليفة في الأرض: وهو في منطق الإسلام الإنسان الخليفة المؤمن المجاهد في سبيل الله. فالحياة في الإسلام عقيدة وجهاد بالنفس والمال. إنه إنسان النهضة الحامل لهذه العقيدة صاحب الإرادة الصادقة والعزيمة القادرة على العمل من أجل حمل لواء هذه الدعوة والإيمان بها وتبليغها وتحقيقها واقعاً في حياته الخاصة والعامة ونشرها بين بني الإنسان قاطبة؛ لأن الجميع مطالب بالقيام بهذا الدور الريادي، الخليفة في الأرض مما يدفع الناس جميعاً لاعتناق مبدأ المسئولية الجماعية في النهوض. فمشروع النهضة يحتاج إلى جهد كل أبناء الأمة، بحيث يكون كل جهد مبذول أو عمل صالح أو علم ينتفع به أو خير يقدمه المسلم لغيره أو لأمته بمثابة اللبنة في جدار النهضة والإصلاح، وبالعكس فكل عمل من شأنه أن يكون ضاراً وسيئاً وغير نافع، فهو بمثابة نقض لهذا الجدار، أو بمعنى آخر نظرية الحبل المشدود والتي تشبه منظومة الإصلاح بحبل مجدول مكون من الملايين من الشعيرات الدقيقة، وإن كل مسلم يقوم بعمل صالح وجيد ونافع يضع شعيرة في هذا الحبل، وبالمقابل فإن كل عمل فاسد ومعصية أو يقصر في واجب عليه ينسل شعيرة من هذا الحبل، ويظل التنازع بين الإضافة والحذف حتى يصير الحبل إلى القوة والمتانة أو يصير إلى النحل ثم الانقطاع، وذلك أوضح تفسير للآية الفذة الجامعة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7،8].
3-الحواضن: ونقصد بها كل المؤسسات التعليمية والتربوية والأخلاقية والمادية، والتي تتشارك كلها فيما بينها من أجل خلق الحواضن الراشدة للنهوض. وأقصد بها الأسباب المادية للنهوض. فالتعليم كان ومازال السبب المادي الأول لتخلف المسلمين على الرغم من أن أمتنا هي أمة العلم والقراءة. ففي أوسع تصنيف دولي للتعليم في مختلف أنحاء العالم كشف عن تصدر خمس دول آسيوية القائمة، بينما تأتي الدول الإسلامية في أفريقيا وآسيا في نهايتها، وتتربع سنغافورة على القمة وبعدها هونغ كونغ ثم كوريا الجنوبية، وتتشارك كل من اليابان وتايوان في المستوى الرابع، بينما تحتل دول من أفريقيا وأمريكا الجنوبية مراتب متدنية. إن مؤسسات التعليم والعمران والتزكية والحكمة والصناعة التي تعد كل أنواع القوة البشرية والمادية والمعنوية. لهي أهم مؤسسات النهضة التي تمثل الحاضنات لأفكار وعقائد وقيم الأمة المجسدة لها واقعاً وعملًا، والتي تخرج إنسان النهضة الصالح المصلح، وتنشئ مجتمع التراحم الإيماني، مجتمع العزة والكرامة الإنسانية والشهود الحضاري، والتي تعمل على إبداع والتقاط كل جديد يخدم غايات الأمة والغرض من إخراجها للناس.
4-التجديد: ونعني فيه التجديد الديني والدنيوي والخروج من ربقة التقليد الذي كان أحد أسباب الجمود والتخلف الحضاري، فالأمة التي تبحث عن النهوض، دوما متجددة في دينها وأمور دنياها. والاجتهاد في المنظومة الإسلامية مستمر ولا حدود له ضمن أصول الفقه وحدود القطعيات الشرعية لتجديد الدين والدنيا ومواكبة العصر والانفتاح على قضايا الإنسان في كل زمان ومكان، وفى جميع أحوال الرخاء والشدة، ملبياً أشواق المجتمع الروحية مسانداً حاجاته المادية. فالتجدد الديني والاجتهاد الشرعي لا يعرف الجمود ولا الإعنات، وهو كذلك لا يعرف الخلل والانفلات، فليس كل أحد يمتلك حق الاجتهاد في الدين والدنيا، فالعارفون والمتخصصون وحدهم من يملك هذا الحق وفق الضوابط والشروط التي وضعها أهل العلم، وإلا فالأمة قد واجهت كثيراً من الدعوات المشبوهة للانسلاخ دينها باسم التجديد والاجتهاد.
5-التطهير والنقاء: وذلك بالتوبة الدائمة، أفراداً وجماعات، بحيث تتحول التوبة المطهرة من الآثام والأوزار إلى شعار المجتمع المسلم الذي يعلن أنه في مراجعة مستمرة لأعماله وأقواله تجديداً لإيمانه وصولًا إلى أقصى حالات الرضا الإلهي ليحافظ على ربانية توجهه، وحريصاً على تصويب الخطأ وتدارك النواقص. والعصر الذي نحيي فيه الآن يتميز بكثير من التنوع والتداخل بين مكوناته وعناصره، مما جعل التعقيد هو السمة الرئيسية لهذا العصر، فجهات كثيرة ومتنوعة تعمل بصورة متضادة ومتقاطعة من أجل تحقيق مصالحها ومنافعها الخاصة، مما يجعل الكثير من التغييرات السلبية والسيئة تنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية، أبرزها شيوع النمط الاستهلاكي لدى قطاعات واسعة من الناس، والتركيز على المتع واللذات واللهث وراء فنون اللهو المتجددة.
ولن نتخلص من هذه السلبيات إلا بالمراقبة المستمرة واليقظة لنمط الحياة ونوعيتها، ورصد التغيرات السلبية فيها، وبلورة المعايير والمواصفات السوية للحياة الطيبة النافعة التي لا يحدث بها أمثال هذه المزالق والمطبات الأخلاقية والسلوكية التي حدثت في الأمم المتقدمة التي انتهجت سمت الحياة المفتوحة، وهذه الأمور لن تتم إلا عبر المحافظة على التوبة والجمع بين النصح والمراقبة، والوعي والإرشاد، والمقاومة والتصدي لكل وافد فاسد، ورصد الظواهر السلبية في المجتمعات المسلمة، مثل ظاهرة التدخين وتعاطي المخدرات، والإسراف في المباحات والملذات، والتفنن في إضاعة الأوقات وقتل الملكات، وإن رصد الواقع وقراءته عن طريق المسح والإحصاء، لهو من الأمور الهامة في القضاء على سمة الفساد في هذا العصر، والتي تعتبر من أكبر معوقات النهضة.
ثانياً: أسباب السقوط والتخلف:
للسقوط والتخلف أمارات وعلامات تشير إلى حلول ليله وإقبال ظلامه على أي أمة تتنكب طريق الحق، وتسير في سبيل المجرمين-وإن بلغت أقصى حالات التقدم المادي-فالتخلف في منظور الإسلام يشمل الجانبين المادي والمعنوي معاً، وليس مجرد التخلف المادي فقط. ويبدأ التخلف في منظور الإسلام عندما يتراجع التوحيد لصالح الشرك أو النفاق، أو عندما تتراجع الفكرة ليبزغ الصنم بتعبير مالك بن نبي -رحمه الله- وتفقد أصول الأمة مكانتها لدي أبنائها بسبب التكالب على الدنيا، و نسيان الآخرة، و غياب أو تغييب المثل الأعلى، بسبب الهزيمة النفسية والإخلاد إلى الأرض، و فقدان الإنسان المستخلف، والمؤسسات الحاضنة له لدورها، فتخرج أجيال ضائعة مائعة مضيعة تفرط في الأصول والثوابت التي قامت عليها الأمة من جهاد واجتهاد وإيمان وعمل وأداء واجبات، فتسقط قيم الأمة الأصلية لصالح قيم دخيلة، أو ترتد الأمة إلى العصبية الحمقاء، فتنحل عرى الأمة واحدة تلو الأخرى وتذهب حمية الإسلام لتأتي حمية الجاهلية .وتنفض الأمة يدها من مشروعها الحضاري فتصاب بالترهل والجمود والقعود والانكفاء الحضاري بكافة مظاهره، وتفقد أي قدرة علي الفعل الحضاري مهما قل شأنه. فتقع الهزيمة النفسية الشاملة ويصيب التخلف كافة مفاصل الأمة السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتعليمية والأمنية، فيحل عليها ليل السقوط البهيم، ويصير شعارها ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن ما يحدث لها قدر لا فكاك منه.
فأسباب السقوط تبدأ بضياع العقيدة الحقة، وغياب التوحيد الصحيح، فتغيب البوصلة التي يفسر بها الإنسان الحياة، وتضيع النظارة التي يبصر بها طريقها ويعرف بها الأمور على حقيقتها. وتبدأ أيضاً مع الإنسان اللاهي العابث فاقد الهوية الدينية، غير المدرك لمسئوليته الاستخلافية على هذه الأرض، الذي يضيع الثوابت والأصول، ويتبع الشهوات والضلالات، فلا حصانة عقيدية عنده، ولا أفكار أصيلة لديه، ولا عمل هادف يتقنه. تبدأ أيضاً مع وجود المقبلات للسقوط والتخلف من علماء سوء، وأغنياء بخلاء، وحكام ظلمة، ومدارس بلا تعليم، وجامعات بلا بحث علمي. فالسمة البارزة للمجتمع المتخلف في أقصى حالات سقوطه هي: إفراغ مؤسساته من أهدافها وأدوارها وفاعليتها؛ لأن القائمين عليها ليسوا أهلاً للقيام بمهام الاستخلاف الحضاري.
يبدأ السقوط والتخلف في مجتمع الهزيمة النفسية الشاملة المغلفة بأماني الحمقى، وأحلام الكسالى المدعين الذين يلبسون لبوس الإيمان مقلوبة، ويعبدون الله على حرف ويظنون أنهم على شيء: مجتمع الكذبة الذين يدعون إيماناً بلا عمل، وينتظرون سمناً وعسلاً على الأرض وفي السماء، مقابل سباتهم الحضاري وإخلادهم إلى الأرض بخلاً بالأنفس وحرصاً على الأموال والأولاد. إنه مجتمع فقد كل شروط الاستخلاف فتودع منه دينياً وحضارياً.
وبالجملة عندما يفقد المسلم وعيه القرآني، يجهل أو يتجاهل رسالته الحضارية، ويصبح كلاً على مجتمعه وعلى الناس جميعاً. فعندما يغيب التوحيد الخالص، تبزغ الأهواء والمصالح، وإنسان الحقوق، ويختفي إنسان الواجب والنهضة، وتبدأ مؤسسات الأمة في التراجع والتدهور حتى لا يتبقى منها إلا أطلالها وتغيب جواهرها وأدوارها، وتدخل الأمة في طور الجمود والتخلف، وتبدأ سفينتها في الغرق، وتصبح الأمة قصعة شهية في انتظار أعداءها لالتهامها.
وصلى وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم